عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:«إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهادº سلط الله عليكم ذلاًº لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».
توثيق الحديث:
صحيح لغيره، وقد ورد من عدة طرق عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-:
الأولى: من طريق حيوة بن شريح عن أبي عبد الله الخراساني عن عطاء الخراساني حدثه أن نافعاً حدثه عن ابن عمر...وذكره مرفوعاً.
أخرجها: أبو داود (3462)، والدَّولابي في «الكنى والأسماء\"(2/65)، وابن عدي في «الكامل» (5/1998)، والطبراني في «مسند الشاميين» (2417)، والبيهقي في «السنن الكبرى\"(5/316)، وأبـو نعـيم في «حلية الأولياء\"(5/ 208- 209).
قلتُ: سنده ضعيفٌ، وفيه علتان:
الأولى: أبو عبد الرحمن الخراساني، واسمه إسحاق بن أَسِيدٍ,، وهو ضعيف.
الثانية: عطاء -وهو ابن أبي مسلم الخراساني-، قال الحافظ في «التقريب»: «صدوق يهم كثيراً، ويرسل ويدلس».
قلتُ: لكن أمنّا تدليسه هناº لأنه صرح بالتحديث.
قال شيخنا - رحمه الله - في «الصحيحة» (1/ 42- 43/ 11): «وتابعه فَضَالة بن حُصَين عن أيوب عن نافع... به.
رواه العسكري في «تصحيفات المحدثين\"(1/ 191)، وابن شاهين في «جزء من الأفراد\"(1/ 1) وقال: «تفرد به فضالة». قلت: قال أبو حاتم: «مضطرب الحديث». قال البيهقي: «وروي من وجهين ضعيفين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر»...».أ.هـ
قلتُ: يشير إلى الطريق الثانية: من طريق أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر...فذكره.
أخرجه أحمد (2/ 28)، وأبو أمية الطَّرَسُوسي في «مسند ابن عمر\"(22)، والطبراني في «الكبير\"(13583).
وهذا إسناد حسن رجاله ثقاتº غير أبي بكر بن عياش، فقد وثقه جماعةº لكن في حفظه شيءº ولا سيما في روايته عن الأعمش، فحديثه حسن، وعطاء بن أبي رباح سمع ابن عمرº كما عند الحاكم (4/ 540) بإسناد حسن، والطبراني في «الكبير\"(13578 و13605 و13615).
وقد كنتُ أميلُ إلى عدم سماعه من ابن عمرº لما ورد عن الإمام أحمدº كما في «المراسيل\"(ص126)، وعن يحيى ابن معين، كما في «تاريخه» (2/ 403)، وهذا مرجوعٌ عنه، وكذلك ما انبنى عليه من أحكام واستدراكات ذكرتها في تحقيقي لـ«تحذير أهل الإيمان من الحكم بغير ما أنزل الرحمن\"للإسعردي.
وقد جوَّد إسناده شيخ الإسلام - رحمه الله - كما في «مجموع الفتاوى» (29/ 30)، ووافقه شيخنا -رحمه الله - في «الصحيحة» (1/43/11)، وصححه ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام\"(5/295 -296 / 2484)، والشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - في «شرح المسند\"(7/27/4825).
وقد تعقب ابنُ التركماني البيهقيَّ - رحمهما الله - قائلاً: «ذكره ابن القطان من وجه صحيح عن عطاء عن ابن عمر فقال: نقلت من كتاب «الزهد» لأحمد بن حنبل، قال: حدثنا الأسود بن عامر: ثنا أبو بكر -هو ابن عياش-، عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر... وذكره».
ثم قال: «ثم صححه - أعني: ابن القطان-»، وقال: «هذا إسنادٌ كلٌّ رجالِه ثقات».
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في «بلوغ المرام » (3/ 41- سبل السلام): «ورجاله ثقات، وصححه ابن القطان».
ولكنه عاد وتعقب ابن القطان في «التلخيص الحبير\"(3/ 19)، فقال:
«وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلولٌº لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاًº لأن الأعمش مدلِّس، ولم يذكر([1]) سماعه من عطاء، وعطاء يُحتمل أن يكون هو الخراسانيº فيكون فيه تدليس التَّسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر، فرجع الحديث إلى الإسناد الأول، وهو المشهور»!
قلتُ: أبعد الحافظ ابن حجر - رحمه الله - النٌّجعَةَ للوجوه الآتية:
أ- هو الذي جعل الأعمش في الطبقة الثانية من المدلِّسين، «هم الذين احتمل أئمة الحديث تدليسهم».
ب- روى الأعمش أحاديث بلفظ: «عن\"في «الصحيحين».
ت- لم يصف إمامٌ متقدمٌ الأعمشَ بتدليس التَّسوية.
ث- تدليس التَّسوية يسقط الضعفاء، ونافع ليس كذلك.
جـ- عطـاء: هـو ابـن أبـي رباح - وليس عطاءً الخراساني-º كما جاء صريحاً عند أحمد والطبراني.
أما الوجه الثاني الذي أشار إليه الإمام البيهقي، فهو: من طريق ليث عن عبد الملك عن عطاء قال: قال ابن عمر: أتى علينا زمان وما نرى أن أحدنا أحقٌّ بالدَّنانير والدَّراهم من أخيه المسلم، حتى كان ها هنا بأَخَرةٍ,º فأصبح الدَّنانير والدَّراهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -...وذكره.
أخرجه أبو يعلى (5659)، والطبراني في «الكبير\"(13585).
قلت: ضعفه ابن القطان - رحمه الله - في «بيان الوهم والإيهام\"(5/ 295 2448)، وشيخنا - رحمه الله - في «الصحيحة» (1/ 43/11)، وأعلاه بليث بن أبي سليم، وهو كما قالاº فإنه ضعيفº لتدليسه وسوء حفظه واختلاطه، ومما يدل على ذلك اضطرابه في هذا الإسناد: فقد أخرجـه ابن أبـي الدٌّنيا في «العقوبات\"(317)، والرٌّوياني في «مسنده» (ق 247 /ب)، وأبو نعيم في «الحلية\"(1/ 313- 314 و 3/319) عن عطاء... فأسقط من بينهما: عبد الملك بن أبي سليمان.
الثالثة: من طريق أبي جناب يحيى ابن أبي حَيَّة، عن شهر بن حوشب، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -... وذكره.
أخرجه أحمد (2/ 42 و84).
قلتُ: إسناده ضعيفº لضعف أبي جناب، وشهر بن حوشب.
وقد ضعفه الشيخ أحمد شاكر في «شرح المسند\"(7/ 88/ 5007).
وقد قوى الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في «تفسير القرآن العظيم\"(2/356) الطريق الأولى بهذه الطريق، وجعلها شاهداً لها.
الرابعة: من طريق أزهر بن مروان الرَّقاشي قال: أخبرنا غسان بن بُرزِين، قال: حدثني راشد أبو محمد الحِمَّاني، قال: قال ابن عمر... وذكره مرفوعاً.
أخرجه ابن أبي الدنيا في «العقوبات\"(24).
قلتُ: إسناده ضعيفº لانقطاعه بين راشد بن نَجِيح الحماني وابن عمر.
ولـه شاهد من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -:
أخرجه ابن عدي في «الكامل» (2/ 455) من طريق بشير بن زياد الخراساني، ثنا ابن جريج، عن عطاء، عن جابر، قال: كنا في زمان وما يرى أحدنا أحقّ بالدّينار والدّرهم من أخيه المسلم، وبالله الذي لا إله إلا هو لقد سمعت - صلى الله عليه وسلم - يقول...وذكره.
ثم قال ابن عدي - في (بشير) -: «وهو غير مشهور في حديثه بعض النّكرة.
وقال: وبشير بن زياد هذا ليس بالمعروفº إلا أنه يروي عن غير المعروفين ما لا يتابعه أحد عليه».
قلتُ: فالإسناد ضعيف.
وبالجملةº فالحديث صحيح لطرقه وشاهده، والله أعلم.
وقد قوّى الإمام ابن قيم الجوزية الحديث في «تهذيب السنن» (5/ 104)، فقال: «وهذان إسنادان حسنان يشد أحدهما الآخر.
فأما رجال الأولº فأئمة مشاهير، وإنما يخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء، أو أن عطاءً لم يسمعه من ابن عمر.
والإسناد الثاني: يبين أن للحديث أصلاً محفوظاً عن ابن عمرº فإن عطاءً الخراساني ثقة مشهورº وحيوة كذلك، وأما إسحاق أبو عبد الرحمنº فشيخ روى عنه أئمة المصريين، مثل: حيوة، والليث، ويحيى بن أيوب وغيرهم.
وللحديث طريق ثالث: رواه السري ابن سهيل: حدثنا عبد الله بن رشيد: حدثنا عبد الرحمن بن محمد، عن ليث، عن عطاء، عن ابن عمر... وذكره.
وهذا يبيِّن أن للحديث أصلاً، وأنه محفوظ».
وقـال الشوكاني في «نيل الأوطار\"(5/ 318): «وهذه الطرق يشد بعضها بعضاً».
* غريب الحديث :
«العِينة»:هو أن يبيع شيئاً من غيره بثمن مؤجل، ويسلِّمه إلى المشتريº ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن أقل من ذلك القدر، يدفعه نقداً.
قال الشوكاني في «نيل الأوطار\"(5/319): «قال ابن رسلان: هذه المبايعة عينية لحصول النقد لصاحب العينةº لأن العين هو المال الحاضر، والمشتري إنما يشتريها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ليصل إلى مقصوده».
قال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (29/ 30): «ومن ذرائع ذلك (مسألة العينة)º وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل، ثم يبيعها منه بأقل من ذلك، فهذا مع التواطؤ يبطل البيعينº لأنها حيلة».
«أخذتم أذناب البقر»: اشتغلتم بالحرث ولزمتم آلته التي تجرها الأبقار.
«ورضيتم بالزرع»: تفرَّغتم له.
«وتركتم الجهاد»: المتعين فعلُهُ.
«ذلاً»: صَغَاراً وهواناً ومسكنة.
* فقه الحديث:
1- تحريم بيع العِينةº لأنها حيلة ووسيلة إلى الربا، وقد أفاض العلامة ابن قيم الجوزية في «تهذيب السنن» (5/100 -109) في بيان أدلة تحريم العينة وبيان صورها.
ورحم الله من قال: «احذروا العينةº فإنها لَعِينة».
2- التّورق أن يكون مقصود المشتري الدّراهم، فيبتاع السِّلعة إلى أجلº ليبيعها لثالثº ويأخذ ثمنها.
وهذه الصورة كرهها من السلف: عمر بن عبد العزيز، ومالك، وأحمد.
3- الإخلاد إلى الأرض، والاشتغال بالدنيا بَرِيدُ الذلº عن أبي أمامة الباهلي قال: ورأى سكّة وشيئاً من آلة الحرث، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يدخل هذا بيتَ قوم إلا أدخله الله الذٌّل». أخرجه البخاري (2321)
قال شيخنا الإمام الألباني- رحمه الله - في «الصحيحة» (1/ 41/ 10) مبيناً معنى الذٌّل:
«الأول: أن المراد بالذٌّل: ما يلزمهم من حقوق الأرض التي تطالبهم بها الولاة من خراج، أو عُشر، فمن أدخل نفسه في ذلك، فقد عرضها للذّل.
الثاني: أنّه محمولٌ على من شغله الحرث والزرع عن القيام بالواجباتº كالحرب ونحوه، وإلى هذا ذهب البخاريº حيث ترجم للحديث بقولـه:«باب ما يُحذَرُ من عواقب الاشتغال بآلة الزرع، أو مجاوزة الحدِّ الذي أُمر به».
فإن من المعلوم أنَّ الغلو في السعي وراء الكسب يُلهي صاحبه عن الواجب، ويحمله على التكالب على الدّنيا، والإخلاد إلى الأرض، والإعراض عن الجهادº كما هو مشاهد من كثير من الأغنياء».
4- التّكثر من الدّنيا يفضي إلى الانصراف عن الجهاد في سبيل الله، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتخذوا الضَّيعةº فترغبوا في الدنيا».
أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير\"(2/2/54)، والترمذي (2328)، وأحمد (1/ 377 و 426 و 443)، وأبو داود الطيالسي (379)، والبغوي في «شرح السنة» (14/ 237)، والخطيب البغـدادي في «تاريـخ بغداد\"(1/ 18)، وأبو يعلى (5200)، وابن حبان (710)، والحاكم (4/ 322) من طريق شِمرِ بن عطية، عن مغيرة ابن سعد ابن الأرقم، عن أبيه، عنه... به.
قلتُ: هذا إسناد ضعيفº فإن مغيرة ابن سعد بن الأرقم وأباه فيهما جهالة.
وللحديث شاهد عن عبد الله بن عمرº عزاه شيخنا -رحمه الله- في «الصحيحة» (1/ 46/ 12) للمحاملي في «الأمالي» (69/2) من طريق ليث، عن نافع عنه، وقال: «سنده حسن في الشواهد».
قلت: فالحديث حسن لغيره بمجموع ذلك.
قال شيخنا - رحمه الله - في «الصحيحة» (1/ 46- 47): « واعلم أن التّّكثر المفضي إلى الانصراف عن القيام بالواجبات -التي منها الجهاد في سبيل الله: هو المراد بالتهلكة المذكورة في قـولـه:{وَلا تُلقُـوا بِأَيدِيـــكُم إِلَى التَّهلُكَة} [البقرة:195]، وفي ذلك نزلت الآيةº خلافاً لما يظن كثيرٌ من الناس(!)، فقد قال أسلم أبو عمران: غزونا من المدينة نريد القسطنطينيةº وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم مُلصِقُو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل منا على العدوِّº فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله! يلقي بيديه إلى التهلُكة! فقال أبو أيوب الأنصاري: إنما تَأوَّلون هذه الآية هكذاº أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة، أو يُبلِي من نفسه! إنما نزلت هذه الآية فينا معشرَ الأنصار، لمَّا نصر الله نبيه وأظهر الإسلامº قلنا بيننا خفيّاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هَلُمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها! فأنزل الله - تعالى -:{وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلقُوا بِأَيدِيكُم إِلَى التَّهلُكَةِ} [البقرة:195]، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد.
قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله، حتى دفن بالقسطنطينية.
رواه أبو داود (1/ 393)، والنسائي في «الكبرى\"(6/ 299/ 1029)، وابن أبي حاتم في «تفسيره\"(1/10/2)، وابن حـبان (1667-مـوارد)، والحـاكم (2/275) وقال: «صحيح على شرط الشيخين»! ووافقه الذهبي!
وقد وهماº فإن الشيخين لم يخرجا لأسلم هذاº فالحديث صحيح فقط\"أ.هـ كلام شيخنا - رحمه الله -.
بصيرة:
1- قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - في «شرح المسند\"(7/ 27): «وهذا أمرٌ مشاهدٌ ظهرت آثاره في المسلمينَ حين صاروا عبيد الأرضِ والزرعِ بل هو ظاهرٌ في كلِّ أمُة استعبدتها الأرض وقصرت نفسها على الزرع.
والجهادُ هو ملاكِ الأمرِ كلِّه في الإسلام رضي عبيد أوروبة أم أبوأ»
2- النفوسُ المتعلقةُ بالدنيا لا تَصلحُ للجهاد في سبيل الله: إن افتن الدنيا تدع النفس إلى الهلعِ عند اللقاءِ، والجبن عندما يُحمي الوطيسُ حباً في البقاء وَمن كان كذلك فهو بذرةُ ضعفٍ,، وثغرةٌ يتسللُ منها العدوº فلا بد من استأصاله من صفوف الجيش المسلمِ.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها، ولا أحدٌ بنى بيوتاً ولم يرفع سقفها، ولا آخر اشترى غنماً أو خلعات([2]) وهو ينتظر ولادتها». [أخرجه البخاري (6/ 220-فتح)، ومسلم (1747)].
فانظر كيف نقى النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشه ممن له أدنى تعلق بالدنيا، فإذا كانت الظاهرةُ عامةٌ في الأمةِ فعندئذٍ, فلا بد من عمليةٍ, تربويةٍ, ربانيةٍ, شاملةٍ, قبل الجهاد بالسيفº لأن ذلك مرقاة الجهاد الحقيقي.
3- الرجوع إلى الدين هو الطريق إلى رفع الذل:
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «...سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم\"فيه بصيرتان:
الأولى: إن الرجوع إلى الدين طريقنا إلى رفع الذلº لأن الإعراض عن الدين سبب مباشرٌ للذل والهزيمة وخور العزيمة.
عن جبير بن نفير قال: «لما فتحت قبرص فُرِّق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي!! فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله؟!
قال: ويحك يا جبير!! ما أهون الخلقِ على اللهِº إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرةٌ ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى». [أخرجه أحمد في «الزهد» (ص 176)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء\"(1 /216- 217)].
قلت: إسنادُه صحيحٌ.
فإذا انهزم المسلمونَ وأصابهم الذّل ووقعوا في الفتنةِ فعليهم أن يتهموا أنفسهم {أَوَلَمَّا أَصَابَتكُم مُصِيبَةٌ قَد أَصَبتُم مِثلَيهَا قُلتُم أَنَّى هَذَا قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ} [آل عمران:165]
فهذه سنة الله - سبحانه - أن لا يَسلبُ قوماً نعمةُ أنعم الله بها عليهم إلا إذا أعرضوا وغيروا ما منَّ اللهُ عليهم من إيمان وهداية وخير.
قال - تعالى -:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَم يَكُ مُغَيِّراً نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ, حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53]، وكذلك لا ينزع عنهم الذل إلا إذا غيروا ما بأنفسهم.
قال - سبحانه و تعالى -:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ, حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَومٍ, سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِن دُونِهِ مِن وَالٍ,} [الرعد:11].
وهذه السٌّنَّة الربانية حق واقع ما له من دافعº فإن من يعجز عن تغير نفسه فلن يستطيع أن يغير أمته.
«ولذلك فإنَّ التغييرُ يبدأ من النَّفسِ ولا يكون ذلك إلا بالتربية الإيمانية الحقَّةِ، والإلتزام الصادقُ، والرجوعُ الأمينُ إلى دين الله كما قال - تعالى -: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيُّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
الثانية: الدِّين الذي يَرفعُ الذَّل هو الأمر الأول الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
عن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: -ونحن جلوس على بساط-: «إنّها ستكونُ فتنةٌ». قالوا: وكيف نفعل يا رسول الله؟ فرد يده إلى البساطº فأمسك به، فقال: «تفعلون هكذا»، وذكر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً: «أنها ستكونُ فتنةٌ» فلم يسمعه كثيرٌ من الناس، فقال معاذ بن جبل: ألا تسمعون ما يقول رسول الله؟ فقالوا: ما قال قال: «إنها ستكون فتنة» فقالوا: فكيف لنا يا رسول الله؟ وكيف نصنع؟
قال: «ترجعون إلى أمركم الأول». [خرجه الطبراني «في الكبير\"(3307) و«الأوسط\"(8679)].
من طريق عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن عباس بن عباس العتباني، عن بكير بن عبد الله بن الأشج أن بسر بن سعيد حدثه أن أبا واقد الليثي: (وذكره).
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/303): «وفيه عبد الله بن صالح» وقد وثق، وفيه ضعفٌ وبقية رجاله رجالُ الصحيح».
قلت: لم ينفرد به بل تابعه يحي بن عبد الله بن بكير عند الطحاوي في «شرح مشكل الآثار\"(1184) وهو ثقةº فالحديث صحيح.
ولذلك فلا بد من تصفية الدِّين مما ليس منه: عقيدةً، ومنهجاً، وسلوكاً، وتربية، ودعوةً، ودعاةً.
ـــــــــــــــــ
[1] في الأصل: «ينكرون»، وهو تصحيف ظاهر.
[2] هي النوق الحوامل، وقد يطلق على غيرها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد