سورة الحاقة ( الحلقة الثانية )


  بسم الله الرحمن الرحيم

يقول - تعالى -: \"فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة (13) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة (14) فيومئذ وقعت الواقعة (15) وانشقت السماء فهي يومئذ واهية (16) والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية (17) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (18) فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه (19) إني ظننت أني ملاق حسابيه (20) فهو في عيشة راضية (21) في جنة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية (24) وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه (25) ولم أدر ما حسابيه (26) يا ليتها كانت القاضية (27) ما أغنى عني ماليه (28) هلك عني سلطانيه (29) خذوه فغلوه (30) ثم الجحيم صلوه (31) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه (32)\" {الحاقة: 13- 33}.

 

يقول - تعالى - مخبرًا عن أهوال يوم القيامة: فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة، الصور خَلقٌ عظيمٌ مثلُ البوق، وقد ذُكِرَ في القرآن الكريم، وثبت في السنة أن الله قد وكل به ملكًا من الملائكة المقربين وهو إسرافيل - عليه السلام -، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد أخذ أهبة الاستعداد للنفخ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"كيف أنعم وقد التقم صاحبُ القرن القرنَ، وحنا جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يُؤمَرَ فينفخ؟ \" فكأنّ ذلك ثَقُلَ على أصحابه، فقالوا: فكيف نفعلُ يا رسول الله أو نقول؟ قال: \"قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا\". {صحيح. رواه الترمذي: 2548-42-4}.

والنفخ مرتان: نفخة الإماتة، ونفخة الإحياء، قال - تعالى -: \"ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون\" {الزمر}، وبين النفختين أربعون، كما في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"ما بين النفختين أربعون\" قيل أربعون يومًا؟ قال أبو هريرة: أَبَيت. قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: \"أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت\". {متفق عليه}.

فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وهي نفخة الفزع والإماتة حصل بها تغير عظيمٌ في الكون كله، وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة (14) فيومئذ وقعت الواقعة أي: قامت القيامة، والواقعة ثالث اسمٍ, من الأسماء التي أطلقت على يوم القيامة في هذه السورة، فقد سبق تسميته بالحاقة والقارعة، ثم أطلق عليه هنا الواقعة لتحقّق كونه ووجوده، وانشقت السماء بسبب النفخ فهي يومئذ واهية أي ضعيفة بعد شدّتها، كما قال - تعالى -: فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (17) السماء منفطر به كان وعده مفعولا {المزمل: 17، 18}، فإذا السماء انفطرت وانشقت، بسبب هذه النفخة، فكيف بكم أنتم معشر الناس؟!

وقوله - تعالى -: \"والملك على أرجائها\" يعني: إذا انشقت السماء قامت الملائكة على حافاتها، يردّون الشارد، ويدفعون الهارب، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية من الملائكة، وقد حدّث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عظمة خلقهم فقال: \"أُذِن لي أن أحدّث عن ملك من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام\". {صحيح. رواه أبو داود: 4701، 36-13}. وقوله - تعالى -: \"يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية\" أي: تعرضون على الملك الكبير المتعال، كما قال - تعالى -: \"وعرضوا على ربك صفا\" {الكهف: 48}، \"لا تخفى منكم خافية\"، فالكل مكشوفٌ، مكشوفُ الجسد، وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجبُ الأسرار، وتتعرّى النفوس وتُعَرَّى الأجساد، وتبرز الغيوب بروز الشهود، ويتجرد الإنسان من حَيطته ومن مكره ومن تدبيره ومن شعوره، ويفتضح منه ما كان حريصًا أن يستره حتى عن نفسه، وما أقسى الفضيحة على الملأ وما أخزاها على عيون الجموع! أما عين الله فكلّ خافية مكشوفةٌ لها في كلّ آن، ولكن لعل الإنسان لا يشعر بهذا حقّ الشعور، وهو مخدوع بستور الأرض، فها هو ذا يشعر به كاملاً وهو مجرد في يوم القيامة، وكل شيء بارز في الكون كله، الأرض مدكوكةٌ مسوّاة لا تحجب شيئًا وراء نتوءٍ, ولا بروز، والسماء متشققة واهية لا تحجب وراءها شيئًا، والأجسام معرّاة لا يسترها شيء، والنفوس كذلك مكشوفة ليس من دونها ستر، وليس فيها سر.

فاللهم استرنا بسترك \"يوم تبلى السرائر\" {الطارق: 9}، فإذا عُرِض العبادُ على الله - سبحانه - كانوا فريقين: \"فريق في الجنة وفريق في السعير\" {الشورى: 7}، \"فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه\" (19) \"إني ظننت أني ملاق حسابيه (20) فهو في عيشة راضية (21) في جنة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية\"، والمراد بالكتاب كتاب الأعمال، ولكلِّ عبدٍ, كتاب، كما قال - تعالى -: \"وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا\" {الإسراء: 13، 14}، فلكلّ عبدٍ, كتاب، فإذا حُشر العبادُ تطايرت هذه الكتب حتى يقع كلّ كتابٍ, في يد صاحبه، فمنهم الآخذ بيمينه، وذلك الناجي، ومنهم من تُطوَى شمالُه وراءَ ظهره فيأخذ بها، وذلك الشقي الهالك، فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول لكلّ مَن لقيه: هاؤم اقرءوا كتابيه، وذلك لاعتقاده أنه ليس فيه ما يسوؤه، إني ظننت أني ملاق حسابيه أي كنتُ على يقين أنني محاسبٌ بعملي ومَجزيُّ به، فاتقيت المحارم، واجتهدت في طاعة الله، فالظنّ هنا بمعنى اليقين، لأن الظنّ الذي هو بمعنى الشك لا يسمن ولا يغني من جوع، قال - تعالى -: \"فهو في عيشة راضية\" أي مرضية في جنة عالية أي رفيعةٌ قصورُها، حسانُ صورها، نعيمةٌ دورُها، دائمٌ حبورُها، قطوفها دانية كما قال - تعالى -: \"متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان\" {الرحمن: 54}، وقال - تعالى -: \"ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا\" {الإنسان: 14}، ومع هذا النعيم الحسّي فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب يقولون لهم: \"كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية\" بمعنى \"إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا\" {الإنسان: 22}، والمراد بالأيام الخالية يعني الماضية، وهي أيام الدنيا، وهكذا يحدّثنا الله عن الدنيا ونحن مازلنا فيها، يحدثنا عنها بلفظ الماضي لأن زوالها قريب، وهو متحقق، فهو يحدثنا عنها وكأنها قد زالت فعلاً، وكأن أهل الجنة قد تبوأوا منازلهم فيها، وكأن أهل النار قد تبوأوا منازلهم فيها، حتى لا يطول بالإنسان أملٌ، فيقعده عن خير العمل. وقد أخرج البيهقي عن نافع قال: خرج ابنُ عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحابٌ له، ووضعوا سُفرةً لهم، فمرّ بهم راعي غنم، فسلم فقال ابن عمر: هلم يا راعي، هلم فأَصِب من هذه السُفرة، فقال له: إني صائم، فقال ابن عمر: أتصومُ في مثل هذا اليوم الحارّ الشديد سَمُومه، وأنت في هذه الجبال ترعى هذه الغنم؟ فقال له: إنّي والله أبادرُ أيامي الخالية. فقال له ابن عمر- وهو يريدُ أن يختبر ورعه-: فهل لك أن تبيعنا شاةً من غنمك هذه فنعطيك ثمنها ونعطيك من لحمها فتفطر عليها؟ فقال: إنها ليست لي بغنم، إنها غنم سيدي. فقال له ابن عمر: فما عسى سيّدك فاعلاً إذا فقدها فقلت أكلها الذئب؟ فولّى الراعي عنه، وهو رافعٌ إصبعه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله؟ قال: فجعل ابن عمر يردد قول الراعي، وهو يقول: قال الراعي: فأين الله؟ فلما قدم المدينة بعث إلى مولاه فاشترى منه الغنم والراعي، فأعتق الراعي ووهب منه العلم.

فيا عباد الله، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أخفّ عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.

عن صفوان بن محرز قال: كنتُ آخذًا بيد ابن عمرَ إذ عرض له رجلٌ فقال: كيف سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"إن الله يُدني المؤمنَ فيضعُ عليه كنفَه ويسترُه من الناس ويقرِّره بذنوبه، ويقول له: أتعرفَ ذنب كذا؟ أتعرفُ ذنب كذا؟ أتعرفُ ذنب كذا؟ حتى إذا قرّره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يُعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين\".

\"وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه (25) ولم أدر ما حسابيه، فما كان يظن يومًا أنه محاسب بأعماله، كما قال - تعالى -: وأما من أوتي كتابه وراء ظهره (10) فسوف يدعو ثبورا (11) ويصلى سعيرا (12) إنه كان في أهله مسرورا (13)\" إنه ظن أن لن يحور أي: كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله ولا يعيده بعد موته، فلما رأى ما لم يحسب حسابه لم يجد إلا أن يتمنى الموت بعد أن كان الموت أكره إليه من كل شيء، فقال: يا ليتها كانت القاضية التي تنهي وجوده أصلاً فلا يعود بعدها شيئًا، ثم تحسّر على عدم انتفاعه بماله ولا جاهه، فقال: ما أغنى عني ماليه (28) هلك عني سلطانيه، وهذه حقيقة طالما ذكّر بها القرآن الأثرياء والوجهاء، ولكنهم نسوها أو تناسوها، قال - تعالى -: \"إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك هم وقود النار\" {آل عمران: 10}، وقال - تعالى -: \"وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10) وما يغني عنه ماله إذا تردى {الليل: 18- 19}.

وقال - تعالى -: \"وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون\" {سبأ: 37}.

ومِن دعاء الخليل إبراهيم - عليه السلام -: \"ولا تخزني يوم يبعثون (87) يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم\" {الشعراء: 87- 89}.

وأما قوله: \"هلك عني سلطانيه\" فقد يُراد بالسلطان الجاه، فيكون تحسٌّرًا على عدم انتفاعه بجاهه في هذا اليوم العصيب، وهذه أيضًا حقيقة طالما نبه عليها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فلقد كان يهلل بعد الصلاة بهذه الكلمات: \"لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد\". {متفق عليه}.

والجدّ هو الحظّ والغنى والعظمة والسلطان، أي: لا ينفع ذا الحظّ في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان منك حظّه، أي: لا ينجيه حظّه منك، وإنما ينفعه وينجيه العمل الصالح.

وقد يرادُ بالسلطان الحجةُ والبرهان فيكون المعنى: هلك عني سلطانيه أي: بطلت حجتي، وضاع برهاني، وثبت خطئي، كما قال - تعالى -: \"والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد\"، وبينما تنطلق منه هذه الحسرات في أسى وحزن إذ قرع سمعَه صوتُ الجبار - سبحانه - وهو يقول لملائكته: \"خذوه فغلوه (30) ثم الجحيم صلوه (31) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه\"، وما إن يقول الجبّار خذوه حتى يبتدره سبعون ألف ملك، الملك منهم يقول هكذا فيلقى سبعين ألفًا في النار، فيجعلون الأغلال في عنقه، ثم يسلكونه في سلسلةٍ, ذرعها سبعون ذراعًا- وكان ذراعٌ واحدٌ يكفيه- فتسلك في دبره حتى تخرج من منخريه، حتى لا يقوم على رجليه، أجارنا الله وإخواننا المسلمين. وللحديث بقية بإذن الله.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply