وقفات مع آية


  بسم الله الرحمن الرحيم

قال - تعالى -: ((الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم، إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)) [آل عمران: 173 - 175 ].

 

هذه الآيات من سورة آل عمران التي ذكر الله - تعالى - فيها تفصيل غزوة أحد وبسط فيها متعلقاتها.

 

كان يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص اختبر الله به المؤمنين ومحص به المنافقين ممن كان يظهر الإيمان بلسانه وهو مستخف بالكفر في قلبه.

 

كان يوماً أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته.

 

بعد البلاء والمصيبة التي حصلت للمسلمين يوم أحد حيث قتل سبعون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبعد القرح الذي أصابهم دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخروج معه كرة أخرى، رغم الجراح وشدة الكرب ولم يأذن لأحد تخلف عن تلك الغزوة أن يخرج معه، فاستجابوا لدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - رغم ما بهم - وخرجوا إلى حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة، وأقاموا بها ثلاث أيام.

 

ولما بلغ ذلك أبا سفيان ومرّ عليه ركب من عبد القيس يريدون المدينة فجعل لهم حمل بعير من زبيب على أن يثبطوا المسلمين عن اتباع المشركين فخوفوهم بهم، فقال المسلمون: حسبنا الله ونعم الوكيل.

 

ولسنا بصدد الحديث عن تفصيل غزوة أحد وما كان فيها، فإن هذا موضعه في كتب السيرة النبوية.

 

لكن نصوص القرآن لا تعرض الحوادث عرضاً تاريخياً مسلسلاً بقصد التسجيل إنما تعرضها بقصد العبرة والتربية واستخلاص القيم الكامنة رواء الأحداث وكذلك الحال في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إذ هي للتأسي والاقتداء به والاعتبار بكل ما يجري من أحداث ((فاعتبروا يا أولي الألباب)).

 

كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربي أمة، والأمم تربى بالأحداث وبرصيد التجارب التي تتمخض عنه الأحداث.

 

(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [الأحزاب:21].

 

خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى مع أصحابه رغم أنهم مثخنون بالجراح ونزل فيهم البلاء، خرج بهم وحدهم ولم يأذن لمن تخلف عن تلك الغزوة أن يخرج معه هذه المرة، وفي ذلك من الحكم والفوائد ما الله به عليم. من ذلك:

 

 - أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يرجع الكفرة المشركون وعندهم شيء من مشاعر النصر فيزداد غرورهم فيبقون على عتوهم وكفرهم.

 

بل أراد أن يشعرهم أنهم لم ينالوا من المسلمين منالاً، فالمسلم لا ييأس ولا يقنط من رحمة الله، بل هو على ثقة بنصر الله لعبادة الصالحين.

 

 - ومنها تربية المسلمين على عدم الشعور بالضعف، فالنصر حليفهم بإذن الله رغم المصائب والنكبات ((ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين)) والذي حصل في أحد إنما هو تجربة وابتلاء وليس هو نهاية المطاف.

 

 - ومنها تربية المسلمين وإشعارهم بحقيقة الأمر وهو أن عقيدة الإسلام هي كل شيء في نفوس أصحابها، وليس لهم من غاية في حياتهم سواها، هذا الشعور وهذا الإحساس إلى نفوس الناس جميعا على اختلاف مذاهبهم.

 

((الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)) [آل عمران:173].

 

إن نصوص القرآن الحكيم، وتعاليم الإسلام الذي هو دين الفطرة الدين الذي ارتضاه الله للناس جميعاً، وتعاليمه لا تقف عند حدود أشخاص بأعينهم فتقتصر عليهم، أو وقائع معينة، بل إنها تتجاوز حدود الزمان والمكان والأشخاص، خالدة مخلدة ليبقى هذا الدين ظاهراً على الدين كله ولو كره الكافرون، وليتم الله نوره ولو كره المشركون.

 

((الذين قال لهم الناس)) ((إن الناس قد جمعوا لكم)).

ذكر المفسرون أن المراد بقوله ((الذين قال لهم الناس)) أنهم ركب من عبد القيس أو أنه نعيم بن مسعود الأشجعي، أو أنهم المنافقون لما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجهز، نهوا المسلمين عن الخروج وقالوا: إن أتيتموهم لم يرجع منكم أحد.

 

وأن المراد بقوله ((إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم)) يعني أبا سفيان وأصحابه.

 

إن العبرة في القرآن الكريم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقد تتكرر الأحداث والوقائع في أزمان مختلفة بعد الواقعة التي نزل بشأنها النص الحكيم وقد تختلف أماكن وقوع الحادثة، وكذلك الأشخاص، لكن العبرة بنصوص الكتاب الحكيم دائمة دوام الحياة البشرية.

 

وفي هذا النص الحكيم يقف القارئ إذا تلاه وتدبره أمام ثلاث فئات من الناس، مؤمنه، وكافرة، وفئة المنافقين.

 

الأولى فئة ممدوحة هم أولياء الله الذين استجابوا لله وللرسول وأطاعوا الله والرسول، يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، وبالوالدين إحساناً. لا يقربون الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يقربون مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، يوفون الكيل والميزان بالقسط يوفون بعهد الله إذا عاهدوا، لا يخافون في الله لومة لائم، وإذا قيل لهم لا إله إلا الله لا يستكبرون، يسبحون الله وله يسجدون.

 

لا يخيفهم التهديد والوعيد الذي يصدر من أولياء الشيطان، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً. وإذا جاء تهديد أو وعيد قالوا ((حسبنا الله ونعم الوكيل))، فالله يكفينا أمر الكفار، ويكف عنا شرهم. والله وكيلنا ورازقنا وهو الذي يتولى أمرنا.

 

((حسبنا الله ونعم الوكيل))هي دعوة إبراهيم - عليه السلام - حينما ألقي في النار فكانت برداً وسلاما عليه.

 

((حسبنا الله ونعم الوكيل)) هي دعوة من كان على ملة إبراهيم - عليه السلام -.

لقد قالها محمد - صلى الله عليه وسلم - وقالها أصحابه يوم أحد، ((فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء)).

 

((حسبنا الله ونعم الوكيل)) هي دعوة كل من اتبع هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - واستن بسنته إلى يوم القيامة.

 

من قال ((حسبنا الله ونعم الوكيل)) جازماً من قلبه لا يخاف التهديد ولا الوعيد لماذا؟

 

ذلك بأن الله - تعالى - قال ((إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور)) [الحج:38].

وقال: ((وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)) وقال: ((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً)) وقال: ((ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)) وقال: ((قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث)).

 

وأما الفئة الثانية والثالثة، الكفرة والمنافقون، فثنتان مذمومتان ليس لهما بقاء ولا استقرار ((مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد)) [إبراهيم:18].

 

((ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار)) [إبراهيم:28].

 

الكفرة هم أولياء الشيطان، الذي عصى أمر الله وتكبر ((وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً، قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً، قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً، واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلاً)) [الإسراء:61 - 65].

 

 إن سبب نقمة الكفار والمشركين على المؤمنين أنهم آمنوا بالله ((قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون، قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل)) [المائدة:59 - 60] ما ذنب المسلمين عند الكفار ((إلا أن يقولوا ربنا الله)).

 

وأما الفئة الثالثة فهي أشد خطراً وأكثر ضرراً على المسلمين، بينهم وبين الكفرة مودة وتعاون، يخادعون الله والذين آمنوا، يتربصون بالمسلمين الدوائر، قال - تعالى - عنهم: ((وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً)).

 

وقال عنهم: ((إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً)) [النساء: 142 - 143].

 

ويتخذون اليهود والنصارى أولياء فقال عنهم: ((فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)) [المائدة:52].

 

أليست هذه النصوص واضحة جلية، إن الصفوف تتمايز في كل يوم وتتضح سبل الضلالة، فتختلف عن سبيل المؤمنين.

 

إن التاريخ يذكر لنا مواقف الرافضة والباطنية والمنافقين منذ مئات السنين إلى يومنا هذا.

 

ألم يقفوا مع التتار أيام سقوط بغداد سنة 656هـ؟

 

ألم يقفوا مع التتار ومع النصارى في بلاد الشام أيام شيخ الإسلام ابن تيمية؟

 

ألم يستوزروا اليهود ويبعدوا المسلمين؟

 

فأين هم من الوطنية أو الشرف والكرامة؟

 

لقد هدمت بيوت على رؤوس أهلها ولا يملكون من أمرهم شيئاً!

 

بل هدمت مدن بكاملها!

 

أليس هذا هو الإرهاب بعينه؟!

 

لقد تحطمت قبل بضعة عشر عاماً طائرة وفيها الرئيس الباكستاني ضياء الحق ومعه كبار ضباط الجيش، أليس هذا من الإرهاب؟.

 

لقد تحطمت قبل فترة وجيزة الطائرة المصرية في طريقها من نيويورك إلى القاهرة وعلى متنها أكثر من مائتي راكب فيهم من الضباط الكبار. ثم اتهموا بالانتحارº لأنهم شهدوا عند تيقنهم من الموت بشهادة لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله أليس هذا من الإرهاب.

 

إن من يسل سيف البغي يقتل به.

 

إن الأفعى تقتل نفسها من شدة غيظها على القنفذ الذي تضربه بجسمها ورأسها، فسبحان الله الواحد القهار.

 

((فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم)).

 

قال الرازي: هذه الواقعة - أحد - تدل دلالة ظاهرة أن الكل بقضاء الله وقدره وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحد والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمين عن الآخر فإنه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف، ثم إنه - سبحانه - قلب القضية هاهنا فأودع قلوب الغالبين وهم المشركون الخوف والرعب وأودع قلوب المغلوبين القوة والحمية والصلابة وذلك يدل على أن الدواعي والصوارف من الله - تعالى - وإنها متى حدثت في القلوب وقعت الأفعال على وفقها![1]؟ أ. هـ.

 

((إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)).

 

إن الشيطان هو الذي يحاول أن يعلي شأن أوليائه ويلبسهم لباس القوة والقدرة ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول وأنهم يملكون النفع والضر وليحقق بهم الشر والفساد وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب، فلا يفكر أحد في الانتقاض عليهم ودفعهم عن الشر والفساد.

 

نسأل الله أن يجعل كيد الخائنين في نحورهم وأن يجمع شمل المسلمين ويقوي شوكتهم وأن ينصرهم على عدوهم، وأن يجعلنا هداة مهدين غير ضالين ولا مضلين. سلماً لأوليائه وحرباً على أعدائه. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] - التفسير الكبير 3/ 434.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply