بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
عباد الله: أنزل الله إلينا هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، الذي قال الله فيه - سبحانه -: (( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ))، وقال فيه جل شأنه: (( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر من جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله))، وأمرنا فيه ونهانا، ما من خير إلا وهو في العمل به، ولا من شر إلا والزجر عنه وارد، فيه ضرب لنا فيه الأمثال: (( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ))، ((إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها ))، ورغب فيه، وأمر بتدبره، وحذر من الإعراض عنه وهجرانه: (( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ))(( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ( أي فتركت العمل بها ) وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ))، فمما ورد في هذا الكتاب مما هو جدير بالتدبر والوقوف عنده وصفه - سبحانه - حال المعرض عنه الذي لم يرفع به رأسه، ولم يكترث بما وردº بأوصاف عدة منها: أنه شر الدواب قال - جل شأنه -: (( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ))، ثم بين مراده بهم بقوله: (( إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ))، فهم في ميزان الله وميزان كل مؤمن شر دابة تدب على وجه الأرض، وشر من القردة والخنازير والكلاب وغيرها، وما ذاك إلا بسبب إعراضهم عن هذا الكتاب العظيم، وهبهم الله العقول فلم يتدبروه بها، والأسماع فلم ينصتوا إليه بها (( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون )) والألسنة فلم ينطقوا بالإيمان به كلمة، والأعين فلم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض فيؤمنوا بمن تكلم به - سبحانه -، فهم صم بكم عمي لا يعقلون (( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ( أي فيما لم نمكنكم فيه ) وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ))((ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ))، وتوعد الله الكافر به ناراً تلظى (( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ))، وشبه المعرض عنه بالحمار في قوله - جل شأنه -: (( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً ))، ومثله من أعرض عن القرآن قال - صلى الله عليه وسلم -: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيقال: يا فلان ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)[1] فهو كحمار من حمر النار وقال - سبحانه -: (( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاويين ولو شئنا لرفعناه بها ( أي بالآيات التي في صدره ) ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون )) نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
____________________
[1] صحيح مسلم (2989).
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً - أما بعد: فيا عباد الله أعيذ نفسي وإياكم أجمعين أن نكون ممن أعرض عن هذا الكتاب العظيم، الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ليخرجنا به من الظلمات إلى النور، وقد بين النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أن المؤمن مع هذا الكتاب لن يعدم خيراً: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها حلو، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو)[1] فهو في كلا الحالين لن يعدم خيراً إما أن يكون ممن يعملون بهذا الكتاب العظيم، ويمتثلون آمره، ويحذرون زاجره، ويصدقون خبره، ولا يكون ممن يجيد أو يعرف التلاوة أي القراءة لكنه عامل به، مصدق لخبره، ممتثل لأمره، مجتنب زجرهº فهذا على خير عظيم، وخير منه ذلكم التالي لآيات الله يقرؤها ويتدبرها ويعمل بها، أما من أعرض عن هذا الكتاب وهو يدعي الإسلام فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر)[2]، فنعوذ بالله من الخذلان، يا عباد الله علينا جميعاً بتدبر هذا الكتاب العظيم فإن الله أنزله إلينا ليخرجنا به من الظلمات إلى النور، ولن يعدم المسلم من التلاوة خيراً عظيماً فقد صح عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: (من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقوال ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)[3]، فهذه ثلاثون حسنة تحصلها بتلاوة هذه الكلمة فأين نحن يا عباد الله عن هذا الخير العظيم، نقرؤه ونتدبره، ونعمل بما جاء فيه حتى لا نشابه الصم البكم الذين لا يعقلون، وعلينا يا عباد الله أن لا نمل الموعظة بتدبر هذا القرآن فإن هذا القرآن فيه فلاحنا ونجاحنا، وليحاسب كل امرئ منا نفسه كم له من صلة بالقرآن، وهل يتلوه كل يوم أو يتلوه كل أسبوع، أو ينظر فيه ولو مرة في الشهر، إن بعضنا قد تمر الشهور بل قد يمر العام ولا عهد له بكتاب الله إلا في رمضان: (( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً )).
أسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من قوم يتدبرون القرآن، ويعملون به.
___________________
[1] صحيح البخاري (5427) صحيح مسلم (797).
[2] المصدران السابقان.
[3] سنن الترمذي (2910).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد