( ولا يشك حديثي أن الناقد إذا قال: \"حديث صحيح\" أو \"حديث حسن\" ، أن الأصل في ذلك غالبا الحكم على الإسناد.
ولذلك انتقد من انتقد على من صنف الصحيح ، روايته عن بعض من فيهم ضعف ، بناء على أن التصحيح يقتضي صحة الإسناد ، وصحة الإسناد تستلزم ثقة رواته.
ولذلك أيضا قالوا الكلمة المشهورة ، عن الرجل من رواه الصحيحين: \"هذا جاز القنطرة\".
وعلى أن الصحة تعني صحة الإسناد بنى الحاكم مستدركه عندما قال في مقدمته: \"وقد سألني جماعة من أعيان أهل العلم بهذه المدينة أن أجمع كتابا يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها º إذ لا سبيل إلى إخراج ما لا علة له ، فإنهما لم يدعيا ذلك لأنفسهما\".
ثم قال: \"وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان رضي الله عنهما ، أو أحدهما ، وهذا شرط لصحيح عند كافة فقهاء أهل الإسلام ، أن الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة\".
ولذلك أيضا ذكر ابن دقيق العيد في (الاقتراح) أن من طرق معرفة كون الراوي ثقة ، تخريج البخاري ومسلم ، أو أحدهما له ، في الصحيح محتجين به ، ثم عمم عندما قال: \"فيستفاد من ذلك جملة كثيرة من الثقات ، إذا كان المخرج قد سمى كتابه الصحيح أو ذكر لفظا يدل على اشتراطه لذلك فلينتبه لذلك\".
وقد تبع ابن دقيق العيد على ذلك كل من السخاوي في (فتح المغيث) والسيوطي في (تدريب الراوي).
وزاد الذهبي عليه فوائد ، حيث قال في (الموقظة): \"الثقة من وثقه كثير ولم يضعف ، ودونه: من لم يوثق ولا ضعف ، فإن خرج حديث هذا في (الصحيحين) فهو موثق بذلك ، وإن صحح له مثل الترمذي وابن خزيمة ، فجيد أيضا، وإن صحح له كالدارقطني والحاكم ، فأقل أحواله: حسن حديثه\".
ثم تكلم الذهبي –رحمه الله-كلاما نفيسا على ما نستفيده من تخريج صاحبي الصحيح في الحكم على الراوي ، على تفصيل تخريجهما له ، إن كان في الأصول ، أو الشواهد والمتابعات ، وإن كان ممن تكلم فيه من متعنت ، أو منصف ، أو لم يتكلم فيه ، ففصل رحمه الله وأبدع! لكن ما سبق يكفيني هنا.
ومن أهم ما جاء في كلام الإمام الذهبي تنصيصه على الترمذي ، وأن من صحح له فإنه (ثقة) ، أو كما عبر هو (جيد).
ثم إن هذا ينسف ما سبق أن ذكرناه من اتهام الترمذي بالتساهل ، حيث إن الإمام الذهبي هو أعظم من وصف الترمذي بذلك ، فتمسك به المتمسكون من غير موازنة كلام الذهبي ببعضه ، بل أخذوا بعض كلام الذهبي ، فردوا به تصحيح الترمذي جملة وتفصيلا!!
وقد وجدت لأبي الحسن ابن القطان تطيبقا عمليا لهذه الطريقة في معرفة الثقات حيث قال في (بيان الوهم والإيهام): \"وحبيب بن سليم العبسي قد روى عنه وكيع وعيسى بن يونس وأبو نعيم قاله أبو حاتم ولم يزد وأرى أن الترمذي وثقه بتصحيح حديثه\".
وفي موطن آخر ، ذكر ابن القطان حديثا صححه الترمذي ، وفي إسناده من جُهِّل ، فقال متعقبا: \"وزينب كذلك ثقة ، وفي تصحيح الترمذي إياه-يعن الحديث-توثيقها ، وتوثي سعد بن إسحاق ولا يضر الثقة أن لا يروي عنه إلا واحد\".
قلت: هذا كله في ما إذا صحح الناقد الحديث من دون تقييد التصحيح بالإسناد بمثل قوله: (حديث صحيح). وأما إذا قيد التصحيح أو التحسين بالإسناد بمثل قوله: (إسناد صحيح) أو (حسن الإسناد) فهذا كالنص على قبول رواته ، والاحتجاج بهم راويا راويا.
ومثل هذا في التنصيص على الاحتجاج بالراوي في الإسناد المصحح أو المحسن ، ما لو قال الناقد: (حديث صحيح غريب) أو (حسن غريب) أو (حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه) أو (حسن لا نعرفه إلا من حديث فلان عن فلان) فهذه كلها وما ماثلها أقوال كالنص على الاحتجاج بأولئك الرواة الذين تفردوا بذلك الحديث: إسناده أو متنه أو بكليهما.
بل إن دلالة تصحيح الأفراد والغرائب على الحجية برواتها أقوى من مجرد تصحيح الإسناد ، لما لا يخفى: من أن الغرائب والأفراد لا تقبل إلا ممن يقوى على الانفراد بها. وربما صحح إسناد لو تفرد به أحد رواته ولم يتابع عليه لما صحح.
فقول الترمذي –مثلا- عن حديث: \"حسن غريب\" فهذا يعني أنه حسن لذاته كما قرره أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري (ت 734 هـ) في (النفح الشذي شرح جامع الترمذي) وكما وافقه عليه الدكتور نور الدين عتر في كتابه (الإمام الترمذي) ، وعلى ذلك غيرهما وهو الصحيح الظاهر.
والحسن لذاته ، يعني أنه حسن الإسناد ، لكن يزيد التعبير بغرابة الحديث دلالة التحسين على الاحتجاج برواته ، كما سبق وأن شرحناه آنفا.
وقد وجدت تطبيقا عمليا للحافظ ابن حجر يقطع بذلك ، حيث قال في (تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة) في ترجمة (عبدالله بن عبيد الديلي) قال: \"أخرج حديثه الترمذي والنسائي ، وقال: \"حسن غريب\" ، وهذا يقتضي أنه عنده صدوق معروف\") المرسل الخفي 1/313-316.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد