بسم الله الرحمن الرحيم
متى لا يصلح اعتراف الرواة على أنفسهم؟!
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - º وبعد:
فقد تمكَّن علماء الحديث - رحمهم الله - من خلال آلية خاصة بهم، عبر المقارنة الداخلية والخارجية للنصوص، وهي ما يسمى عندهم بـ (( الاعتبار )) ويسمَّى عند أهل عصرنا بنظرية ( تحليل النصوص ) أو (النقد الداخلي والخارجي للنصِّ)º
من خلال هذه العملية تمكَّن علماء الحديث - رحمهم الله - من معرفة أحاديث الرواة أكثر من معرفة الرواة أنفسهم بحديثهم.
وكتب الجرح والتعديل وعلل الحديث طافحة بعبارة ((ليس من حديث فلان)) وبإمكان الجميع الوقوف عليها لكثرتها جدًا.
وهذا معروف مشهور لا نطيل فيه.
غير أن ثمة ما ينبغي توضيحه في هذه المسألة حين يعترف الراوي نفسه بحديثٍ, هو له، لكنه ينكر أن يكون له، أو يلصق بنفسه حديثًا أو تهمةً لم يرتكبها أصلاً، لكنه ألصقها بنفسه بغير علمٍ, بحقيقتها ولا نظرٍ, وتدبٌّرٍ, في عواقب أموره.
ففي هذه الحالة لا يعتد باعتراف الراوي ولو اعترف على نفسه مائة مرة، وأصر على اعترافه، فلا قيمة باعترافٍ, في غير أهليَّةٍ,، ولا عبرة لا شرعًا ولا قانونًا ولا عرفًا باعتراف خفيف العقل أو ضعيف الفِكر والنَّظَر، مهما كان اعترافه!
بل لا عبرة باعتراف العاقل كامل الأهليَّة نفسه إذا كان اعترافه مما تحيله العادة، ولا يتناسب مع طبيعة المعترف نفسه، ودلَّ النقد والتحليل الخارجي والداخلي للاعتراف على بطلانه.
ولدينا في ساحات نياباتنا عشرات الاعترافات المهملة التي لا تأخذ بها محاكمنا ولا يعتدون بها في مسار التحقيق أو الحكم بناءً لصدورِها في إكراهٍ, أو من غير كامل الأهلية، أو إرادة ما يخالف ظاهرها.
ورجال القانون في عصرنا حين يتكلمون عن ((القصد الجنائي))، أو ((أهلية صاحب الاعتراف)) وصدور اعترافه منه في كامل حريته ووضوح فكره ونضوج عقلهº رجال القانون حين يتكلمون عن هذا المباحث فإنما خاضوا غمارها متأخرًا جدًا جدًاº لأن أئمتنا الكرام من علماء الحديث الشريف قد أوضحوا هذه المنهجية العلمية من مئات السنين.
ويمكننا أن نرصد بعض الأسباب المانعة لقبول الاعتراف من صاحبه، أيًّا كان هذا المعترف، ثقة كاملاً للأهليَّة، أو ضعيفًا خفيف العقل، غير كامل الأهلية!
رد اعتراف كامل الأهلية لعدم دلالته على المعنى المقصود
ذكر الإمام المالكي الكبير أبو عمر بن عبد البر رحمة الله عليه في كتابه ((الاستذكار)) (4/84) حديث عبد الله بن يوسف قال حدثنا مالك عن عمر عن سعيد بن المسيب عن أم سلمه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من رأى هلال ذي الحجة فأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا)) ثم قال ابن عبد البر: ((ورواه القعنبي وأبو مصعب وابن بكير عن مالك وقد ذكرنا الأسانيد عنهم في غير هذا الموضع إلا أنه ليس عند أكثر رواه الموطأ وقد رواه شعبة عن مالك)) ثم ساق ابن عبد البر رواية شعبة عن مالكٍ, التي أشار إليها.
فالحديث الآن أمامنا كما نرى يرويه عن مالكٍ,: عبد الله بن يوسف والقعنبي وأبو مصعب وابن بكير ثم شعبة بن الحجاج - رحمهم الله - جميعًا.
فهؤلاء خمسة رووا الحديث عن مالكٍ, - رحمه الله -
قال أبو عمر بن عبد البر: ((ترك مالك أن يُحَدِّث بهذا الحديث في آخر عُمرِه وقاله عنه عمران بن أنس فقال: ليس من حديثي قال [يعني عمران]: فقلت لجلسائه: فقد رواه عنه شعبة وهو يقول ليس من حديثي!)).
استنكار عمران بن أنس هنا قول مالكٍ, في محلِّهº لأنه لم يروه عنه شعبة فقط، بل رواه عنه خمسة أئمة كبار، من كبار أصحاب الإمام مالكٍ, رحمة الله عليه، خاصة وشعبة شعبة في مجال النقد والدقة ومثال اليقظة في هذا العلم!
فكيف يقول الإمام مالك رحمة الله عليه: إنه ليس من حديثه؟!
نعمº مالكٌ مالكٌ في الإمامة والثقة والعلمº لكن مخالفيه خمسة أئمة غير مدفوعي الثقة والإمامة هم أيضًا، وهم من أعلم الناس به، خاصة القعنبي رحمة الله عليه، فهو مُقَدَّم في مالكٍ, على بقية أصحاب مالكٍ,!
لابد هنا أن نأخذ بقول هؤلاء الخمسة الكبار ونتوجه إلى الإمام مالكٍ, رحمة الله عليه باحتمال الوهم أو نسيان الحديث، ونحو هذه الاحتمالات.
نفعل هذا رغم اعترافه هو نفسه بأنه ليس من حديثه!
لكنَّا لا نأخذ باعترافه هنا لوجود الموانع السابقة، فإن كان هنا وهم فليكن في جهة مالكٍ, لا في جهة الخمسة المخالفين له.
هذا ما يمليه علينا تحليل النص.
غير أننا إذا رجعنا إلى ((التمهيد)) لابن عبد البر فسنجد النص الذي نقله في ((الاستذكار)) بعبارة أوضح وأتم تزيل لنا هذا الإشكال، وتبين لنا مراد الإمام مالكٍ, - رحمة الله عليه - من اعترافه السابق بأن الحديث ليس من حديثه!
نرى في ((التمهيد)) ما نصه: ((وذكر عمران بن أنس قال: سألت مالكًا عن حديث أم سلمة هذا؟ فقال: ليس من حديثي، قال: فقلت لجلسائه: قد رواه عنه شعبة وحَدَّثَ به عنه وهو يقول: ليس من حديثي!! فقالوا: إنه إذا لم يأخذ بالحديث قال فيه: ليس من حديثي.
وقد رواه عن مالك جماعة)) ((التمهيد)) (23/194، ونحوه في 17/237).
فهنا جهةٌ أخرى تزيل الإشكال، وتوضح لنا معنى قول الإمام مالكٍ, رحمة الله عليه: (ليس من حديثي)، ولو أخذنا بقوله الأول دون بحثٍ, وأناةٍ, لاتهمناه بالوهم الذي هو بريء منه في هذا الموضع!
رد اعتراف ناقص الأهلية خفيف العقل
وينقسم هذا لأقسام يهمنا منها الآن:
غير كامل الأهلية لسوء حفظه وضعفه
ويدخل في هؤلاء جماعة المختلطين الذين اختلطوا في آخر أيامهم وحياتهم، وضعف حفظهم وساء ضبطهم، فصاروا يقبلون التلقين، ولا يعرفون صحيح حديثهم من سقيمه.
فهؤلاء في حالتهم هذه غير كاملي الأهلية، ولا قيمة لما يذكرونه ويعترفون به، من سماعٍ, أو قراءةٍ, أو غيرهما، ولا تنتج عن ذلك أية آثارٍ, أو اتهاماتٍ, لهم.
ومن هؤلاء الحافظ الكبير والرجل الصالح عبد الله بن لَهِيعَة - رحمة الله عليه-، وهو أحد من دارت عليهم الأسانيد، غير أنه لم يكن في حفظه بذاك الضابط، وقيل أنه قد عانى ذلك في آخر حياته، وبعض العلماء يرى أنه سيء الحفظ من بدايته، غير أنهم يعترفون له بالصلاح.
فماذا حصل من ابن لَهِيعَة -رحمة الله عليه-؟
إذا ذهبنا إلى ابن لَهِيعَةَ - رحمه الله تعالى - فسنرى أنه قد صرَّح بالسماع مِمَّن لم يَرَهُ أصلاً، هكذا صراحة لا يحتمل معها التأويل، وثبت ذلك عنه بلا شك، فهذا صورته صورة الكذبº لأنه صرَّح بالسماع مِمَّن لم يسمع منه أصلاً، بل وأسقط مِن بينِهِ وبَين «عَمرو بن شُعَيب» رجلاً متروكًا، وهو: «ابن أبي فَروَة»، فالدواعي على إسقاط ((ابن أبي فروة)) متوفِّرةº لأنه رجل متروك الحديث، ساقط الرواية.
فأركان اتهام ابن لَهِيعَة بالكذب موجودة، والدواعي على ذلك متوفرة!
بل لَقَد أَصرَّ ابن لَهِيعَةَ على ادِّعاء السماع وضاق من ابن وَهب حين ذَكرَ أَنَّ ابن لَهِيعَةَ لم يسمع هذه الأحاديث من عَمرو بن شُعَيب. والقصة في ترجمته من ((تهذيب الكمال)) للمزي، وغيره.
ومع هذا نرى ابن وَهب - رحمه الله - يقول في حديثٍ,: «حَدَّثَنِي والله الصادق البارٌّ عبدُ الله بن لَهِيعَةَ». قال أبو الطاهر بن السَّرح: «وما سَمِعتُه [يعني: ابنَ وَهب]- يحلفُ بمثل هذا قط».
ويقول ابن مَعِين في رِوَايَة: «وكان شيخ صِدقٍ,»، كما وصَفَهُ ابنُ حِبَّان بالصَّلاح!
الرجل يدَّعِي السماع مِمَّن لم يره أصلاً، ويصر على ذلك، ويضيق صدرًا بمَن يقول له: لم تسمع!
الصورة صورة كذب صريح، والدوافع متوفرة، لكن أئمتنا مع هذا كله لا يلتفتون إلى اعتراف ابن لهيعة ولا إلى إصراره، بل ويصفونه بما هو فيه فعلاً من صلاحٍ, وديانةٍ,!
فما الأمر؟
الناظر في ترجمة ابن لَهِيعَة - رحمه الله - سيرى تخليطه وسوء حفظه، حتى لم يعُد يُمَيِّز بين ما سمعه على الحقيقة وما لم يسمعه أصلاًº بل ربما أجازَ حديثًا لغير عَمرو بن شُعَيب على أَنَّهُ من روايتِه عن عَمرو، كما في ترجمته عند العقيلي وغيره.
وحَمَلَهُ على هذا كله سوء حفظه وعدم ضبطه لمروياته ومسموعاته، مع صلاح الرجل ودينه، ولذا تكلم العلماء في ضعف حديثه وتَركِه، في الوقت الذي أثبَتُوا له دِينَهُ وصلاحَهُ!
لأنه لا عبرة بما صدر من سيء الحفظ عديم الضبط لا يدري ما يخرج من رأسه، وإنما أُتِيَ ابن لَهِيعَة مِن الغفلة الفاحشة، فلا يصح والحالة هذه ترتيب الآثار على فَعلَتِه وادِّعاءاته التي ربما لم يضبطها هي نفسها، ولا فكَّر في عواقبها لسوء حفظه، فضلا عن اتهامه بالكذب ومعارضة العلماء...إلخ.
لأنه لم يتوفَّر فيه القصد مع القدرة على معرفة هذا القصد ووضوحه لديه، ولو توفَّر فيه القصد لكان حقٌّه أن يوصف بالكذب.
لكنه حين كان مغفَّلا سيء الحفظ، عديم الأهلية في حفظه وضبطه لم يكن ما يخرج منه بذي قيمة لأنه لا يدري ما يخرج من رأسه أصلاً، فكيف يُؤَاخَذ والحالة هذه؟!
غير كامل الأهلية لخفَّةِ عقله وطيشه
وأذكر منهم هنا:
ـ تولَّى عبد الرحمن بن مسهر أخو علي بن مسهر قضاء جُبُل وكان خفيف العقل، فلما قَدِم الرشيد البصرة بادرَ هو بقوله: ((نِعم القاضي قاضي جُبُل)) أثنى على نفسه عند الرشيد فعزله الرشيد لسفهه ((التاريخ الكبير)) لابن أبي خيثمة (ق/20/ب) مخطوط القرويين، و((لسان الميزان)) لابن حجر.
وقد كانت خفة عقله الزائدة عن حدِّها سببًا في ترك حديثه من جهةٍ,، وفي خسارته لمنصب القضاء من جهةٍ, أخرى!
ـ ونقرأ في ترجمة الإمام الكبير صاحب التصانيف ((مسلمة بن القاسم القرطبي)) من ((لسان الميزان)) لابن حجر هذه الفقرات: ((هذا رجل كبير القدر... وله تصانيف في الفن وكانت له رحلة لقي فيها الأكابر.... جمع تاريخا في الرجال... وهو كثير الفوائد في مجلد واحد. وقال أبو محمد بن حزم يكنى أبا القاسم كان أحد المكثرين من الرواية والحديث سمع الكثير بقرطبة ثم رحل إلى المشرق قبل العشرين وثلاث مائة فسمع بالقيروان وطرابلس والإسكندرية, وأقريطش, ومصر, والقلزم, وجدة, ومكة, واليمن, والبصرة, وواسط, والأيلة, وبغداد, والمداين, وبلاد الشام, وجمع علما كثر ثم رجع إلى الأندلس فكف بصره)).
ومع كل هذا نقرأ في ترجمته هناك أيضًا: ((وكان قوم بالأندلس يتحاملون عليه وربما كذبوه وسئل القاضي محمد بن يحيى بن مفرج عنه فقال لم يكن كذابا ولكن كان ضعيف العقل)).
ـ وفي ترجمة ((إسماعيل بن أبي أويس)): روى ابن أبى خيثمة عن يحيى بن معين قال: ((إسماعيل بن أبى أويس صدوق ضعيف العقل ليس بذلك)) (التاريخ الكبير) لابن أبي خيثمة (ق/151/ب) مخطوط القرويين، و(الجرح والتعديل) لابن أبي حاتمٍ,.
ولما نقل المزي هذا النص في ((تهذيب الكمال)) زاد بعده: ((يعني أنه لا يحسن الحديث، ولا يعرف أن يُؤَدِّيه، أو يقرأ من غير كتابه)).
ووصفه أبو حاتمٍ, وغيره بكونه ((كان مُغَفَّلاً)) يعني أنه كان سيء الحفظ ضعيف العقل، وفي الوقت نفسه فقد وصفه أبو حاتمٍ, المتشدِّد في نقد الرجال وغيره بكونه كان ((صدوقًا))!
فالرجل صدوق لا غبار عليه من جهة الديانة، غير أنه لسوء عقله وضعفه قد خرجت منه هفواتٌ لا يُعتَدٌّ بها، حتى ولو اعترف على نفسِه مائة مرة، لأنه لا قيمة لاعترافٍ, من فاقدٍ, لأهليَّة الاعتراف!
وحين نضع قول ابن معين (صدوق) مع مثله لأبي حاتمٍ, الرازي وغيره بجوار قول ابن معين (في رواية ابن الجنيد): (مخلط يكذب) وقوله: (ضعيف العقل) فسنرى أن المشكلة كلها جاءت بسبب (مخلط) (ضعيف العقل) وأن قوله (يكذب) لابد وأن يكون بمعنى (يخطئ) والكذب يأتي بمعنى الخطأ في لغة العرب، وهو تعبيرٌ معروفٌ ومشهورٌ في عُرفِ علماء الحديث، لا يحتاج إلى توضيحٍ,، يقولون: كذبَ فلانº أي: أخطأ فلان. وهذا معنًى مشهور في لسان الشريعة واللغة لا أطيل فيه حتى لا نخرج عن الموضوع الأصل هنا.
ولابد أن نحمل (الكذب) هنا على هذا المعنى لوصفهم له بالصدق، وهو ينافي الكذب، فلم يعد من شكٍّ, أنهم أرادوا بالكذب هنا شيئًا آخر، ومعنًى آخر من معاني الكذب لغة وشرعًا، وهو الخطأ.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد