الإبداع (1)


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الإبداع : ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال [ معجم مقاييس اللغة 1/209] .

وعند الخليل: تأكيد لمعنى التفرج والأولوية وتعميق له في قوله – معرفاً الإبداع -: \" إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة\" [ العين 2/54 ].

وأما الراغب ففي كلماته وضوح وشمول عندما قال: \" الإبداع: إنشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء\" [ المفردات ص 38 ].

\" والبديع من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها، وهو البديع الأول قبل كل شيء\" [ لسان العرب 8/6 ].

 

فالإبداع إذن فيه أولية وسبق، وفيه تفرد وتميز، وفيه إنشاء وصنع.

إنه وقدة الفكر المنطلقة من إسار القيود المعتادة، ونظرة التأمل التي ترى الأشياء من زوايا أخرى، وعمق التركيز الذي يغوص في أعماق الذات لا في ظاهرها، وفي كنه الأشياء لا في أشكالها، وفي أسباب العلل لا في أعراضها.

فهل الدعوة في حاجة إلى إبداع؟ أليست الدعوة إسلاماً كاملاً، وشريعة صالحة لكل زمان ومكان؟ والجواب: بلى كل ذلك صحيح، وليس الإبداع الذي نعرض له هنا ابتداعاً في الدين، إنه لا يتناول شيئاً من الثوابت الشرعية، ولا النصوص القطعية، وإنما ساحته ميدان الاجتهاد في دائرته الفسيحة المضبوطة بقواعد وشروط الأصوليين.

إن الإبداع قد يكون في الخطاب الدعوي المتجدد، وفي الوسيلة البلاغية المبتكرة، وفي العرض الإصلاحي المخترع، وفي الهياكل الإدارية المستحدثة، وفي النظرات المستقبلية المتقدمة، وفي الخطط الاستراتيجية المتطورة، وفي البرامج التربوية المتنوعة، إنها آفاق رحبة وميادين فسيحة.

 

وكثيراً ما يتبادر إلى الأذهان عند ذكر الإبداع والابتكار والاختراع إلى العلوم المادية التقنية، ولكن الإبداع موجود في مجال الفكر والثقافة والدعوة والتربية وسائر العلوم النظرية الأدبية كالاجتماع واللغة وغيرها، بل إنه في هذه المجالات ربما كان أصعب وأشد، إذ أن المجال الأول مستند إلى التجربة المادية، ومعتمد على نتائجها الملموسة، بينما في المجال الثاني الأساس هو الفكر والتأمل، والتحليل والاستنباط، واستعمال القوى الذاتية الإبداعية.

إن الإمام البخاري كان مبدعاً عظيماً يوم استشعر الحاجة وأدرك الأهمية ووضع المنهج وبادر فكان \" أول من صنف في الصحيح كتاباً مختصاً به\" [ فتح المغيث 1/82 ] ثم رتبه وبوبه فكان ترتيبه مبتكراً، ثم استنبط الفقه من الأحاديث وجعله تراجم للأبواب فكانت\" تراجمه البديعة المنال، المنيعة المثال التي انفرد بتدقيقه فيها عن نظرائه، واشتهر بتحقيقه لها عن قرنائه\" [ هدي الساري 1/3 ] فحيّر - رحمه الله - العقول بما أبدع في كتابه العظيم.

والإمام المزي صاحب [ تهذيب الكمال ] عبقري مبدع من نوادر الأذكياء، وكتابه يدل على عقلية فذة إذ جمع فيه جميع رواة الكتب الستة وشيوخهم و رواتهم وجرحهم وتعديلهم بترتيب منظم وتقسيم مبتكر \" أتى فيه بكل نفيسة\" وكان \" عظيم الفوائد، جمّ الفرائد، لم يصنف في نوعه مثله، لأن مؤلفه أبدع فيما وضع، ونهج للناس منهجاً لم يشرع \" وصار كتابه هو الكتاب \" المجمع على أنه لم يصنف مثله\" [ مقدمة تهذيب الكمال 1/6 ].

وابن كثير كان مبدعاً عندما جمع بين نظامي المسانيد والسنن في كتابه \" جامع المسانيد والسنن\" الذي قال فيه ابن الجزري أنه \" لا نظير له في العالم\".

وابن تيمية قبلهما كان عبقرياً فذاً يوم درس المنطق والفلسفة وهضمهما وصار بهما أعرف من أربابهما، ثم نقض المنطق وأبطل الفلسفة من داخلها، وقوض أركانها، وأتى بنيانها من القواعد حتى خرّ سقفها.

وابن خلدون كان مبدعاً فريداً يوم كتب مقدمته الشهيرة وذكر فيها عن العمران والعلوم وأنماط الحياة فصار مؤسساً لعلم الاجتماع.

والخليل بن أحمد كان مخترعاً عظيماً يوم استقرأ شعر العرب وغناه ونغمه وأعاده وردده، ثم بعد ذلك وزنه وقطعه، فوضع البحور الشعرية وضبط القوافي، حتى ألفت بعده كتب تنص في عناوينها على نسبة تلك العلوم إليه كما في \" أهدى سبيل إلى علمي الخليل\" والمراد العروض والقافية.

 

إن الحديث كان معروفاً في عصر البخاري، وعلم الرجال كان متداولاً في زمن المزي، والسنة كانت مدوّنة أيام ابن كثير، والفلسفة كانت فاشية في وقت ابن تيمية، والناس كانوا يعرفون الحياة الاجتماعية يوم كان ابن خلدون، والشعر كانت تشدو به الرواة وتسير به الركبان قبل الخليل بزمن طويل، لكن هؤلاء جميعاً – وهم مجرد أمثلة لم أذكرها على ترتيب معين ولا لغرض محدد – كلهم كانوا مبدعين إذ أعملوا عقولهم فكراً، وشحذوا أنفسهم عزيمة، ودققوا وأمعنوا، وجمعوا وقارنوا، وحللوا واستنبطوا، وقعدوا وأصّلوا، وبادروا وسبقوا، وبذلك تفردوا واشتهروا، ونفعوا وأفادوا.

 

ولعلي أختم هذه العجالة يما يؤكد أن علماءنا يدركون أهمية الإبداع ويدعون له ويحثون عليه، ولا يقرون الجمود والركود، فهذا صاحب [ كشف الظنون] - وهو كتاب عن العلوم والمصنفات - يقول ضمن مقدماته: واعلم أن نتائج الأفكار لا تقف عند حد، وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدّر له، وليس لأحد أن يزاحمه فيه لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر، والفيض الإلهي ليس له انقطاع ولا آخر، والعلوم منح إلهية، ومواهب صمدانية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما لم يدخر لكثير من المتقدمين، فلا تغتر بقول القائل: ما ترك الأول للآخر، بل القول الصحيح الظاهر: كم ترك الأول للآخرº فإنما يُستجاد الشيء ويُسترذل لجودته ورداءته في ذاته لا لقدمه وحدوثه\" [ كشف الظنون 1/39 ]

فما أجملها من كلمة، وما أحسنه من ختام.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply