لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله سرًّا في بداية بعثته إلى أن اجتمع حوله عدد من أصحابه فأمره الله - تعالى - بأن يجهر بالدعوة (فَاصدَع بِمَا تُؤمَرُ وَأَعرِض عَنِ المُشرِكِينَ) (الحجر:94).
وأمره بأن يبدأ بإنذار أقاربه (وَأَنذِر عَشِيرَتَكَ الأَقرَبِينَ) (الشعراء: 214) فأنذر وبشر وجمع بين الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر، الدعوة إلى عبادة الله وحده والتخلق بمكارم الأخلاق، والدعوة إلى نبذ عبادة الأصنام التي هي أعظم المنكر وكذلك التخلي عن مساويء الأخلاق. فلما عاب أصنام المشركين وسفه أحلامهم بعبادتها عرفوا أنه لن يَبقَى على ما هو عليه من دينه ويتركهم على ما هم عليه من المنكر فناصبوه العداء وحاولوا تفريق المؤمنين بدعوته بكل ماأوتوا من قوة وحيلة. ولما رأوا صلابة إيمان أتباعه وأن أمره صار ينتشر بين جميع طبقات المجتمع بسرعة وقوة حاولوا التأثير عليه ليترك دعوته أو يغير من أسلوبها في النكير عليهم وتسفيه أحلامهم..حاولوا ذلك بالترغيب أحيانًا وبالترهيب أحيانًا أخرى ولكن حال دون وصولهم إلى أغراضهم صلابته في إيمانه وعطف عمه أبي طالب عليه ودفاعه عنه وتهديده لقريش إن وصلوا إليه بالأذى.
فلما رأى كفار قريش أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لن يهون أمام تهديداتهم ولن يلين أمام إغراءاتهم وأن عمه أبا طالب قد قام دونه وحماه، وأن أتباعه يتمسكون بدعوته بقوة ويزيد عددهم بسرعة ذهب بعض أشرافهم إلى عمه أبي طالب لبيان أمره والشكوى منه.قال محمد بن إسحاق - رحمه الله -: فلما بادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه فيما بلغني حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلمافعل ذلك أعظموه ([1]) وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله - تعالى -منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون.
وحَدِب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمر الله مظهرًا لأمره لايرده عنه شيء، فلما رأت قريش أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لايُعتبهم ([2])من شيء أنكروه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا أن عمه أبا طالب قد حَدبَ عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالبو ذكر أسماءهم فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقًا وردهم ردًّا جميلاً فانصرفوا عنه. قال: ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينها فتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضًا عليه ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يَهلَك أحد الفريقين أو كما قالوا ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسًا بإسلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ولا خذلانه.
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حُدِّث أن قريشًا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له فَأَبقِ عليّ وعلى نفسك ولا تُحَمِّلني من الأمر مالا أطيق.
قال: فظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد بدا لعمه فيه بَدَاء ([3]) وأنه خاذله ومُسلِمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته قال: ثم استعبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكى، ثم قام، فلما ولَّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا ([4]).
وأخرجه الأئمة البخاري في التاريخ الكبير والحاكم والبيهقي، وذكره الهيثمي من رواية الطبراني وأبي يعلى بنحوه، كلهم من حديث عقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه - وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- حلَّق ببصره إلى السماء فقال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة، فقال أبو طالب: والله ما كذَّبتُ ابن أخي قط فارجعوا. وقال الحافظ الهيثمي: ورجال أبي يعلى رجال الصحيح ([5]) وذكره الحافظ ابن حجر وقال: هذا إسناد صحيح ([6]).
في هذا الخبر بيان لشدة المواجهة وعنف المقاومة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقاها من قومه، حيث استخدم أشراف قومه مختلف الوسائل للتأثير على عمه أبي طالب ليرفع عنه حمايته، فذكَّروه بشرف الآباء والأجداد وهو من المقتنعين بالتمسك بما عليه الأسلاف وذكروه بقدسية الآلهة وهو ممن يعظمونها، ثم هددوه بالحرب بينهم وبينه وهو ممن يكره ذلك، كما حاولوا التلطف معه بالثناء عليه فذكروا شرفه ومنزلته فيهم ليؤثروا عليه فيستجيب لشكايتهم.
ولقد كان موقفًا صعبًا ومحرجًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوقع عمه الذي ناصره وحماه في هذا المأزق المحرج، حيث بقي أبو طالب في حيرة من أمره فهو لا يريد أن يبادىَ قومه بالعداء ولكنه أيضًا لايريد أن يُسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ولا أن يخذله، ولكن إخراج عمه من هذا المأزق يقتضي أن يتنازل عن دعوته وأن يوافق الكفار على تعظيم الأصنام وتفخيم ميراث الآباء وهذا أمر مستحيل، لذلك كان موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - حازمًا وحاسمًا حينما استدعاه عمه وفاوضه في التنازل عن دعوته الكاملة إبقاء عليه وعلى نفسه، حيث بين لعمه أن هذا مستحيل كاستحالة إنزال الشمس والقمر ووضعهما في يديه - صلى الله عليه وسلم-.
وإن هذا لموقف عظيم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث وقف وهو في قلة من أنصاره يتحدى زعماء قريش وهم في عزهم وغناهم ومكانتهم العالية في العرب، وقد بين صلابته في التمسك بهذا الدين ودعوة الناس إليه مهما تكن الظروف، ومهما وُضع في طريقه من عقبات، وأنه على استعداد كامل لأن يقدِّم نفسه رخيصة في سبيل هذا الدين، فضرب بذلك المثل العالي لأمته والقدوةَ الكاملة للدعاة إلى الله - تعالى - في تسخير نفسه بكل طاقاتها لخدمة دعوته ولو أدى ذلك إلى هلاكها. فليسر على دربه المؤمنون المتقون في بذل الجهد في الدعوة وتحمل كل ما يواجههم من صعوبات ونكبات فإن لهم فيه - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة.
هذا وإن تلك الدموع الغالية التي تحدرت من عيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبين لنا خطورة الموقف وصعوبة الأمر عليه، حيث كان بين أمرين كل واحد منهما شاق على نفسه، لكن إيقاع عمه في الحرج أهون عليه كثيرًا من التنازل عن دعوته، بل لا مقارنة بين الأمرين لأن أحدهما صعب والآخر مستحيل.
وإنه من أجل الخروج من هذا المأزق وإصدار القرار السامي الذي لا خيار له فيه فإنه لابد لصاحب النفس الكريمة التي بلغت نهاية الكمال البشري في السمو الأخلاقي أن يعبر عن أساه وأسفه لصاحب المعروف الكبير عليه أن أوقعه في حرج كبير وأدخله في معركة حامية مع قومه، في الوقت الذي كان يتوسل إليه أن لا يوقعه في ذلك، فكانت الدموع الزكية أبلغ تعبير عن ذلك الأسى والأسف.
إن دموع فحول الرجال الأشداء غالية، وتكون أشد غلاء حينما تنحدر من عيني من بلغ الكمال في كل معاني الرجولة، وإن غلاء تلك الدموع ليصور لنا جسامة المسؤولية التي تحملها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- واستهان من أجلها بكل ما تعارف عليه البشر من الأخلاق والأعمال التي تتعارض معها.
-----------
([1]) أي شق ذلك عليهم.
([2]) أي لا يزيل عتبهم بالرجوع عما أنكروه.
([3]) أي ظهر له فيه رأي جديد.
([4]) السيرة النبوية لابن هشام 1/261 264.
([5]) التاريخ الكبير 7/51 رقم 230،
المستدرك 3/577، دلائل النبوة للبيهقي، 2/186
187، مجمع الزوائد 6/14.
([6]) المطالب العالية 4/192 رقم 4278
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد