بسم الله الرحمن الرحيم
كأني بها وقد أقبلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطى ثابتة، وفؤاد يرتجف وجلاً وخشية من رب السماوات والأرض، رمت بكل مقاييس البشر وموازينهم، تناست العار والفضيحة، لم تخش الناس أو عيون الناس وماذا يقول الناس، أقبلت تطلب الموت لأن الموت يهون إن كان معه المغفرة والصفح، ولأن الموت يهون إن كان بعده الرضا والقبول من الرحمن الرحيم، ولأن الموت يهون إن كان فيه إطفاء لحرقة الألم، ولسع المعصية، وتأنيب الضمير، فماذا قالت؟
قالت: \" يا رسول الله أصبت حداً فطهرني \"، عندها يشيح النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها بوجهه، فتقبل عليه وتقول: يا رسول الله أصبت حداً فطهرني!! أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك، فوالله إني حبلى من الزنا\" حينها يقول - عليه الصلاة والسلام -: ( اذهبي حتى تضعيه)، فولت والفرح يملأ قلبها، والسرور يخالط نفسها، لأنها رأت بشائر القبول لتوبتها من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأنها رأت بشائر تطبيق الحد لذنبها وقت غفوتها وغفلتها، لم يزل الهم يعترك في فؤادها، وسياط الخوف تعلو هامة تفكيرها وكيانها، ويمر الشهر تلو الشهر، والآلام تعضد الآلام، إنه ولد غير شرعي، حملته كرهاً ووضعته كرهاً، تحملت آلامه وأوجاعه، تأتي به تحمله وتقول: \"هاأنا ذا وضعته فطهرني يا رسول الله!!\"، فيقول الرؤوف الرحيم: (اذهبي حتى ترضعيه فتفطميه) الله أكبر، لقد أمد لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحياة، فمن سيرضع جنينها، من سيحنو ويعطف عليه، من سيرحم دمعته، ويطفئ بكوته، ولكنها عادت بابنها الرضيع فلو رأيتها ووليدها بين يديها، والناس يرقبونها عجباً وإكباراً، والشيطان يسول لها ويزين لها أن تلك فرصتك، وقد قمت بما عليك، والنبي ردك مراراً فلم تعودين؟ لعله لا يطلبك بعد الآن، توبي فيما بينك وبين الله، ولكنها تأبى، وترجع به بعد حولين كاملين، لقد استشرى بقلبها الخوف والخشية من لقاء الله، كيف أقابل الله بهذا الذنب!!، وما يدريني فلعل الله لا يقبل توبتي، لا.. لابد أن أتطهر حتى أكون على يقين بمغفرة الله ورضوانه، كلما ألقمته ثديها أو ضمته إلى صدرها زاد تعلقها به وتعلقه بها، وحبها له وحبه لها، فهي أم وللأم أسرار وأخبار، وآهات وأشجان، وتدور السنة تعقبها سنة، وتأتي به في يده خبزة يأكلها، ثم تقول: \" يا رسول الله قد فطمته فطهرني\" عجباً لها ولحالها، أي إيمان هذا الذي تحمله!! ما هذا الإصرار والعزم؟ ثلاث سنين تزيد أو تنقص، والأيام تتعاقب والشهور تتوالى، وفي كل لحظة لها مع الألم قصة، وفي عالم المواجع رواية، ومع ذلك تصر وتعزم، إنها التقوى إنها التقوى (( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ))، ويدفع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبي إلى رجل من المسلمين، ويؤمر بها فتدفن إلى صدرها، ثم ترجم فيطيش دم من رأسها على خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، فيسبها على مسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول - عليه الصلاة والسلام -: (والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه)، ماتت ولكنها نالت محبة الله ورحمته ومغفرته ورضوانه، فهنئياً لها، لما آلت إليه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد