قال الإمام النووي - رحمه الله -: \"قد أوجب الله - سبحانه وتعالى - النصح لكتابه، ومن النصيحة له بيان آداب حَمَلَته وطلاّبه، وإرشادهم إليها، وتنبيههم عليها\"[التبيان في آداب حَمَلَة القرآن: 5].
(الحمدُ لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عِوَجا. قيّماً ليُنذِر بأساً شديداً من لدنه ويبشِّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجراً حَسَناً. ماكثين فيه أبداً. وينذر الذين قالوا اتّخذ اللهُ ولداً). والصلاة والسلام على رسول الإسلام، ومن (كان خلقه القرآن)، محمد بن عبد الله القائل: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)، و(الماهرُ بالقرآن مع السَفَرة الكرام البَرَرة). وبعد.
فمن أعظم النِّعم التي حبا اللهُ بها أهلَ الإسلام هذا الكتابُ المجيد، المبارك، الحكيم، المبين، (الذي يهدي للتي هي أقوم), (بصائرُ من ربكم), و(موعظةٌ وشفاءٌ وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين).
وقد عدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - التمسكَ بالقرآن من أعظم أسباب السعادة في الدنيا كما جاء في حديث عمر - رضي الله عنه - [عند مسلم]: (إن الله - تعالى - يرفعُ بهذا الكلام أقواماً ويضع به آخرين)، كما أنه سبيلٌ للفوز والنجاة يوم القيامة، فقد روى أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - [في صحيح مسلم] قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (اقرؤوا القرآنº فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)º كيف لا وقد اعتبر القرآنُ تلاوتَه (تجارةً لن تبور)، وبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك من أعظم النعم والقُرُبات التي يُغبَطُ عليها المؤمن، فقد روى ابنُ عمر - رضي الله عنهما - [كما في الصحيحين] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا حَسَدَ إلاّ في اثنتين: رجلٌ آتاه اللهُ القرآن فهو يقومُ به آناء الليل وآناء النهار، ورجلٌ آتاه اللهُ مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار). وحسب المرء دلالةً على جلالة شأن القرآن – تعلّماً وتلاوةً وتعليماً – ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من كون ذلك منتهى الخيرية، كما جاء في حديث ذي النورين عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه).
عظمة شأن قارئ القرآن:
واعتباراً لما سبق نجِدُ صاحب القرآن مقدَّماً في زمن الصحابة - رضي الله عنه - سواءً في الإمامة أو في الشورى، كما روى الإمام مسلم عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يؤمّ الناسَ أقرؤهم لكتاب الله – تعالى -)، وروى البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: \"كان القرّاء أصحاب مجلس عمر - رضي الله عنه - ومشاورته كهولاً وشباباً\"، وروى البخاري أيضاً عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أُحُد، ثم يقول: (أيٌّهما أكثرُ أخذاً للقرآن؟) فإن أُشير إلى أحدهما قدّمه في اللّحد.
آدابُ صاحبِ القرآن:
[1] أن يُخلِص النية لله: بأن \"يريد بطاعته التقرّب إلى الله – تعالى -، دون شيءٍ, آخر من تصَنٌّعٍ, لمخلوق، أو اكتسابٍ, لمحمدةٍ, عند الناس، أو محبةٍ,، أو مدحٍ, من الخلق، أو معنىً من المعاني سوى التقرّب إلى الله – تعالى -\" [كما ذكر النووي في التبيان: 14]، بحيث يستوي الظاهر والباطن، فلا يعمل المرءُ شيئاً رئاءَ الناس، ولا يتركه مراعاةً لهم، بل يكون السرّ عنده كالعلانية، ويكون الإخفاء لديه بمثابة الإظهارº كيف لا وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أوّلَ من تُسعَّرُ بهم النارُ ثلاثةٌ من المرائين منهم حافظ القرآن ليُقال: قارئٌ، وقد قيل.
[2] أن يقرأه بِنيَّة العمل به، والتخلٌّق بأخلاقهº كما قالت أُمٌّنا عائشة – رضي الله عنها - في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان خلقه القرآن). وأن يتمثّل وصيةَ ابن مسعود - رضي الله عنه - لصاحب القرآن: \"ينبغي لحامل القرآن أن يُعرَف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مُفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون\".
[3] أن يُنَظِّفَ فاهُ بالسواك وغيره، يستوي في ذلك شهرُ رمضان مع غيره على الصحيح.
[4] يُستحبّ أن يقرأ وهو على طهارة. فإن قرأ مُحدِثاً حدثاً أصغر جاز بإجماع المسلمين. أما مسٌّ المصحف فلا بدّ له من الطهارة على الراجح.
[5] يُندَبُ أن تكون القراءة في مكان نظيفٍ,، وأحسن الأماكن بيوت الله، مع استحباب أن يعمُرَ الناس بيوتهم بالقرآن وسائر الأذكار.
[6] يُستحب للقارئ استقبال القبلة.
[7] يُندب للقارئ أن يجلس منكسِراً ذليلاً بين يدي مولاه، في سكينة ووقار، مطرقاً رأسه بحيث \"يكون جلوسه وحده – في تحسين أدبه وخضوعه – كجلوسه بين يدي معلمه\" [التبيان: 42]، مع جواز القراءة في حال القيام والقعود وعلى الجُنوب.
[8] أن يستعيذ – عند الشروع – من الشيطان الرجيم، فإنَّ هذا مستحبٌ، وقيل: واجبº لقوله – تعالى -: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم).
[9] أن يبدأ بالبسملة عند كلِّ سورة سوى براءة، كما قال الشاطبي:
ومهما تصِلها أو بدأتَ براءةً لتنـزيلها بالسيف لستَ مبسملا
وأكثر العلماء على أنَّ البسملة آية في ما بين السٌّوَر. وقد اختار بعض المحققين – خروجاً من الخلاف – أن تُحَكّم في ذلك أوجهُ القراءات المتواترة، بحيث يتَّبعُ قارئ القرآن ما تواتر من قراءة إمامه نفياً أو إثباتاºً فمن كانت قراءةُ إمامه مثلاً بالبسملة – كقالونَ وابن كثير وعاصم والكسائي – فإنه يبسمِلَ، كما قال صاحب مراقي السعود:
وبعضـهم إلى القـراءةِ نظر وذاك للوفـاقِ رأيٌ معتبـر
[10] أن يتدبّرَ الآياتِ، ويخشعَ عند التلاوة، ويستحضر مناجاةَ المولى سبحانهº فيا فوزَ من انسكبت على خديه العبرات! إذِ الآياتُ تذكِّره بشؤم المنكرات، وغداً يُرفع لواءٌ لصاحب الغَدَرات. وقد كان سعيد بن جبير - رحمه الله - لا يملٌّ من ترداد قوله – تعالى -: (ما غرَّك بربك الكريم). فالبكاء كما قال النووي - رحمه الله -: \"صفة العارفين، وشعار عباد الله الصالحينº قال الله – تعالى -: (ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً)\"[ التبيان: 45-46]، وقد بكى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قوله – تعالى -: (فكيف إذا جئنا من كلِّ أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً)، وقالت عائشة في وصف أبيها - رضي الله تعالى عنهما -: \"إنَّ أبا بكرٍ, رجلٌ رقيق\"، وفي رواية: \"رجل أَسِيف\" لا يتبيَّن الناس قراءته من كثرة بكائه. وقرأ عمر - رضي الله عنه - سورة يوسف وهو يُصلّي بالناس فبكى حتى سَمع بكاءَه من كان في آخر الصفوف.
[11] يُستحَبٌّ أن تكون القراءة على تُؤَدَةٍ, وترسيل وترتيل [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1/27]º لقوله – تعالى -: (ورتِّل القرءان ترتيلاً). وقد جاء النهي عن الهذرَمة، وهي القراءة المُفرِطة في السرعة هذّاً كهذِّ الشعر.
[12] يُستحبٌّ الدعاء أثناء القراءة، فيسأل القارئ من فضل الله إذا مرَّ بآية رحمةٍ,، ويستعيذ عند آيات العذاب والوعيد. فقد روى مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مرَّ بآية فيها تسبيحٌ سبَّح، وإذا مرَّ بسؤالٍ, سأل، وإذا مرَّ بتعوٌّذٍ, تعوَّذ).
[13] ويُستحبٌّ اجتناب الضحك واللغط والحديث في خلال القراءة، إلا كلاماً يُضطرٌّ إليه، كما يُكره العبثُ والنظرُ إلى ما يُلهي.
[14] يُندَبُ التوسٌّـط في رفع الصوت بالقرآن امتثالاً لقوله – تعالى -: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغِ بين ذلك سبيلاً).
[15] يُستحبٌّ تحسين الصوت والتغنِّي بالقرآن، فقد أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي موسى - رضي الله عنه - بقوله: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين باللّيل حين يدخلون، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن باللّيل وإن كنت لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار) كما في الصحيحين. وقد قال البراء - رضي الله عنه -: \"سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه - صلى الله عليه وسلم -\" [متفق عليه]، وقال الشافعي - رحمه الله -: \"وأَحَبٌّ ما يُقرأُ حدراً وتحزيناً\" [التبيان: 60].
[16] ومن آداب صاحب القرآن أن يُكثِرَ من تعهٌّدِه، ويجعلَ له وِرداً لتلاوته بحيث \"لا يُخلي يوماً من أيّامه من النظر في المصحف... فيُعطي عينيه حظَّهما منه... فإذا نظر في الخطِّ كانت العين والأذن قد اشتركتا في الأداء. وذلك أوفَرُ للأداء\" [الجامع لأحكام القرآن: 1/28].
[17] ومن آدابه أن يتحيّن ذكره في الأوقات المباركة، كساعات الصلوات والثلث الأخير من الليل (وقرآن الفجر إنَّ قرآن الفجر كان مشهوداً . ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً).
[18] ويجب على صاحب القرآن أن يرفعَ المصحف ويعظِّمه, فلا يضعه على الأرض و\"لا يتركه منشوراً\" [الجامع: 1/28]، ولا يجعل فوقه كتاباً أو متاعاًº لأنه كلام ربّ العالمين الكبير المتعال الذي يَعلو ولا يُعلى عليه.
[19] ويَلزمُ صاحبَ القرآنِ أن يُجنِّبَ المصحف مواطنَ الخبائث, فلا يصحبه إلى أرض العدو ولا إلى الأماكن المستقذرة, كما يتجنب لمسَه حينما يكون جنباً. ومن أدبه أنه يتوقف عن القراءة إذا خرج منه ريح أو عرض له تثاؤب, وأن يترك القراءة إذا غلبه النعاس أو استعجم عليه القرآن أو استولى عليه التعب، بحيث تكون قراءة القرآن على أكمل الأحوال, وما أحسنَ ما نقله القرطبي عن الحكيم الترمذي أنه قال: \"ومن حرمته أن لا يُقرأ في الأسواق ولا في مواطن اللَغَط واللغو ومَجمع السفهاء. ألا ترى أنّ الله تعالى ذكر عباد الرحمن وأثنى عليهم بأنهم إذا مرّوا باللّغو مرّوا كراماًº هذا لمروره بنفسه, فكيف إذا مرّ بالقرآن الكريم تلاوة بين ظهراني أهل اللغو ومَجمع السفهاء\".
[20] ومن آداب صاحب القرآن أن يعتمد في تدبٌّره على العلماء الراسخين امتثالاً لأمر الله – تعالى -: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون), فلا يفسِّره بالجهل والهوىº فيَضلّ عن سبيل الله. وليت شعري هل ضُيِّعت الأمانات وحُرِّفَت النصوص إلا بسبب الغفلة عن هذا الضابط في التعامل مع كتاب الله, كشأن الذين يُفسِّرونه بمعزل عن كتب التفسيرº فتجيء أفهامهم منبتة لا في العير ولا في النفير.
[21] ومن أدب صاحب القرآن أن لا يُماريَ في آياته, ولا يضرب بعضها ببعض, ولا يتَّبع المتشابهات ويُغفل المحكمات, بل يصدِّق الآيات ويُسلِّم بما لم يُدرك حقيقته, كشأن الراسخين القائلين: (آمنّا به كلٌ من عند ربِّنا) ويضع نصب عينيه هدي الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - حيث قال: \"إنّ السابقين عن علمٍ, وقفوا, وببصرٍ, قد كفّوا, وكانوا هم أقوى على البحث لو بحثوا\" [فضل علم السلف على الخلف لابن رجب الحنبلي].
خاتمة:
هذا, وما ينبغي لصاحب القرآن أن ينسى قول الله – تعالى -: (وقال الرسول يا ربِّ إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآنَ مهجوراً). ورحم الله الإمام الشاطبيَّ فقد كان يخشى هذه العاقبة فيقول – وهو الذي أفنى عمره في تعليم القرآن والتأليف في علومه – :
ولو أنّ عينــــاً ساعَـدت لتوكَّفت سـحائبهــا بالدمــع ديــمـاً وهُطَّـلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها فيا ضيعةَ الأعمـار تمشي سبهللا
فنسأل الله - تعالى - أن يحسنَ عاقبتنا, وأن يلهِمَنا رُشدَنا, وأن يباركَ سعينا, وأن يجعلنا في صحبة القرآن في الدنيا, ومن أهل شفاعته في الآخرة (إنّ ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد