الإدارة .. وحرية الإرادةž


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

حينما كتب (باولو فرايري) في القرن الماضي كتابه النفيس (تعليم المقهورين) (1)، وأكّد فيه على ضرورة استبدال (التعليم البنكي) بـ (التعليم الحِواري)º لقي الكتاب رواجاً وقبولاً وترحيباً عند أوساط المثقفين في العالم الإسلامي.

وما كان لذلك الأمر من سببٍ,º إلا أنه نطق بلسان حال الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها، مؤكِّداً أنّ إدارة التعليم في العالم المتخلّف تعمل على صياغة الجيل على نمطٍ, من العبوديّة والاستسلام والقعودº بحيث تقنع بمناهج الاجترار التي تتقبّل المعلومات دون نقاش أو حوارº وترسّخ عقليّة (الإمّعة) التي لا اختيار لها ولا قرار!

 

فالعاملون في الإدارة القهريّة أسرى الإشارة الفوقيّةº لا يستطيعون أن يُعمِلوا عقولهم، أو أن يُعبّروا بحرّيّةٍ, عن رأيهمº بل إنّ سياستهم خبط عشواء، ورايتهم طاعةٌ عمياء، (وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيل) (2)º فالصمت عندهم فضيلةٌ، والطاعة فريضةٌ ولو كان على سبيل الاستخفاف والتلهية والتعميةº وما أحسنَ تعبير القرآن عن (إدارة فرعون) التي لا تُري الناس إلا ما ترى وما تهديهم إلا سبيل الرشاد بقول الله - تعالى -: (فاستخفّ قومه فأطاعوه)!

 

إذن إدارة الاستخفاف تسعى إلى إخراس الأصوات الجادّة، وإلغاء العقول الناقدة، واغتيال الوعي الذّاتي الذي يميز الخبيث من الطيّب، وهي تعمل دائبةً على نشر ثقافة الموافقة الدائمة ـ بنسبة 99%!!ـ فلا ترضى بغير المدح والثناء والاستجابة العمياء للأوامر والنواهي في غياب الوعي والإدراك. بل إنها تخشى كل كلمة، وتشكّ في كل نصيحة، وتتوجّس من كل صاحب رأي. كما قيل:

 

اثنان في أوطاننا

 

يرتعدان خيفةً

 

من يقظة النائم

 

اللّصّ والحاكم!(3)

 

ومن تأمّل حال كثير من إداراتنا في العالم الإسلامي أدرك أنها إنما تسعى إلى وأد الحوارº حتى لا يُسقط هيبة (السادة)، ولا يُعطي الرّعاع سبيلاً إلى مخالفة من يهديهم سبيل الرشادº ولذلك لا تعرف الإدارات الاستبداديّة (وأمرهم شورى بينهم) (4)، ولا ((أشيروا أيها الناس عليّ)) (5)º لأنّ ذلك يعني المساواة في صنع القرار، وبالتالي إصلاح الفساد، وتغيير المناهجº ومن هنا فإنّ إدارة الاستبداد لا تستطيع أن تخاطب الناس على أنهم أصحاب عقول واعية، وما مهازل الانتخابات في العالم الإسلامي ببعيدة!

 

ولله درّ علماء الإسلامº فقد أدركوا خطورة المناهج القمعيّة والأنظمة الاستبداديةº فحذّروا من أن تقتل إدارات التعليم مَلَكات أبناء المسلمينº بحيث يصيرون عبيداً يُقادون إلى الذلّ والهوان. فقد قرّر ابن خلدون\"أنّ الشدّة على المتعلّمين مُضِرّةٌ بهم\"(6)، فقال - رحمه الله -:\"مَن كان مَرباه بالعَسف والقَهر من المتعلّمين ـ أو المماليك أو الخَدَم ـ سطا به القهرº وضيّق عن النفس انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخُبث: وهو التظاهر بغير ما في ضميرهº خوفاً من انبساط الأيدي إليه بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلكº وصارت له هذه عادةً وخُلُقاً، وفسدت معاني الإنسانيّة التي له...وهكذا وقع لكل أُمّةٍ, حصلت في قبضة القهر، ونال منها العَسفº وانظرهُ في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خُلُق السّوءº حتى إنهم يُوصَفون في كل أُفقٍ, وعصرٍ, بالحرج. ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد\"(7).

 

ورحم الله العلامة محمد قطب حيث بيّن أنّ الإسلام قد وضع لتحرير الناس من العبوديّة علاجا نافعاً وحلاًّ ناجعاًº إذ إنّ حياة الإنسان\"في ظل العبودية الدائمة جعلت أجهزته النفسية تتكيّف بهذه الملابساتº فتنمو أجهزة الطاعة إلى أقصى حدٍّ,، وتضمر أجهزة المسؤولية واحتمال التبعات إلى أقصى حدٍّ,... هذا التكيّف النفسي للعبد هو الذي يستعبده، وهو ناشيءٌ في أصله من الملابسات الخارجية بطبيعة الحالº ولكنه يستقلٌّ عنها ويصبح شيئاً قائماً بذاته، كفرع الشجرة الذي يتدلى إلى الأرض ثم يمدٌّ جذوراً خاصةً به ويستقلٌّ عن الأصل\"(8).

 

ومن أنصف علم أنّ العبودية تصدق على كثير من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، المؤسَّسة على الهزيمة النفسّية والتبعيّة الاستعماريةº فمناهج التعليم في كثير من دول العالم الإسلامي مازالت تعاني من العبودية. وقد ذكر العلامة ابن خلدون أنّ\"المغلوب مُولَعٌ بتقليد الغالب في كل شيء\"، وأشار مالك بن نبي - رحمه الله - إلى (قابلية العالم الإسلامي للاستعمار)، وأفاد الشيخ محمد قطب أنّ من آثار هذه العبودية الخفيّة التي زرعها الاستعمار الخبيث في نفوس المسلمين\"المشروعات المعطّلة التي لا يعطّلها – في كثير من الأحيان – إلا الجبن عن مواجهة نتائجها! والمشروعات المدروسة التي لا تنفذّها الحكومات حتى تستقدم خبيراً إنجليزياً أو أمريكياً...إلخ ليتحمّل عنها مسؤولية المشروع ويُصدر الإذن بالتنفيذ! والشلل المروِّع الذي يخيّم على الموظفين في الدواوين ويقيّد إنتاجهم بالروتين المتحجّرº لأن أحداً من الموظفين لا يستطيع أن يصنع إلا ما أمر به (السيّد) الموظف الكبير, وهذا بدوره لا يملك إلا طاعة (السيّد) الوزيرº لا لأنّ هؤلاء جميعا يعجزون عن العمل, ولكن لأنّ جهاز التبعات عندهم معطّلٌ، وجهاز الطاعة عندهم متضخّمٌ. فهم أشبه شيء بالعبيد, وإن كانوا رسمياً من الأحرار\"(9).

نسأل الله - عز وجل - أن يقيّض لهذه الأمة (إدارةً) راشدةًº تُوقظ المسلمين من غفلتهم، وترفعهم بعد كبوتهم، وتغرس في قلوبهم (الوعي) الرساليَّ و(السّعيَ) الجهاديّº تحقيقاً لقول الله - تعالى -: (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلنا وإنّ الله لمع المُحسنين) (10).

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على أشرف الخلق وعلى آله وصحبه وسلم.

 

ـــــــــــــــــــــــــ

(1) لعلّ هذا العنوان مُستوحى من كلام العلامة ابن خلدون في المقدّمةº للموافقة في المعاني وفي بعض الألفاظ ـ كما سيأتي ـ ولشهرة كتاب ابن خلدون عند الغربيين. والله أعلم.

(2) سورة الأحزاب: 67.

(3) من ديوان (لافتات)، للشاعر أحمد مطر.

(4) سورة الشورى: 38.

(5) رواه البخاري، في كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية. وقد ورد هذا المعنى بألفاظ متقاربة في مواضع كثيرة من الجامع الصحيح وغيره.

(6) الفصل الثاني والثلاثون من مقدمة ابن خلدون.

(7) المقدّمة: 540.

(8) شبهات حول الإسلام: 47 – 49.

(9) شبهات حول الإسلام: 48.

(10) سورة العنكبوت: 69.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply