وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم، قام المسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري، ففرضوا عليه الحصار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح هذا الحصن دعوة خاصة.
روى ابن إسحاق أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: لقد جهدنا، وما بأيدينا من شيء، فقال: \" اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها ، أكثرها طعامًا ووَدَكًا \" تاريخ الطبري(2/135). فغدا الناس ففتح الله -عز وجل- حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه(1). ولما ندب النبي-صلى الله عليه وسلم- المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصن كان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجمة، ودار البراز والقتال أمام الحصن، ثم فتح الحصن في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات.
ولأجل هذه المجاعة الشديدة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق، كان رجال من الجيش قد ذبحوا الحمير، ونصبوا القدور على النيران، فلما علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك نهي عن لحوم الحمر الإنسية.
فتح قلعة الزبير:
وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحول اليهود من كل حصون النَّطَاة إلى قلعة الزبير، وهو حصن منيع في رأس قُلَّةٍ,، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه، ففرض عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحصار، وأقام محاصرًا ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود، وقال: يا أبا القاسم، إنك لو أقمت شهرًا ما بالوا، إن لهم شرابًا وعيونًا تحت الأرض، يخرجون بالليل ويشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك. فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، قتل فيه نفر من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فتح قلعة أبي:
وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيه، وفرض المسلمون عليهم الحصار، وقام بطلان من اليهود واحد بعد الآخر بطلب المبارزة، وقد قتلهما أبطال المسلمين، وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء. وقد أسرع أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحام القلعة، واقتحم معه الجيش الإسلامي، وجرى قتال مرير ساعة داخل الحصن، ثم تسلل اليهود من القلعة، وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في الشطر الأول.
فتح حصن النَّزَار:
كان هذا الحصن أمنع حصون هذا الشطر، وكان اليهود على شبه اليقين بأن المسلمين لا يستطيعون اقتحام هذه القلعة، وإن بذلوا قصارى جهدهم في هذا السبيل، ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء، بينما كانوا قد أخلوا منها القلاع الأربعة السابقة.
وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار، وصاروا يضغطون عليهم بعنف، ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلا للاقتحام فيه. أما اليهود فلم يجترئوا للخروج من الحصن، وللاشتباك مع قوات المسلمين، ولكنهم قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء الحجارة. وعندما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بنصب آلات المنجنيق، ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف، فأوقعوا الخلل في جدران الحصن، واقتحموه، ودار قتال مرير في داخل الحصن انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة، وذلك لأنهم لم يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخرى، بل فروا من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم. وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتح الشطر الأول من خيبر، وهي ناحية النَّطَاة والشَّقِّ، وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة أخري إلا أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون، وهربوا إلى الشطر الثاني من بلدة خيبر.
فتح الشطر الثاني من خيبر:
ولما أتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتح ناحية النطاة والشق، تحول إلى أهل الكتيبة التي بها حصن القَمُوص: حصن بني أبي الحُقَيق من بني النضير، وحصن الوَطِيح والسٌّلالم، وجاءهم كل فَلِّ كان انهزم من النطاة والشق، وتحصن هؤلاء أشد التحصن.
واختلف أهل المغازي هل جرى هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلاثة أم لا؟ فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص، بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للاستسلام(2).
أما الواقدي، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاث إنما أخذت بعد المفاوضة، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال، وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال.
ومهما كان، فلما أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الناحية– الكتيبة- فرض على أهلها أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يومًا، واليهود لا يخرجون من حصونهم، حتى همّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينصب عليهم المنجنيق، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلح.
المفاوضة:
وأرسل ابن أبي الحُقَيق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنزل فأكلمك؟ قال: \" نعم \"، فنزل، وصالح على حقن دماء مَن في حصونهم من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء - أي الذهب والفضة - والكُرَاع والحَلقَة إلا ثوبًا على ظهر إنسان(3)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: \" وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا \"، فصالحوه على ذلك(4)، وبعد هذه المصالحة تم تسليم الحصون إلى المسلمين، وبذلك تم فتح خيبر.
قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد:
وعلى رغم هذه المعاهدة غيب ابنا أبي الحقيق مالاً كثيراً، غيباً مَسكاً فيه مال وحُلُي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير.
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكِنَانة الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتي رجل من اليهود فقال: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكنانة: \" أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟ \" تاريخ الطبري(2/138). قال: نعم، فأمر بالخربة، فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبي أن يؤديه.
فدفعه إلى الزبير، وقال: عذبه حتى نستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بمحمود بن مسلمة - وكان محمود قتل تحت جدار حصن ناعم، ألقي عليه الرحي، وهو يستظل بالجدار فمات -. وذكر ابن القيم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل ابني أبي الحقيق، وكان الذي اعترف عليهما بإخفاء المال هو ابن عم كنانة. وسبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، وكانت عروساً حديثة عهد بالدخول.
قسمة الغنائم:
وأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجلي اليهود من خيبر، فقالوا: يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض، نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون حتى يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر، ما بدا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقرهم، وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم. وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم، لنوائبه وما يتنزل به من أمور المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب، وكانوا ألفا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد(5).
ويدل على كثرة مغانم خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر، وما رواه عن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر(6)، ولما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل(7).
قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين:
وفي هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ومعهم الأشعريون أبو موسى وأصحابه. قال أبو موسي: بلغنا مخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه - أنا وأخوان لي - في بضع وخمسين رجلاً من قومي، ركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفرًا وأصحابه عنده، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثنا وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم-حين فتح خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم(8).
ولما قدم جعفر على النبي -صلى الله عليه وسلم- تلقاه وقَبَّلَ ما بين عينيه وقال: \" والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر \"(9).
وكان قدوم هؤلاء على أثر بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري يطلب توجيههم إليه، فأرسلهم النجاشي على مركبين، وكانوا ستة عشر رجلاً، معهم من بقي من نسائهم وأولادهم، وبقيتهم جاءوا إلى المدينة قبل ذلك(10).
الزواج بصفية:
ذكرنا أن صفية جعلت في السبايا حين قتل زوجها كِنَانة بن أبي الحقيق لغدره، ولما جمع السبي جاء دحية بن خليفة الكلبي، فقال: يا نبي الله، أعطني جارية من السبي، فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة وبني النضير، لا تصلح إلا لك، قال: \" ادعوه بها \". فجاء بها، فلما نظر إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: \" خذ جارية من السبي غيرها \"، وعرض عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلام فأسلمت، فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، حتى إذا كان بسد الصهباء راجعًا إلى المدينة حلت، فجهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل، فأصبح عروسًا بها، وأولم عليها بحيس من التمر والسمن والسَّوِيق، وأقام عليها ثلاثة أيام في الطريق يبني بها(11).
ورأى بوجهها خضرة، فقال:\" ما هذا؟ \". قالت: يا رسول الله، رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه، وسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئا، فقصصتها على زوجي، فلطم وجهي. فقال: \" تمنين هذا الملك الذي بالمدينة \"(12).
1 - ابن هشام ملخصاً 2/ 332 والودك: دسم اللحم.
2 - ابن هشام (2/ 331، 336، 337).
3 - ولكن صرح في رواية أبي داود أنه عاهد على أن المسلمين يسمحون لليهود عند جلائهم عن خير أن يأخذوا من الأموال ما حملت ركابهم (انظر سنن أبي داود، باب ما جاء في حكم أرض خيبر(2/ 76).
4 - زاد المعاد (2/ 136).
5 - زاد المعاد (2/ 137، 138).
6 - البخاري، الفتح، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. رقم (4242).
7 - زاد المعاد (2/ 148).
8 - البخاري، الفتح، كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس من نوائب المسلمين. رقم (3136)
9 - زاد المعاد (2/ 139). وذكره الحاكم في مستدركه ، مناقب جعفر بن عبد المطلب(3/230).
10 - محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضر (1/ 128).
11 - زاد المعاد (2/ 137).
12 - زاد المعاد 2/ 336.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد