قبسات من السنة النبوية ( 2 )


 بسم الله الرحمن الرحيم

التحذير من الشبهات

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..

وبعد: فإن كل إنسان له هدف يسعى إلى بلوغه في هذه الحياة، وهدف المسلم أن يصل إلى رضوان الله - عز وجل - ونعيم الجنة (يَبتَغُونَ فَضلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضوَاناً) (الحشر: 8) ف من الله هو الجنة. ولابد من طريق واضح المعالم يوصل كل إنسان إلى هدفه، ولقد بين لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من معالم هذا الطريق في قوله \"إن الحلال بيِّن وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمَى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب\" أخرجه الشيخان من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -(صحيح البخاري رقم 52، الإيمان (1/126)، صحيح مسلم، رقم 1599، المساقاة (ص1219)).

فقد تبين من هذا الحديث الشريف الطريقُ الموصل إلى الهدف السعيد، وهو طريق الحلال الخالص الخالي من الشبهات، وقد صدَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث ببيان وضوح الحلال الخالص من شبهة الحرام ووضوح الحرام الخالص من شبهة الحلال، وذلك عند عامة المسلمين وخاصتهم، ولكن هناك بين الحلال والحرام أمور مشتبهة تخفى على كثير من الناس، وهذه الأمور المشتبهة كالقضايا التي اختلف العلماء في حلها وحرمتها بناء على تعارض الأدلة أو لغير ذلك من الأسباب، وبعض العلماء أدخل في ذلك المكروهات.

وذكر الحافظ ابن رجب أن الإمام أحمد بن حنبل فسر الشبهات باختلاط المال الحلال بالحرام، قال: ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإن كان أكثر ماله الحرام فقال أحمد: ينبغي أن يتجنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا أو شيئا لا يُعرف، قال: وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرا أخرج منه قدر الحرام وتصرف في الباقي، وإن كان المال قليلا اجتنبه كله، وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئا فإنه يتعذر معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير(جامع العلوم والحكم /61)

فمن اتقى الشبهات فابتعد منها واكتفى بالحلال الواضح أمره فقد طلب البراءة لدينه، حيث اجتنب الأمور المشكوك فيها وأرسى قدميه على أمور واضحة لن يغير رأيه فيها فيما بعد، واستبرأ لعرضه، حيث حماه من طعن الناس فيه فيما إذا ارتكب أمورًا مشتبهة، وبعض الناس يسارع إلى الطعن في الآخرين من غير تثبت ولا روية ولا اطلاع على وجهة نظرهم فيما ذهبوا إليه.

\"ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام\" قال الحافظ ابن رجب: والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه قد أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وقع في الحرام، فهذا يفسر بمعنيين: أحدهما أن يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنه شبهة ذريعةً إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح، وفي رواية في الصحيحين لهذا الحديث \"ومن اجترأ على ما يَشكٌّ فيه من الإثم أوشَكَ أن يواقع ما استبان\"، والمعنى الثاني أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده لا يدري أهو حلال أو حرام فإنه لا يأمن من أن يكون حراما في نفس الأمر فيصادفُ الحرام وهو لا يدري أنه حرام(جامع العلوم والحكم /63).

إن بين الحلال والحرام خيوطا دقيقة قد تخفى على بعض الناس، فمن قطعها فإنه يُخشى عليه الوقوع في الحرام، ومن احترس منها كان من الحرام أبعد وأنجى.

ذكر ابن المنيِّر عن شيخه القباري أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه.

ذكره الحافظ ابن حجر وقال: ويؤيده رواية ابن حبان من طريق ذكر مسلم إسنادها ولم يسُق لفظها فيها من الزيادة \"اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه\" قال: والمعنى: أن الحلال حيث يُخشى أن يؤول فعله مطلقا إلى مكروه أو حرام ينبغي اجتنابه، كالإكثار مثلا من الطيبات فإنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق، أو يفضي إلى بطر النفس، وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا معلوم بالعادة مشاهد بالعيان(فتح الباري 1/127).

فالمبالغة في المعيشة والمساكن والمراكب قد تلجئ الإنسان إلى الديون ثم إلى الكسب الحرام أو أخذ المال بالربا، أو تأخير قضاء الناس حقوقهم، بينما الاقتصاد في أمور الحياة يجعل الإنسان أقرب إلى الاستقامة وأبعد عن الانحراف.

والورع هو الذي يحمي المؤمن من الوقوع في الشبهات ويباعد بينه وبين الحرام، ولذلك نال به المتقون أعلى الدرجات، وارتفعت به منزلتهم عند المؤمنين، ولقد عَدَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعلى أنواع العبادة كما جاء في قوله \" يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس\" أخرجه ابن ماجه وقال البوصيري: إسناده حسن(سنن ابن ماجه رقم 4217، كتاب الزهد)

ولقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - من قارب المشتبهات بالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرعى ماشيته فيه، فما هو داخل الحمى من المرعى ممنوع منه، فإذا قرب من حدود الحمى فإنه لا يأمن أن تنفلت منه بعض ماشيته فترعى داخل الحمى، أو يشحَّ الكلأ خارج المرعى ويتكاثر داخله فيغضَّ الطرف عن ماشيته كي تصيب من المرعى داخل الحمى.

وهذا المثل يدل على أن الشبهات من المباح الذي قد يوصل إلى الحرام، كما أن ما حول الحمى مباح ولكن قد يوصل إلى الحمى.

ثم يبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا كان ملوك الأرض قد حموا لأنفسهم أجزاء من الأرض لمصالحهم الخاصة، ومع ذلك فقد تعارف الناس على الاعتراف بها ومراعاتها فإن الله - عز وجل - قد حمى عباده من المحارم أن يقعوا فيها حتى تتم سعادتهم في الدنيا والآخرة ولا يبغي بعضهم على بعض، فأولى بمحارم الله - جل وعلا - أن تراعى وأن يتعارف المسلمين على حمايتها!

ثم يبين - صلى الله عليه وسلم - أن جسد الإنسان مكوَّنٌ من أعضاء، وهذه الأعضاء مدفوعة بالغرائز، وأن لهذه الأعضاء حاكما تأتمر بأمره، إن أمرها بخير سارت في طريق الخير، وإن أمرها بشر وقعت فيه، ألا وهو القلب، وهو الذي يعبَّر عنه بالضمير والوجدان.

فالإنسان يرتفع بالعقل عن مرتبة البهيمية ويكون أهلا للخلافة في الأرض، فإن صلَح قلبه صلح جسده كله، بسموه نحو الأهداف العالية وترفٌّعه عن الدنايا، وإن فسد قلبه فسد جسده كلٌّه بالهبوط نحو الأهداف القريبة والارتكاس في الخطايا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply