القرآن والأرض المقدسة


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

إنه لا توجد أمة قديماً وحديثاً حملت الى العالم لواء المكر والخبث ولا يوجد عنصر من البشر على مدار التاريخ طغى في الأرض وأفسد فيها وأوقع الفتنة مثل العنصر اليهودي.

وبما أن القرآن الكريم أعظم وثيقة وأوثق مصدر تاريخي على الإطلاق، فقد قال - تعالى - في سورة المائدة في الآيات (20 - 26) (وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ يَا قَومِ اذكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ جَعَلَ فِيكُم أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُلُوكًا وَآتَاكُم مَا لَم يُؤتِ أَحَدًا مِن العَالَمِينَ * يَا قَومِ ادخُلُوا الأَرضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُم وَلا تَرتَدٌّوا عَلَى أَدبَارِكُم فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَومًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَدخُلَهَا حَتَّى يَخرُجُوا مِنهَا فَإِن يَخرُجُوا مِنهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِن الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادخُلُوا عَلَيهِم البَابَ فَإِذَا دَخَلتُمُوهُ فَإِنَّكُم غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَدخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذهَب أَنتَ وَرَبٌّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَملِكُ إِلاَّ نَفسِي وَأَخِي فَافرُق بَينَنَا وَبَينَ القَومِ الفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيهِم أَربَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرضِ فَلا تَأسَ عَلَى القَومِ الفَاسِقِينَ).

 

تتحدث هذه الآيات عن قصة بني إسرائيل مع نبيهم موسى - عليه السلام - الذي قادهم بعد أن نجاهم الله من بطش فرعون مصر وظلمه إلى حيث أمره الله أن يتوجه، ويأمرهم بدخول الأرض المقدسة. وإذا حاولنا تحليل القصة وتفسيرها نرى أن نداء موسى - عليه السلام - قد سبق بتذكيرهم بأنعم الله على بني إسرائيل وأنه - تعالى - لم يبعث في أمة من الأمم مثلما بعث لبني إسرائيل من سعة في الرزق وتنعم السادة والملوك إضافة إلى أنه جعل فيهم أنبياء ورسلاً وأنعم عليهم من خوارق العادات ففرق لهم البحر ونجاهم من فرعون وأنزل عليهم المن والسلوى.

نعم لقد جاءت هذه المقدمة حتى تكون شحنة دافعة تجعلهم يستجيبون لنداء نبيهم وأمره في دخول الأرض المقدسة بعزم الرجال واستعداد الكماة والأبطال.

وهذا برأينا سابقة قرآنية في أساليب شحن النفوس وشحذ العزائم في المجال العسكري، ولكن ماذا نقول فيمن عقيدتهم هشة وثقتم في الله ضعيفة وجبلتهم خسيسة ونفسهم خبيثة غير ما سوف تخبرنا به الآيات القرآنية من مواقف تبرز ملامح غير إنسانية وتركيبة عقيمة لصنف من البشر ليسوا أهلاً للتكريم بل للذل والخزي والمهانة.

فهذا موسى - عليه السلام - يطلب من قومه بأن يجاهدوا في سبيل الدخول إلى الأرض المقدسة وأخذها من الوثنيين، ولكنه ولكونه متفهم لحقيقة النفسية اليهودية المجبولة على الجبن يحذرهم من النكوص والارتداد تحت طائلة الحرمان من نعمة الإقامة في هذه الأرض والتمتع بخيراتها وفقاً لدستور الله الذي يقضي بضرورة الجهاد والتضحية لكل من رام النصر على أعدائه وفتح بلادهم وهو نفس السبيل لحماية الأوطان بأغلى الأثمان.

إن ظن موسى بقومه كان في محله حيث أنهم جبنوا عن لقاء أعدائهم وداخلهم الخوف ورفضوا تطبيق وتنفيذ أمر الله واتباع دستوره لنيل النصر بل (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَومًا جَبَّارِينَ) طويلي القامة ضخام الجثة أشداء لا قبل لنا بلقائهم (وَإِنَّا لَن نَدخُلَهَا حَتَّى يَخرُجُوا مِنهَا فَإِن يَخرُجُوا مِنهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) تستثمر الأرض دون أن نضحي في سبيلها بقطرة دم.

ويحدث سفر العدد عن هذا الأمر بأن بني إسرائيل وقد تذمروا من أمر موسى لهم بدخول الأرض المقدسة فبكوا وتمنوا لو أنهم ماتوا في أرض مصر أو في البرية وطلبوا من موسى الرجوع إلى مصر رغم ما يلاقوه هناك من ظلم واضطهاد وتعذيب وإذلال. سفر العدد الفصل 14.

إن هذا الموقف لم يكن يروق لاثنين ممن فهموا طبيعة الأمر الإلهي على أنه فيه صالح بني إسرائيل وخيرهم، فراحوا يفهموا قومهم بأن الله الذي أمركم بالدخول قادر على أن يكثركم في عيون أعدائكم ويتم نعمته عليكم بالنصر والتمكين في الأرض وأن تفويض الأمر لله مقدمة لنصر كبير ونصر الله يحتاج أساساً إلى الأخذ بالأسباب والتضحية بالمال والنفس في سبيل الهدف وأن الله مانح نصره لمن يريده بإطاعة أمره واتباع هداه.

إنه ورغم كل هذه المحاولات إلا أن بني إسرائيل ظلوا على رأيهم بعدم التضحية والدخول وهذا أمر يمكن تفسيره على أنهم ألفوا الذل والمهانة والمسكنة التي طبعهم عليها فرعون وكان قرارهم قاطعاً وصريحاً بأن (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَدخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذهَب أَنتَ وَرَبٌّكَ) بما وهبك من خوارق العادات (فَقَاتِلا) هؤلاء القوم الأشداء حتى يخرجوا وعندها ندخل الأرض ونستعمرها.

فما كان من موسى - عليه السلام - إلا أن (قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَملِكُ إِلاَّ نَفسِي وَأَخِي) هارون فكلانا طائعان لك مستعدان لتنفيذ أمرك إن أمرتنا بدخول الأرض دخلناها ولم نتردد ولم نبالِ بمن فيها، (فَافرُق) وافصل في الحكم (بَينَنَا وَبَينَ القَومِ الفَاسِقِينَ) ولا تعاقبنا بذنوبهم فجاء الرد الإلهي بأن (قال) الله لموسى (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيهِم أَربَعِينَ سَنَةً) لن يدخلوها وإنهم سوف (يَتِيهُونَ فِي الأَرضِ) لا يدركون الطريق الموصل إليها رغم قربهم منها، وفعلاً كان التيه المعروف في سيناء (فَلا تَأسَ) يا موسى ولا تحزن (عَلَى القَومِ الفَاسِقِينَ) لأنهم استحقوا هذا التأديب الإلهي، وهذا الوصف لمن يقدم على عمل محرم ويخرج عن طريق الحق، فكلمة فاسق خير وصف لبني إسرائيل لما لكلمة الفسوق من شمولية.

والفاسقون وصفهم الله بصفات ثلاثة هي:

أولاً: نقض العهد الذي يؤدي إلى اختلال النظام الكوني وعموم الفوضى في جميع الشؤون وانتزاع الثقة بين الناس في جميع معاملاتهم وفقدان التعاون في المحافظة على مرافق الحياة.

ثانياً: قطع ما يجب أن يوصل من روابط المودة والإخاء بين المسلمين تخصيصاً والناس تعميماً وحلول العداء والبغض والكراهية محل الوئام والولاء والتعاضد.

ثالثاً: الإفساد في الأرض بارتكاب المحرمات صغيرها وكبيرها فيعم الخراب والدمار وتسود الفوضى.

إن هذه الصفات أشد من الكفر بعينه، فالكفر عدم إيمان بالله لكن الفسق فهو إضافة إلى أنه عدم إيمان بالله فإنه نقض للعهد واستحلال عما حُرم شرعاً وعرفاً وقانوناً.

إنه وانطلاقاً من هذا جاءت الآيات القرآنية تحذرنا نحن المسلمين أشد التحذير من اتخاذ اليهود أولياء ونصراء وعدم الرضوخ لنفوذهم وسلطانهم والائتمار بأوامرهم والاعتماد على نصرتهم وحمايتهم، إنه حذرنا منهم ومن النصارى كذلك بعدم الارتباط بعجلتهم في أحلاف عسكرية ولكننا رضينا أن نكون تحت حمايتهم ورحمتهم وهذا ما حصل فاستعمرت بلادنا واستغلت ثرواتنا، فليس هناك من بلد عربي وإسلامي إلا والقواعد الأجنبية تجثم على أرضه تحت شعارات هي في الحقيقة لغم لذات البلد الذي زرعت فيه، وهذا طبعاً جزاء الإعراض عن أمر الله وعدم الالتزام بتشريعه، فهذه القواعد العسكرية والشركات الاستثمارية والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والاستعمارية جاءت نتيجة عدم الأخذ بالآية 50 من سورة المائدة القائلة (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ, وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللَّهَ لا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ)، نعم لا يهدي القوم الظالمين أنفسهم باستعمال عقولهم في غير ما خلقت له من طلب الهداية واستمداد القوة والعزة من غير مانحها وهو الله.

إنه وبعد هذا التفسير الإجمالي لهذه الآيات نستطيع أن نستخلص عدة دلالات وعبر هامة تكشف عن حقائق منها النفسية غير السوية والنزعة الإجرامية الكامنة في اليهود، وكذلك حقيقة هذه الأرض المقدسة، وهذا ما يتضح فيما يلي من دلالات ووقفات وعبر:

إن هذه الآيات كما قلنا تظهر طبائع اليهود الخائرة والمنهزمة وعقيدتهم الهشة وضعف ثقتهم بالله رغم كل النعم التي خصهم بها.

إن الأمر بالدخول وما يحمل من واجب التضحية ختم بالنهي عن الارتداد والنكوص عن طاعة الله، وفي هذا تلميح من موسى - عليه السلام - عن النفسية المريضة وما يتمتع به قومه من جبن وإشارة منه - عليه السلام - بأن النكوص والارتداد والرفض هي الرد الطبيعي لقومه على أمره بالدخول وأنه - عليه السلام - لن يتفاجأ بمثل هذا القرار.

 

الرفض على التأييد في دخول الأرض المقدسة تتجلى فيه حقيقتان:

أولاً: إن دخول الأرض المقدسة يجب أن يقوم أساساً على طاعة الجند للقائد ومتى تغيرت هذه القاعدة وساد الفساد والفوضى عوقب القوم بالحرمان وهذا فعلاً ما حصل مع اليهود، حيث دخلوا فلسطين بعد موسى بعزيمة المقاتلين ولما تمكنوا فيها تقاذفتهم موجة النزاعات وتفشى فيهم الفساد فكان أن جوزوا بالإخراج والتشتيت. وإذا كانت بريطانيا لعبت دورها في إعادتهم ومكنتهم في فلسطيننا مرة أخرى فإننا على ثقة بأنهم سوف يلاقون نفس المصير من التشتيت والتمزيق وخاصة بعد أن توغلوا وأمعنوا في الظلم والفساد والفتنة.

ثانياً: إن الرفض هذا يمكن النظر إليه من منظار آخر وهو أن تأييدهم بعدم الدخول وحرمانهم فعلاً من الدخول لهو دليل واضح على أن الأرض المقدسة طاهرة بترابها فلزاماً أن تكون طاهرة بأهلها، وفي اللحظة التي يفسد فيها عمّارها تكتب عليهم اللعنة ويفرض عليهم التشرد والقتل والهلاك والدمار، وحيث أن تنفيذ الأمر الإلهي هذا في الاقتصاص من دعاة الفتنة ومروجي الفساد يحتاج إلى تسليط أقوام يملكون القوة، فإنه بات من الضروري والواجب على الأمة الإسلامية وهي تحمل راية الحق والدفاع عن الحق والدعوة إلى الحق والعمل بالحق أن توحد صفوفها وكلمتها وأمرها وأميرها استعداداً لتخليص الأقصى الجريح وفلسطين المغتصبة وبيت المقدس المطعون من دنس المحتلين.

إن الأمر بالدخول ليس وعداً بل أمر وتكليف بالجهاد، وهذا ما يخالف طبائع اليهود ونفسيتهم الرافضة لمبدأ التضحية.

إن في الأمر إذناً بالدخول وليس إذناً بالتملك إذ ليس كل من دخل أرضاً ملكها وحتى أنه ليس كل من سكن أرضاً ملكها.

العقلية غير الناضجة والسلوك غير السوي يقفان وراء موقفهم وسوء أدبهم مع نبيهم وتجرئهم على الذات الإلهية.

فهمهم عن طبيعة النعم التي أنعم الله بها عليهم واعتبارها عنوان محبة جعلهم يدعون بأنهم أحباء الله وأبناؤه وهذا أمر مردود عليهم لأن نعم الله ضرب من ضروب الابتلاء والامتحان والفتنة، وليست دوماً عنوان الرضا والمحبة. فكما أننا نعتبر المصائب ضرب من ضروب الابتلاء والامتحان والفتنة وليست دوماً عنوان الغضب الإلهي والنقمة فكذلك الأمر بالنسبة للنعم وفي كليهما نحتاج إلى الشكر والصبر ومراجعة النفس ومحاسبتها.

إن كل من قال (إِنَّا لَن نَدخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا) لم يدخل بيت المقدس فعلاً وفي هذا دليل آخر على أن الوجود الفلسطيني استمر ولم ينته أبداً.

إن كلمة (كتب) لا تعني الوعد بل الأمر والفرض إذ لو كان المعنى الوعد لما رفضه من جبلوا على كره التضحية ولما جادلوا نبيهم موسى في الأمر فهم فهموا أنها أمر يحمل معه تكليفات واستحقاقات.

إن من لوازم الدخول إلى الأرض المقدسة التضحية والقتال كما وأن من لوازم تحرير الأرض المقدسة من المفسدين فيها التضحية والقتال كذلك.

 

إن معاقبتهم بالتيه ووصفهم بالفسوق والخروج عن طريق الحق ينسجم وموقفه الرافض للأمر الإلهي القاضي في لزوم الجهاد والقتال ضد الوثنيين القائمين في فلسطين. ودليلنا على أن التيه يعني الحيرة وعدم الاهتداء فإننا نرى أن فرض التيه عليهم يعني أنهم ظلوا أربعين سنة لا قرار لهم رغم استمرارهم في البحث، فقد ورد أنهم كانوا يدورون في مساحة محدودة فيصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا وكان الله - تعالى - يحول الأرض في الليل فيصبحون على ما أمسوا عليه والله أعلم حتى امضوا الأربعين سنة بالكمال والتمام.

ومن الحقائق البارزة في هذه الآيات أن بيت المقدس لم تكن خالية من السكان، فالجبابرة والعرب الذين كانوا فيها قبل دخول العبرانيين يشكلون إسقاطاً لادعاء بني إسرائيل القائل بأن فلسطين (بيت المقدس أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) وأنهم أول من سكن هذه البلاد وعمّرها.

إن في ذكر الفسوق مرتين في هذه الآيات تنبيه إلى أهمية الجهاد في قضية الإيمان، والنعمة الإيمانية والدنيوية ينبغي أن يقابلها جهاد وتضحية، وأن التخلي عن الجهاد والتضحية كطريق للحفاظ على النعم فسوق يستوجب العقاب. وبنو إسرائيل وهم ينقضون الميثاق والعهد المقطوع عليهم في نصرة أنبيائهم وطاعتهم استحقوا لقب الفسوق وعقوبة الذلة والمسكنة والتيه والتشتيت في الدنيا وألزمهم الله - تعالى - لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود وجعلهم عبرة في الوجود.

إن في قوله - تعالى -: (فَافرُق بَينَنَا وَبَينَ القَومِ الفَاسِقِينَ) فوائد ودلالات عظيمة تتجلى في أن موسى - عليه السلام - عندما رأى من قومه ما رأى من العصيان والصدود وعار به يلحقه وأخاه بما لحق القوم من عقاب سواء أكان في الدنيا أم الآخرة.

وهناك رأي يرى أن معنى فافرق محمول على الآية (فِيهَا يُفرَقُ كُلٌّ أَمرٍ, حَكِيمٍ,) بمعنى يقضي، أي أن موسى دعا ربه بأن يقضي الله لهما بالعصمة عن العصيان الذي ابتلى به قومه وهناك من يرى أن الطلب ينصرف أثره في جزاء الآخرة بأن يجعله الله وأخاه في الجنة ولا يجعلهما مع القوم الفاسقين معذبين في النار، ولكن رغم كل هذه اللفتات فإن السؤال الذي تولد هو هل كان موسى وأخوه هارون عليهما السلام مع قومهما في التيه أم لا؟ إن في ذلك آراء عديدة نورد منها:

أولاً: أن موسى وأخاه لم يكونا مع قومهما في التيه اعتماداً على أن التيه عقوبة وأن موسى دعا ربه أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين وأن دعوات الأنبياء مجابة، وأن التيه عقوبة مسرحها مكان التيه، فكيف يعقل أن يتواجد فيها من لم يعص الله، وموسى وهارون كيف لهما أن يعصيها الله وهما نبيان وبالتالي فإن موسى وهارون لم يكونا في مسرح العقوبة، إضافة إلى أن كونهما أنبياء والأنبياء لا يعذبون.

ثانياً: إن موسى وأخاه كانا في التيه مع القوم إلا أن الله - تعالى - سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم.

إن مسألة التيه هذه تقودنا إلى تساؤل وهو هل أن موسى - عليه السلام - مات في التيه ولم يدخل الأرض المقدسة أم خرج من التيه ودخل الأرض المقدسة؟ إنه حول هذا الأمر انقسم الفقهاء إلى قسمين:

الأول: أن موسى - عليه السلام - وأخاه هارون - عليه السلام - ماتا في التيه وأن الذي دخل الأرض المقدسة بعد الأربعين سنة يوشع الذي قاد ذرية القوم وقاتل الجبارين ودخل أريحا. ومن أنصار هذا الرأي ابن عباس وعَمرو بن ميمون الأودي.

الثاني: يرى أصحاب هذا الرأي أن موسى - عليه السلام - لم يمت في التيه بل خرج في جيش من ذرية القوم بقيادة يوشع وتم محاربة الجبابرة وفتحت أريحا فأقام فيها موسى - عليه السلام - ما شاء الله له أن يقيم ثم قبضه الله إليه ولم يعلم أحد موضع قبره حتى الآن، ولعل في ذلك حكمة حتى لا يعبد. وجاء هذا المعنى في الإصحاح (31) أن موسى أوصى يوشع وقال له (تشدد وتشجع لأنك أنت تدخل ببني إسرائيل الأرض التي أقسمت لهم عنها وأنا أكون معك).

إن في قوله - تعالى - (قَالَ رَجُلانِ مِن الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا) رأيان يتفقان في كون الرجلين يخافون الله بإيمانهم ويختلفان في حقيقة الرجلين، فذهب أصحاب الرأي الأول إلى أن هذين الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يوننا وكلاهما من بني إسرائيل، ويرى أصحاب الرأي الثاني أنهما رجلان من الجبابرة أنعم الله عليهما بالتقوى فأمنا بصدق ما دعا إليه موسى فقاما بإرشاد القوم عن الكيفية التي يدخلون بها الأرض منتصرين. وإنني أستشف من تفسير القرطبي رأياً ثالثاً في ذلك وهو أن هذين الرجلين هما ممن بعثهم موسى للتجسس على سكان الأرض المقدسة الجبابرة فدرسوا أحوالهم ونقبوا عن نقاط ضعفهم فكانت إشارتهم إلى دخول المدينة (أريحا) من ذلك الباب حيث من خلاله تكون الغلبة والنصر، والشيء الذي يؤكد هذا التوجه أن بني إسرائيل ردوا على هذين الرجلين بقولهم نصدقكما ونكذب النقباء العشرة الآخرين أن جزاءكما الرجم بالحجارة وفعلاً أراد بنو إسرائيل رجمهم بالحجارة، ولكن مهما يكن في الأمر فإن الفائدة التي تخدم موضوعنا هي أن الحقيقة التي أراد الرجلان إظهارها هي أن مسألة الدخول مسألة إيمانية تتحقق بمجرد التصديق بما جاء به موسى من خبر وأمر ومسألة الإيمان لا تتحقق إلا بتعليق الأمر بمسألة التوكل على الله، ومتى تعمق الإيمان في القلب نزع الرعب من النفوس وزرعت التضحية وحب الجهاد، وهنا تتحقق نعمة الله في دخول الأرض بالتغلب على القوم الجبارين.

إن حقيقة الأرض المقدسة كما أجمع المفسرون تتمثل في الأرض المطهرة والمباركة لا يصيبها قحط ولا يلحق بأهلها جوع ولا نكبات وآفات، وهي أرض لا يعمر فيها ظالم ولا يدوم فاسد وهي أرض مطهرة من الشرك في أغلب عهودها. وإنني أرى أن مفهوم الأرض المقدسة له ارتباط عقائدي بمفهوم التعظيم والتقديس ويتجلى هذا الربط من خلال مسألة الربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى التي مثلتها معجزة الإسراء والمعراج له - صلى الله عليه وسلم - فهو ربط تقديس وتعظيم وتشويق لهذه البقعة من الأرض، فهي مقدسة بذاتها أولاً مطهرة بناسها. وما الأمر الإلهي الذي صدر لموسى في دخول هذه الأرض إلا لتنقيتها من الوثنيين وتطهيرها من الشرك والمشركين. وإنني أرى أن هذا الأمر هو بمثابة دعوة لعموم المسلمين لأن يهبوا مدافعين عن هذه الأرض التي دنست بنجاسة اليهود وتحريرها بالجهاد والتضحية والقتال وليس من خلال قرار أو مؤتمر أو مشروع سلام. وإن الذي دفعنا إلى اعتبار أن مسألة القداسة والتقديس صفة حالة بذات الأرض أولاً ثم بناسها ثانياً تاريخ هذه الأرض الذي يشهد بأن ماضيها البعدي وحاضرها الجديد يظهر أن مسألة الطهر تتعلق بالأرض وذاتها أولاً وبناسها ثانياً وهذا ما يجعلها نبقي عليها صفة القداسة والطهر رغم تعاقب أهل الفساد والشرك والوثنية عليها واحتلالهم لها فترة من الزمن لم تنته إلا برحلة كتلك التي كانت مع بني إسرائيل تقوم أساساً في دخولها وتحريرها على مبدأ القوة والقتال. وهذا ما يبرر قداسة هذه الأرض رغم تدنيس يهود التلمود لها وشيء آخر يعزز منحانا هذا هو أن هذه الأرض سوف تكون أرض المحشر والمنشر وهذا دليل على ارتباط هذا المفهوم بالعقيدة الخالصة، وبالتالي فمسألة التقديس والطهر صفة تلازم هذه الأرض تحت كل الظروف والأزمان فهي مقدسة زمن الوثنيين وزمن المسلمين وزمن فساد بني إسرائيل فيها قديماً وحديثاً، وستبقى بعد تحريرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

أما بخصوص حدود هذه الأرض فإن في ذلك عدة آراء:

أولاً: رأي مجاهد: يقول أنها الطور وما حوله.

ثانياً: رأي ابن عباس والسدي وابن زيد يقول أن أريحا هي الأرض المقدسة.

ثالثاً: رأي الزجاج يقول أنها دمشق وفلسطين وبعض الأردن.

رابعاً: رأي قتادة: يقول أنها الشام.

خامساً: رأي ابن عساكر ومعاذ بن جبل يقول إنها الأرض الواقعة ما بين العريش طولاً إلى الفرات.

 

إنه وقبل تحديد رأينا في هذا الموضوع لابد وأن نتناول هذه الآراء بشيء من التحليل والدراسة:

 

إن أول ما يلفت نظرنا في هذه الآراء التقاؤها حول نقطة مركزية وهي بيت المقدس (فلسطين) فجميع الآراء تتفق حول أن فلسطين جزء رئيس من الأرض المقدسة إن لم يكن قلبها وإن لم تكن فلسطين وحدها هي الأرض المقدسة كما يرى مجاهد وابن عباس.

إن الرأي الأول وكذلك الثاني يضيقان من مفهوم الأرض المقدسة ويحصرانها في بقعة صغيرة أرى أنه ليس فيها من الشروط التي تحقق المفهوم العام للأرض المقدسة إضافة إلى كون هذين الرأيين يستبعدان أن تكون القدس داخلة في مفهوم الأرض المقدسة ولهذا وحسب اعتقادي فإن هذين الرأيين ضعيفين وإن كان الرأي الثاني يستند إلى أن موطن الجبارين كان في أريحا وإن مدخل يوشع بن نون ببني إسرائيل كان من خلالها، لأن هذا الاستناد لا ينفي عن باقي أراضي بيت المقدس صفة القداسة.

إن الرأي الثالث يكاد يلتقي مع الرأي الرابع لولا أنه لا يرى في الأردن عامة ارتباط بالأرض المقدسة بل ببعض منها إضافة إلى دمشق وفلسطين، فيما نرى أن الرأي الرابع قد جمع الآراء السابقة جميعها في تعبيره (الشام) والشام بمفهومها تشمل سوريا ولبنان والأردن وفلسطين. وهذا برأينا ما نراه الأقرب إلى العقل والأدنى من الحقيقة والله أعلم. ولا نستبعد رأي ابن عساكر لأنه كذلك يضم هذه البقاع مضيفاً عليها قسماً من أرض العراق وخاصة وإن في حديث الرسول لمعاذ مذهب كهذا.

 

أما الرأي الخامس المتمثل برأي ابن عساكر ومعاذ بن جبل فنراه يتفق تماماً مع ما جاء في سفر التكوين حيث أنه لما مر إبراهيم - عليه السلام - بأرض كنعان ظهر له الرب وقاله (لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير الفرات).

إن المتتبع لقصة الأرض المقدسة وبني إسرائيل والتيه يرى أن حقيقة الأرض المقدسة يمكن فهمها من خلال فهم حقيقة الأمر الإلهي على أنه دعوة إلى دخول أرض الخيرات بعد تخليصها ممن فيها من الوثنيين بالقتال. وما دامت هذه الشروط تتجسد روحاً ومضموناً في فلسطين أولاً وما اتصل فيها جغرافياً بلا فاصل وتشابه معها في الظروف والأحوال وبلاد الشام التي تؤلف سوريا ولبنان وفلسطين والأردن لا أخالها تخرج عن مفهوم الأرض المقدسة ولكن فلسطين وما فيها من ميزات وشواهد تاريخية وعقائدية تمثل القلب والعقل لهذه الأرض المباركة. وإذا كانت أريحا مسرحاً لبداية المواجهة فلا يعني ذلك أن الأرض المقدسة محصورة في أريحا وغورها بل إن أريحا جزء من الأرض المباركة.

إن مفهوم الأرض المقدسة أعمق من أن نسعى إلى تحديده جغرافياً وأعظم من أن نحصره بمضمون أو اجتهاد، بل إن الأرض المقدسة مفهوم ذو دلالة عقائدية إيمانية عميقة وعلينا نحن المسلمين أن نرسخ هذا المفهوم بهذا المنحى في عقولنا ونطبعه في قلوبنا ونجعل منه الراية في حروبنا ضد أعداء الله. وكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل: (يا معاذ، إن الله - عز وجل - سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات. رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة فمن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام أو بيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة).

 

إن لقصة التيه والأرض المقدسة حكمة متشعبة الجوانب:

أولاً: إن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب وهم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين وهم الذين حرضوا المشركين على عداء المسلمين وحالفوهم وهم الذين قاموا على بث الشبهات والشكوك حول العقيدة الإسلامية وحول القيادة الإسلامية شأنهم اليوم في حملتهم ضد الحركات الإسلامية في جميع أنحاء العالم وتؤازرهم في ذلك أمريكيا. وإن سرد قصة بني إسرائيل مع نبيهم موسى جاءت لتوضح للمسلمين أن ماضي اليهود يتجدد ولن يتغير في يوم من الأيام على الرغم من أنهم أصحاب ديانة سماوية لما وقع منهم من نقض متكرر لميثاق الله فانعكس ذلك النقص انحرافاً في سلوكهم وعفناً في أخلاقهم، وباعتبار أن الإسلام آخر دين وأن المسلمين آخر دعاة لنشره كان لابد من إخبار المسلمين بذلك حتى لا تقع الأمة الإسلامية في نفس المزلق الذي وقعت فيه اليهودية من جهة وحتى تكون علاقات المسلمين مع بني إسرائيل قائمة على العلم والدراية والحذر لا كما يحصل اليوم من موالاة لليهود وأعداء الأمة من قبل الزعماء والقادة.

ثانياً: إن الله أراد أن يوضح للأمة الإسلامية حاملة راية الإسلام إلى يوم الدين أن الأمة حين يطول عليها الزمن تقسو قلوبها وتنحرف أجيالها وأن الأمة الإسلامية لا تخرج عن هذه القاعدة، بل سوف تأتي عليها فترات من التفكك والفساد والانحراف وحاضرنا أكبر شاهد تكون بحقيقتها أشبه ما تكون بحال بني إسرائيل فجاءت قصة بني إسرائيل عبرة لنا ولمجددي هذه الدعوة حيث منها نقف على الداء ومنها نستخلص الدواء.

ثالثاً: إذا تجردت النفوس من العقيدة وقست القلوب وتحجرت وسيطر الجبن واندرست كل معاني البذل والعطاء والتضحية تصبح المفاهيم الدينية لا تمثل شيئاً في توجيه السلوك وترميم المبادئ والقيم، بل تصبح الدنيا وزخرفها هي القائد المنظم لحياة مثل هؤلاء الناس الذين ينتهي فيهم المطاف إلى ما انتهى إليه بنو إسرائيل بحيث كتبت عليهم الذلة والمسكنة ومسخوا قردة وخنازير ووصفوا بالفسوق والخسران المبين، وجبلوا على الجبن في مقارعة الخصوم.

رابعاً: إن في قوله - تعالى - (قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَملِكُ إِلاَّ نَفسِي وَأَخِي فَافرُق بَينَنَا وَبَينَ القَومِ الفَاسِقِينَ) دعوة إلى المفاصلة والحسم والتصميم على الانفصال عن الأهل والعشيرة والقوم بعد النكول ونقض الميثاق رغم كل أواصر القربى والنسب والموطن والتاريخ، فكلها تذوب أمام رابطة العقيدة وميثاق الله المتين، هذه الرابطة التي يجتمع عليها أو يتفرق المؤمنون ومتى انقطعت هذه الرابطة فلا جنس يوحد ولا نسب يجمع ولا قوم يعز ولا لغة تقرب ولا تاريخ يوثق. وهذا ما نراه يطابق واقعنا نحن المسلمين حرمنا العزة رغم امتداد الأمة وكثرتها فأصبح شأننا شأن بني إسرائيل حرموا من الأرض المقدسة وفرض عليهم التيه رغم قربهم منها، ونحن اليوم حرمنا من حريتنا ومن النصر وتحرير القدس الشريف لما ارتددنا عن ديننا وطاشت بنا أهواؤنا وعقولنا ولم نتعظ من قصة بني إسرائيل كما اتعظ أسلافنا، فكانت لهم الغلبة والتمكين رغم قلتهم عندما أعلنوها لرسول الله في غزوة بدر بأنهم لن يقولوا لنبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال بنو إسرائيل لنبيهم (فَاذهَب أَنتَ وَرَبٌّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) بل قالوها مدوية (اذهب أنت وربك فقاتلا فإننا معكما مقاتلون).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply