بسم الله الرحمن الرحيم
كان كثير من الصحابة يعنى برواية ما يقول الرسول أو يفعل أو يقرر. ومنهم المكثر و منهم المقل، ولعل هذه العناية كان يحفزهم إليها ما يجدون من تحريض الرسول على ذلك .
فقد روى أبو داود والترمذي عن زيد بن ثابت أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: (نضر الله المرء سمع منا حديثا فبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه), و روى الشافعي, و البيهقي عن ابن مسعود أنه قال: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها), فكان ذلك يدفعهم إلى التلقي عن رسول الله ثم رواية ما يتلقونه لمن لم يسمعه منه، و ما كان الذي يتلقونه على وتيرة واحدة فمنه ما كان يتلقاه الجم الغفير منهم وهو أغلب السنن العملية التي كانت تبين الصلاة و مناسك الحج, و مناحي الزكاة, و منه ما كان يتلقاه الواحد والاثنان مثلا.
وكان أكثرهم يحفظ ما يسمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - و لا يكتبه لأنهم أمة أمية يعتمدون في كل ما يسمعون على حافظتهم و قل منهم ما كان يكتب و ربما عابوا الكاتب فأحجم، فقد روى أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق)
وكان أكثر الصحابة رواية للحديث أبو هريرة - رضي الله عنه - فقد روى خمسة آلاف وثلثمائة و سبعين حديثا, و روى عنه أكثر من ثمانمائة رجل وهو أحفظ الصحابة. وقد أسند البيهقي عن الشافعي أنه قال: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره. ثم عبد الله بن عمر فقد روى ألفي حديث وستمائة وثلاثين حديثا، ثم أنس بن مالك فقد روى ألفين و مائتين و ثمانين حديثا, ثم ابن عباس فقد روى ألفا و ستمائة وستين حديثا...... إلى غير أولئك من أمثال أبي سعيد الخدري, وأبي بكر الصديق, و عمر بن الخطاب, و عائشة أم المؤمنين و غيرهم وكان من الصحبة المقل في الرواية حتى لا يروي إلا الحديث أو الحديثين أو العدد القليل.
ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خشي كبار الصحابة من كثرة الرواية لأنها قد تؤدي إلى اختلاف وفرقة المسلمين كما أنها قد تفتح باب الكذب في الرواية و لهذا كان الخلفاء الراشدون يشددون في قبول الحديث وكانوا خائفين من أن ينفلت الناس في الرواية فيحدث فيها خلط الصحيح بالسقيم .
ولما صار الأمر لمعاوية بن أبي سفيان, وكان كبار الصحابة قد ماتوا وجدَ في المسلمين فرق وأشياع فضلا عما تجدد للناس من شؤون اجتماعية يريدون معرفة أحكام الدين فيها أحدث كل ذلك في الرواية أمرين هامين:
الأول: شيوع الرواية: لما تجدد للناس من حاجات اضطروا أن يبحثوا عن أحكامها فكانوا يستفتون من بقي من الصحابة فيفتون بما حفظوا من الأحاديث سواء منها ما سمعوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة وما سمعوه من كبار الصحابة.
الثاني: ظهور الكذب في الحديث فقد كانت الفرق التي جدت كالشيعة, والزنادقة, و غيرهم كانت لهم مبادىء تأبى إلا نصرتها فكانوا يخترعوا الحديث اختراعا فللشيعة أحاديث في تقديس عليا وأنه أولى بالخلافة من كل الخلفاء لم تعرف إلا عن طريقهم, و كذا للزنادقة أحاديث تنصر مبادئهم لم تعرف إلا عنهم.
كان وضع الحديث على النحو السابق حافزا لهمم علماء القرن الثاني كي يخلصوا السنة مما شابها فجعلوا همهم البحث عن حال رواة الحديث من التابعين فمن بعدهم, ووصف كل منهم بما يستحق من إتقان و ضبط و عدالة. وكان هؤلاء العلماء ُيسمون (رجال الجرح والتعديل), فمن عدلوه قبلت روايته و من جرحوه تٌرك حديثه.
ولذا صاروا يسألون عن إسناد الأحاديث بعد أن كان الناس يتلقون دون السؤال عن إسناد فما وجدوه عن أهل السنة أخذوه و ما وجدوه عن أهل الفرق الأخرى لا يأخذونه. وعلى نهجهم سار من بعدهم في تحري الأحاديث و بيان صحيحها من سقيمها حتى عنى بعض العلماء بتأليف الكتب في الأحاديث الموضوعة و من أشهر هذه المؤلفات كتاب (اللاليء المصنوعة) لجلال الدين السيوطي.
تدوين السنة:
المشهور أن السنة لم تدون إلا في القرن الثاني والذي دعا إلى هذا التدوين هو أن العلماء قد انتشروا في الأمصار وخيف ضياع الحديث بذلك و بموتهم وإهمال الحفظ فيمن بعدهم و كذا بما كثر من الابتداع الذي أحدثه الخوارج والرافضة.
ولم تكن طرائق مدوني الحديث سواء فقد كان الأوائل منهم يجمعون أحاديث كل باب على حدة غير أنهم كانوا لا يتحرون الصحيح منه, ثم قام بعدهم جماعة من كبار أهل الحديث فدونوا الأحكام مع تحري الصحيح من الأحاديث, فقد صنف الإمام مالك وهو من هذه الطبقة كتابه الموطأ و توخى فيه القوي من أحاديث أهل الحجاز و مزجه بآراء الصحابة و فتاوى التابعين.
ثم قام بعد هؤلاء جماعة قصروا تدوينهم على ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك على رأس المائتين من الهجرة و كان همهم تدوين الحديث مطلقا ليمكن حفظه فصاروا يجمعون الأحاديث التي يرويها كل صحابي في صعيد واحد، لا يفرقون بين ما يكون في التوحيد, أو في الصلاة إلى غير ذلك.
ثم جاء بعد هؤلاء طبقة جعلت تصنيفها يتبع الأبواب فيجمعون الأحاديث التي تتعلق بموضوع واحد على حدة وإن اختلفت الرواة مع تفاوتهم في دقة التحري فمنهم من كان شديد التحري كالبخاري و مسلم, و منهم من كان دونهما كالترمذي في جامعه, و أبي داوود في سننه.
وأشهر الكتب المدونة في الحديث بالإسناد صحيحا البخاري و مسلم, و موطأ الإمام مالك, و سنن أبي داوود, و سنن الترمذي, و سنن النسائي, و سنن ابن ماجة, و سنن البيهقي, و سنن الدارمي, و مسند الإمام أحمد.
على أن الذي اشتهر بين العلماء أن الأصول من هذه الكتب خمسة: صحيح البحاري, و صحيح مسلم, و سنن أبي داوود, و سنن الترمذي, و سنن النسائي.
يعتبر صحيحا البخاري و مسلم في الطبقة الأولى من كتب السنة, وإلى هذا يشير الإمام النووي إذ يقول:\"أول مصنف في الصحيح المجرد صحيح البخاري ثم مسلم و هما أصح الكتب بعد القرآن), فما روياه من الأحاديث مقطوع بصحته أي أنه متيقن أنه منقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متى ما كان مرفوعا إليه سواء في ذلك ما كان متواترا و ما كان خبر آحاد, إلا أن المتواتر يفيد اليقين الضروري الذي لا يحتاج إلى بحث واستدلال, أما خبر الآحاد فيفيد اليقين النظري الذي يحتاج حصوله إلى بحث واستدلال.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد