وقفات مع آية ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات )


 بسم الله الرحمن الرحيم

قال - تعالى -: ((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز)) [الحديد/ 25].

 

 معاني الألفاظ:

البينات: المعجزات، والحجج الباهرات والدلائل القاطعة التي تؤكد صحة ما يدعو إليه الرسل. [ابن كثير].

 

الميزان: مستعار للعدل بين الناس في إعطاء حقوقهمº لأن مما يقتضيه الميزان وجود طرفين يراد معرفة تكافئهما، قال - تعالى -: ((وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل))، ويكون الميزان بهذا هو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة. [ابن عاشور، ابن كثير].

 

القسط: العدل في جميع الأمور، فهو أعم من الميزان المذكور لاختصاصه بالعدل بين متنازعتين، وأما القسط فهو إجراء أمور الناس على ما يقتضيه الحق. [ابن عاشور].

 

بأس شديد: السلاح كالسيوف والحراب وغيرها من الآلات التي يستخدمها الناس للقتال [ابن جرير].

 

منافع للناس: ما ينتفع الناس به في معاشهم من آلات كأدوات الحرث والحياكة وما لا قوام للناس بدونه.

 

 يخبر الحق - جل وعلا - في هذا النص القرآني أنه أرسل الرسل وأيدهم بالحجج والبراهين القاطعة الدالة على صحة ما يدعون إليه وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. ولما علم - سبحانه - أن هناك نفوساً متمردة غليظة لا تستجيب لداعي الحق الذي جاء به الرسل بمجرد السماع للدلائل والبراهين، أنزل الحديد وشرع الجهاد لكي تتأدب هذه النفوس الباغية ولكي يصلح أمر الناس ويعملوا بالأوامر والنواهي التي جاءت بها كتب الله، يقول الطاهر بن عاشور [1]: \"وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق راجع إلى ما تضمنه الخبر من ذكر ما في إرسال رسل الله وكتبه من إقامة القسط للناس، ومن التعريض بحمل المعرضين على السيف إن استمروا في غلوائهم\". ا.هـ

 

وبإمعان النظر في واقع المجتمعات البشرية غابرها وحاضرها نجد أن استمرار حضاراتها وسيادة قيمها ومبادئها لا يتحقق إلا بأمرين اثنين وهما: نظم عادلة منبثقة عن قوانين يخضع لها الجميع، ووجود قوة عسكرية ومادية تحمي تلك الأنظمة والقوانين، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: ((ليقوم الناس بالقسط))، وذلك باتباع الأوامر والنواهي التي أخبر بها رسل الله لأن الذي جاءوا به الحق الذي ليس وراءه حق [2]، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وذلك بأن جعل الله الحديد رادعاً لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه [3]، كما جعله مصدراً لكثير من الصناعات التي لا تستقيم حياة الناس إلا بها.

 

وإلى أهمية سيادة العدل في جميع ما يحكم الناس من قوانين ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً يحسن أن يكتب بماء من ذهب، فكتب قائلاً: [4] \"وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: \"إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة\". ويقال: \"الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام\". وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم\". فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة\". ا.هـ

 

لعل هذا الذي ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - يفسر لنا بعض مظاهر استقرار الأنظمة في بلاد الغرب رغم كفرها، ففيها من العدل واحترام آدمية الإنسان ما هو مفقود في البلاد المسلمة، التي يفرض المتسلطون فيها نفوذهم بقوة الحديد والنار، لكن هذا لا يجدي شيئاً لأن عامل الاستقرار الأساسي ألا وهو العدل غائب عند أولئك الظلمة الأشرار، فمتى يدرك هؤلاء أمور السياسات الرشيدة ليريحوا ويستريحوا؟ أم أنه كتب عليهم أن لا ينتبهوا ويفيقوا من غيهم إلا بعد فوات الأوان؟.

 

وإذا كان العدل مهماً في حياة البشر، فإن حماية الأنظمة التي ينبثق عنها لا تقل عنه أهمية، ولهذا نجد أن الرب - سبحانه - وتعالى - بعد ذكر هذا المقصد من بعثة الأنبياء أتبعه بذكر الحديد، يقول القاسمي [5] - رحمه الله -: \"فإن قيل: الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله؟ فالجواب. أن بينهما مناسبة تامة، لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا، حتى ينالوا السعادة في الأخرى. ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة. ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم. ومن تمرد وطغى وقسا يضرب بالحديد، الرادِّ لكل مَريد. وإلى الأولين أشار بقوله: ((وأنزلنا معهم الكتاب والميزان)) فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة. وإلى الثالث أشار بقوله: ((وأنزلنا الحديد))، فكأنه قال: أنزلنا ما يهتدي به الخواص، وما يهتدي به أتباعهم، وما يهتدي به من لم يتبعهم، فهي حينئذ معطوفة، لا معترضة لتقوية الكلام كما توهم، إذ لا داعي له، وليس في الكلام ما يقتضيه، بل فيه ما ينافيه\". ا.هـ

 

ونقل القاسمي كلاماً للقاشاني ذكر فيه هذا الأخير: \"... وهي الأمور [البينات، الكتاب، الميزان والقسط] التي بها يتم الكمال النوعي، وينضبط النظام الكلي، المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد، إذ الأصل المعتبر، والمبدأ الأول هو العلم والحكمة. والأصل المعول عليه في العمل، والاستقامة في طريق الكمال، هو العدل. ثم لا ينضبط النظام، ولا يتمشى صلاح الكل إلا بالسيف والقلم اللذين يتم بهما أمر السياسة، فالأربعة هي أركان كمال النوع، وصلاح الجمهور... \". ا.هـ

 

فكم فرط المسلمون في الأزمنة المتأخرة في صناعة الحديد وما يستخرج منه من معدات عسكرية ومدنية؟ وفي المقابل نجد أن أعداءهم من أرباب الباطل اليوم يتبجحون بل ويتنافسون في الاستباق إلى امتلاك الأسلحة الفتاكة واتخاذها رادعاً لكل من يحاول زعزعة القيم والنظم السائدة. فعندما هاجم الجيش الروسي المبنى الذي كان به المناوئون ليلتسن سئل الرئيس الأمريكي عن هذا الصنيع فأجاب: (الديمقراطية لابد لها من أسنان)، فإذا كانت الديمقراطية بحاجة إلى أسنان فإن الحق لابد له من شوكة تحميه وتفرض نفوذه على العاتين.

 

إن تفريط المسلمين في هذه الصناعات مرتبط بركونهم إلى الدنيا وتفريطهم في أمر الجهاد والارتماء في أحضان أعدائهم من اليهود والنصارى والصليبيين، وإلا كيف يعقل أن يكون هذا هو حال أمة في الضعف والهوان ورسولها نبي المرحمة والملحمة ويوصف بالضحوك القتال وينقل لنا أصحابه قوله - عليه السلام -: [6] \"بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم\".

 

فمتى يستفيق المسلمون لهذا ويعملوا السلاح في محله ولا يوجهونه إلى صدور الصالحين المصلحين كما يفعل الحكام اليوم. يقول الحق في نهاية الآية: ((وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز)) فيه إشارة إلى ضرورة استعمال الحديد في مجاهدة أعدائه وتسخير صناعاته المدنية في نشر الفضيلة والقضاء على الفقر لا في نشر الرذيلة وتبديده في غير المجالات المفيدة للمجتمع. يقول الطاهر بن عاشور [7]: \"والمقصود من هذا لفت بصائر السامعين إلى الاعتبار بحكمة الله - تعالى - من خلق الحديد وإلهام صنعه، والتنبيه على أن ما فيه من نفع وبأس إنما أريد به أن يوضع بأسه حيث يستحق ويوضع نفعه حيث يليق به لا لتجعل منافعه لمن لا يستحقها مثل قطاع الطريق والثوار على أهل العدل، ولتجهيز الجيوش لحماية الأوطان من أهل العدوان، وللادخار في البيوت ولدفع الضاريات والعاديات على الحرم والأموال - لا ليجعل بأسه لاخضاد شوكة العدل وإرغام الآمرين بالمعروف على السكوت، فإن ذلك تحريف لما أراد الله من وضع الأشياء النافعة والقارة... \". ا.هـ

 

- - - - - - - - - - - - - - - - 

[1] - التحرير والتنوير 27/415.

[2] - ابن كثير 4/315.

[3] - نفس المصدر.

[4] - مجموع الفتاوى 28/146.

[5] - محاسن التأويل /5639.

[6] - ابن كثير 4/315.

[7] - التحرير والتنوير 27/417.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply