الحمد لله وبعد:
إنّ من فضل الله على هذه الأمة، أن قيض لها علماء يبينون صحيح الأخبار من سقيمها.
وقد انتشر بين طلبة العلم والعامة أخبار من غير الحديث على أنها قد جاوزت القنطرة من جهة شهرتها، فلا يُحتاج إلى النظر في صحتها وضعفها.
قال الشيخ بكر أبو زيد في كتابه \" التأصيل \" (1/73):
ومن الفوائد المضافة: أن ثمة روايات في غير الحديث يتناقلها العلماء على التسليم بلا نكير، هي عندهم كالجبال الرواسي في الثبوت، لكن عند التخريج لها، تُصَيَّرُها هباءً. ا. هـ.
وهذه الأخبار منها ما يتعلق بالعقيدة، ومنها ما هو حديثي، ومنها ما هو فقهي، وغير ذلك من الأبواب، بل بعضها نُسب إلى أئمة المذاهب الأربعة مع الأسف.
وقد جمعت جملة من هذه الأخبار مع بيان كلام أهل العلم عليها لنشرها في مثل هذه المنتديات نصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين، نسأل الله الأجر والمثوبة.
- هل قصة مهاجر أم قيس سببٌ لحديث إنما الأعمال بالنيات؟:
لقد ذكر بعض العلماء أن قصة مهاجر أم قيس سبب لورود حديث \" إنما الأعمال بالنيات \"، فما صحة هذا القول ؟ قبل الشروع في الإجابة على هذا السؤال نورد هذه الرواية لنعرف مدى صحتها.
- روايات قصة مهاجر أم قيس:
نقل الحافظ ابن حجر في الفتح (1/16) أن سعيد بن منصور رواها بإسناده فقال: وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد بن منصور قال: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله هو بن مسعود قال: من هاجر يبتغي شيئا فإنما له ذلك، هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له: مهاجر أم قيس. ا. هـ.
وقد رواها أيضا الطبراني في المعجم الكبير (9/103) فقال: حدثنا محمد بن علي الصائغ، ثنا سعيد بن منصور به. ا. هـ.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/16): ورواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس. ا. هـ.
وخرجها الحافظ ابن حجر في الإصابة (13/270) فقال: خرج ابن منده، وأبو نعيم، من طريق إسماعيل بن عصام بن يزيد قال: وجدت في كتاب جدي يزيد الذي يقال له: حَبر، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن بن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس، قال ابن مسعود: من هاجر لشيء فهو له، قال أبو نعيم تابعه عبد الملك الذماري عن سفيان انتهى. وهو يدفع إشارة أبي موسى أنه من أفراد حَبر. ا. هـ.
وهذه القصة صحيحة من جهة الإسناد.
قال المزي في تهذيب الكمال (16/126) بعد أن ذكرها: هذا إسناد صحيح. ا. هـ.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (10/590) عند ترجمة سعيد بن منصور بعد إيرادها: إسناده صحيح. ا. هـ.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/101): رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح. ا. هـ.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/16): وهذا إسناد على شرط الشيخين. ا. هـ.
- من قال من العلماء بأن القصة سبب لورود حديث \" إنما الأعمال بالنيات \": لقد ذهب بعض العلماء إلى أن قصة مهاجر أم قيس سبب لورود حديث إنما الأعمال بالنيات ومن هؤلاء:
1- الإمام ابن دقيق العيد:
قال ابن دقيق العيد في \" إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام \" (1/11) بعد أن ذكر اسم الهجرة وعلى ماذا يطلق:
ومعنى الحديث وحكمه يتناول الجميع غير أن السبب يقتضي أن المراد بالحديث الهجرة من مكة إلى المدينة لأنهم نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس فسمي مهاجر أم قيس. ا. هـ.
وقال أيضا: (التاسع) شرع بعض المتأخرين من أهل الحديث في تصنيف في أسباب الحديث كما صُنف في أسباب النزول لكتاب العزيز فوقفت من ذلك على شيء يسير له: وهذا الحديث على ما ذكرناه من الحكاية عن مهاجر أم قيس واقع على سبب فيدخل في هذا القبيل وتنضم إليه نظائر كثيرة لمن قصد تتبعه. ا. هـ.
2 - شيخ الإسلام ابن تيمية: ذكر شيخ الإسلام أن سبب ورود حديث \" إنما الأعمال بالنيات \" هو قصة مهاجر أم قيس في عدة مواطن من الفتاوى. (18/253) (20/222) (27/47)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (18/253): وقد روى أن سبب هذا الحديث أن رجلا كان قد هاجر من مكة إلى المدينة لأجل امرأة كان يحبها تدعى أم قيس فكانت هجرته لأجلها فكان يسمى مهاجر أم قيس فلهذا ذكر فيه أو امرأة يتزوجها وفى رواية ينكحها فخص المرأة بالذكر لإقتضاء سبب الحديث لذلك، والله أعلم. ا. هـ.
قال في الفتاوى (22/218): وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه، مراده بالنية النية التي في القلب دون اللسان باتفاق أئمة المسلمين الأئمة الأربعة وغيرهم.
وسبب الحديث يدل على ذلك فإن سببه: أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس فسمى مهاجر أم قيس. ا. هـ.
وقال أيضا في الفتاوى (27/47): وهذا الحديث الشريف إنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب الهجرة فقال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه، قال ذلك بسبب أن رجلا كان قد هاجر يتزوج امرأة يقال لها أم قيس وكان يقال له مهاجر أم قيس. ا. هـ.
3- الإمام السيوطي: قال في تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (2/929) عند النوع التاسع والثمانون في معرفة أسباب الحديث:
ومن أمثلته: حديث \" إنما الأعمال بالنيات \" سببه أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك الهجرة بل ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس، فسمي مهاجر أم قيس.
وقال في ألفيته في الأبيات المتعلقة بأسباب الحديث:
مِثلُ حَدِيثِ \" إنَّمَا الأَعمَالُ \" *** سَبَبُهُ فِيمَا رَوَوا وَقَــالُوا
مُهَاجِرٌ لأُمِّ قَيسٍ, كَى نَكَح *** مَن ثَمَّ ذِكرُ امرَأةٍ, فِيهِ صَلَح
- العلماء الذين أنكروا ذلك:
1- الحافظ ابن رجب الحنبلي:قال في جامع العلوم والحكم (1/74-75): وقد اشتهرَ أنَّ قصةَ مهاجر أم قيسٍ, هي كانت سببَ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، وذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم، ولم نر لذلك أصلا بإسناد يصح، والله أعلم. ا. هـ.
2- الحافظ ابن حجر العسقلاني: قال في الفتح (1/16): لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك. ا. هـ.
3 - الشيخ أحمد محمد شاكر: نقل في تعليقه على ألفية السيوطي (ص183) كلام الحافظ ابن رجب الحنبلي، وابن حجر - رحمهما الله -.
4- الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد: قال في كتابه \" التأصيل \" (1/73): ومن الفوائد المضافة: أن ثمة روايات في غير الحديث يتناقلها العلماء على التسليم بلا نكير، هي عندهم كالجبال الرواسي في الثبوت، لكن عند التخريج لها، تُصَيَّرُها هباءً.
منها: جعل قصة مهاجر أم قيس التي رواها ابن مسعود - رضي الله عنه - كما في سنن سعيد بن منصور، ومعجم الطبراني سببا لورود حديث عمر - رضي الله عنه -: إنما الأعمال بالنيات، وقد وقع في هذا الغلط الكبار أمثال ابن دقيق العيد - رحمه الله - كما في \" إحكام الأحكام \"، وأنكر ذلك الحفظ منهم ابن رجب وابن حجر رجمهما الله -. ا. هـ.
وبهذا يتبين أن القصة ليست سببا لورود حديث \" إنما الأعمال بالنيات \" كما قاله هذا الجمع من العلماء.
- فــوائــد من قصة مهاجر أم قيس:
هل ورد ذكر اسم مهاجر أم قيس في شيء من الطرق؟
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/24): وقد تقدم النقل عمن حكى أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس ولم نقف على تسميته. ا. هـ.
- ما اسم أم قيس؟
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/24): ونقل ابن دحية أن اسمها قيلة بقاف مفتوحة ثم تحتانية ساكنه.
وذكرها الحافظ في الإصابة (13/270) وقال: أم قيس. غير منسوبة.
وأردف بإم قيس الهذلية وقال عنها: قال أبو موسى: أوردها جعفر، ولم يخرج لها شيئا.
قلت (الحافظ): أخشى أن تكون هي التي قبلها، فإن ابن مسعود يقول في مهاجر أم قيس رجل منا، وابن مسعود هذلي، فالرجل هذلي، فكأن أم قيس المخطوبة أيضا هذلية. ا. هـ.
- هل مهاجر أم قيس كان مولى؟
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/24): وحكى بن بطال عن ابن سراج أن السبب في تخصيص المرأة بالذكر أن العرب كانوا لا يزوجون المولى العربية ويراعون الكفاءة في النسب، فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحتهم فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها من كان لا يصل إليها قبل ذلك انتهى.
ويحتاج إلى نقل ثابت أن هذا المهاجر كان مولى وكانت المرأة عربيه، وليس ما نفاه عن العرب على إطلاقه بل قد زوج خلق كثير منهم جماعة من مواليهم وحلفائهم قبل الإسلام وإطلاقه أن الإسلام أبطل الكفاءة في مقام المنع. ا. هـ.
والله أعلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد