بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: المتن:
القصة تحكي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال لابنه: \"يا بني إن حدث في الناس حدث، فأت الغار الذي رأيتني اختبأت فيه أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكن فيه، فإنه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية\".
وهذه القصة يذكرها القصاص والوعاظ بإسهاب وهي تدور حول هذا المتن.
ثانيًا: التخريج:
الخبر الذي جاءت به هذه القصة أخرجه البزار (ح1178) كذا في \"كشف الأستار\" (2-49)، وابن عدي في \"الكامل\" (6-338) (196-1817) من طريق: خلف بن تميم، عن موسى بن مطير، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبي بكر الصديق به.
ثالثًا: التحقيق:
هذا الخبر الذي جاءت به هذه القصة باطل والقصة واهية.
1- فالخبر غريب حيث قال البزار: \"لا نعلم رواه إلا خلف\".
2- علة هذا الخبر موسى بن مطير.
أ- أخرج العقيلي في \"الضعفاء الكبير\" (4-163-1734) عن يحيى بن معين قال: \"موسى بن مطير كذاب\".
ب- أورده النسائي في \"الضعفاء والمتروكين\" برقم (555) وقال: \"موسى بن مطير: منكر الحديث\".
ح- أورده الدارقطني في \"الضعفاء والمتروكين\" برقم (513) وقال: \"موسى بن مطير، كوفي عن أبيه...ومطير أبوه لا يعرف إلا به\".
قلت: وقد يتوهم من لا دراية له بعلم الجرح والتعديل أن الدارقطني سكت عنه ولا يدرى أنه بمجرد ذكر اسم موسى بن مطير في كتاب \"الضعفاء والمتروكين\" للدارقطني يجعل موسى بن مطير من المتروكين، حيث قال البرقاني: طالت محاورتي مع ابن حمكان للدارقطني عفا الله عني وعنهما في المتروكين من أصحاب الحديث فتقرر بيننا وبينه على ترك من أثبته على حروف المعجم في هذه الورقات. كذا في مقدمة الضعفاء والمتروكين للدارقطني.
د- أورده الإمام ابن أبي حاتم في كتاب \"الجرح والتعديل\" (8-162-717) وقال: \"موسى بن مطير روى عن أبيه عن أبي هريرة روى عنه خلف بن تميم، سألت أبي عن موسى بن مطير فقال: متروك الحديث ذاهب الحديث\".
ه- وأورده ابن حبان في \"المجروحين\" (2-242) وقال: \"موسى بن مطير كان صاحب عجائب ومناكير لا يشك المستمع لها أنها موضوعة إذ كان هذا الشأن صناعته\".
قلت: لذلك أورد هذه القصة الإمام الذهبي في \"الميزان\" (4-223-8928) وجعلها من مناكير موسى بن مطير.
ووافقه الحافظ ابن حجر في \"اللسان\" (6-154) (1903-8688). ونقل عن أحمد أن الناس تركوا حديثه.
ونقل عن أبي نعيم: أن موسى بن مطير روى عن أبيه عن أبي هريرة أحاديث منكرة.
علة أخرى
3- وعلة أخرى: مطير بن أبي خالد.
أورده الإمام ابن أبي حاتم في كتابه: \"الجرح والتعديل\" (8-394-1805) وقال: \"مطير بن أبي خالد روى عن أبي هريرة، وروى عنه ابنه موسى بن مطير، سألت أبي عنه فقال: متروك الحديث\".
وأقره الذهبي في \"الميزان\" (4-129-8597).
وبهذا التحقيق تكون القصة باطلة واهية لما بها من كذابين ومتروكين، فموسى بن مطير كذاب وأبوه متروك.
رابعًا: الأثر السيئ للقصص الواهية على العقيدة:
فاللجوء إلى الغار عند الشدائد وأن الأرزاق تأتي لمن لجأ إليه غدوة وعشيًا لم يفعله أحدٌ من الصحابة ولا التابعين، ومثل هذه القصص الواهية لها أثرها السيئ في شدِّ الرحال إلى هذه الأماكن والتعلق بها، ولقد حذَّر السلف الصالح من هذا، فقد أخرج الإمام أحمد في \"المسند\" (7-6) (ح23901) قال: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا شيبان، عن عبد الملك، عن عمر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام أنه قال: لقي أبو بصرة الغفاري أبا هريرة وهو جاءٍ, من الطور فقال: من أين أقبلت؟ قال: من الطور صليت فيه، قال: أما لو أدركتك قبل أن ترحل إليه ما رحلت، إني سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى\"، والحديث أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح.
خامسًا: اللجوء إلى الدعاء عند الكرب:
فقد أخرج البخاري (ح6346) في كتاب الدعوات باب \"الدعاء عند الكرب\"، ومسلم (ح2730) كتاب الذكر والدعاء - \"باب استحباب الدعاء\" من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: \"لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات، ورب الأرض ورب العرش الكريم\".
سادسًا: اليقين والتوكل عند الشدائد:
فقد أخرج البخاري (ح4563) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: \"حَسبُنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل \".
سابعًا: الأرزاق لا تأتي غدوة وعشية باللجوء إلى الغار:
الأرزاق تأتي بالأخذ بالأسباب، لأن محو الأسباب نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، لأن الشرع أمر بالأخذ بالأسباب في قوله - تعالى -: فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور {الملك: 15}.
وفي أثناء الأخذ بالأسباب نتذكر أن خالق هذه الأسباب هو الله كما في قوله - تعالى -: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض {الأعراف: 96}.
وهذا ما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية في \"مجموع الفتاوى\" (8-169).
حيث قال: \"ومما ينبغي أن يعلم: ما قاله طائفة من العلماء. قالوا: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع\".
وقد أخرج الترمذي في \"السنن\" (ح2344) في كتاب الزهد، باب التوكل على الله، وابن ماجه (ح4164) في كتاب الزهد باب التوكل واليقين، وابن حبان (ح548- موارد)، والحاكم (4-318)، وأحمد في \"المسند\" (1-52) من حديث عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا\". وصححه الحاكم وأقره الذهبي.
وفي الحديث: التوكل على الله حق توكله، ومن حقوق التوكل الأخذ بالأسباب، ومن حق التوكل عدم الالتفات إلى الأسبابº لأن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذاº لأنه ليس مستقلا ولا بد له من شركاء وأضداد، ومع هذا كله فإن لم يسخره مُسَبِّب الأسباب لم يسخر.
فليحذر القارئ الكريم من القصص الواهية التي تهدم التوحيد حتى قال قائلهم: \"عند الشدائد عليك باللجوء إلى مقابر الصالحين فهناك تتنزل الرحمات والبركات\"، واتخذوا من القصص الواهية ما بنوا عليه باطلهم: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها {محمد: 24}، أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون {النمل: 62}.
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد