الخطبة الأولى :
الحمد لله القائل: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم}. والصلاة والسلام على خير رسول وأعظم نبي ، من أرسله ربه فأخرج به الناس من الظلمات إلى النور وعلى آله الطيبين وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد : فاتقوا الله أمة الإسلام .. ثم اعلموا أنه من أعظم المنن التي امتن الله بها علينا أن جعلنا مسلمين وجعلنا من أمة الإسلام وجعلنا من أتباع خاتم الأنبياء المرسلين ، وإمام العالمين ، وسيد ولد آدم أجمعين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون وإن كان أفول سنة هجرية وابتداء سنة أخرى يذكرنا بشيء من عظمة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. يذكرنا بتلك الحادثة العظيمة أعني حادثة الهجرة التي هجر فيها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بلده مكة ليهاجر إلى المدينة ليؤسس هناك دولة الإسلام الخالدة ، ويضع أسسها الراسخة ، ليعلن للأمة كل الأمة أن هذا الدين هو أعظم الأديان ولن يقبل الله سواه : {وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلاَمِ دِيناً فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} آل عمران85 .
الهجرة وما قبلها وما بعدها تصور لنا أيها المسلمون ، مدى ما كان يتعرض له صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهله من إيذاء واستهزاء ..هم لا يقصدون ذاته فحسب بل الأمر الذي أرادوا هو الطعن في هذا الدين العظيم .. لذا تراهم قد استخدموا وسائل كثيرة رغبة في تحقيق هدفهم ومرادهم ، {ويمكرون ويمكر الله والله خير ماكرين} ، قال الله - جل الله -: {فَإِن آمَنُوا بِمِثلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا هُم فِي شِقَاقٍ, فَسَيَكفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} البقرة137 .
قال الشيخ السعدي - رحمه الله - معلقاً على هذه الآية : (أي فإن آمن أهل الكتاب بمثل ما آمنتم به - يا معشر المؤمنين - من جميع الرسل وجميع الكتب ، الذين أول من دخل فيهم ، وأولى خاتمهم وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن ، وأسلموا لله وحده ولم يفرقوا بين أحد من رسل الله ( فقد اهتدوا ) للصراط المستقيم الموصل لجنات النعيم أي فلا سبيل لهم إلى الهداية إلا بهذا الإيمان لا كما زعموا بقولهم كونوا هودا أو نصارى تهتدوا فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا عليه والهدى هو العلم بالحق والعمل به وضده الضلال عن العلم والضلال عن العمل بعد العلم وهو الشقاق الذي كانوا عليه لما تولوا وأعرضوا، فالمشاق هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق ، ويلزم من المشاقة المحادة والعداوة البليغة التي من لوازمها بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول فلهذا وعد الله رسوله أن يكفيه إياهم لأنه السميع لجميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات العليم بما بين أيديهم وما خلفهم بالغيب والشهادة بالظواهر والبواطن فإذا كان كذلك كفاك الله شرهم وقد أنجز الله لرسوله وعده وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم وسبى بعضهم وأجلى بعضهم وشردهم كل مشرد ففيه معجزة من معجزات القرآن وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه فوقع طبق ما أخبر ) أ.هـ
أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.. ثلة الاستهزاء الأولى استخدمت طرقاً كثيرة وأساليب متنوعة للسخرية من النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستهزاء به ، فتارة ينعتونه - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ نابية وعبارات قاسية فوصفوه صلى الله عليه وسلم بالشاعر والساحر بل تعدى الأمر أن يصفوه بالمجنون ، ويبقى صلى الله عليه وسلم شامخاً يكمل ما بدأه من أمر دعوته وتبليغ دينه ، يطردونه ويرمونه بالحجارة، يحبسونه، ويقاطعونه في الشعب ، يهمون أن يقتلوه ، يعذبون أصحابه ثم يحاربونه ويُشج رأسه وتكسر رباعيته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ، وتتحزب الأحزاب عليه ويدسون له لحماً مسموماً، ويتهمونه في عرضه الشريف ويطعنون في أحب نسائه إليه ، ويصبر ويحتسب ويجاهد ويبذل من نفسه لهذا الدين، نقول هذا الكلام وقد سمعتم ما نقل عن استهزاء وسخرية برسولنا - صلى الله عليه وسلم - من أناس تجردوا من الإيمان أولاً ثم هم لم يرعوا لنبينا - صلى الله عليه وسلم - مكانته وللمسلمين مشاعرهم وهم يتعرضون لرجل يحبه كل مسلم أكثر من نفسه وولده والناس أجمعين .
ولكن هيهات .. هيهات ، أن تبلغ حجارهم تلك السماء الشامخة ، فإن الله كافيه وناصره ورافعه، قال الله ومن أحسن الله قيلاً ، ومن أحسن من الله حديثاً : {إِنَّا كَفَينَاكَ المُستَهزِئِينَ} الحجر95 .
إنا كفيناك المستهزئين بك وبما جئت به وهذا وعد من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يضره المستهزئون وأن يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة وقد فعل تعالى فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به إلا أهلكه الله .
وقال الله - سبحانه وتعالى - في أقصر سورة في القرآن في آخر آية فيها : {إن شانئك هو الأبتر}. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: \"سورة الكوثر ما أجلها من سورة! وأغزر فوائدها على اختصارها. وحقيقة معناها تعلم من آخرهاº فإنه سبحانه وتعالى بتر شانئ رسوله من كل خير، فيبترُ ذكره وأهله ومالهº فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها، ولا يتزودُ فيها صالحًا لمعاده، ويبترُ قلبه، فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته ومحبته، والإيمان برسله، ويبترُ أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرًا ولا عونًا، ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة فلا يذوق لها طعمًا، ولا يجد لها حلاوة، وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها، وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول ) ا.هـ .
قلت فإذا كان هذا حال من شنأ بعض ما جاء به الرسول فكيف بمن تعرض له - صلى الله عليه وسلم - بالسخرية واللمز .
وقال عز وجل : { ورفعنا لك ذكرك} . قال مجاهد - رحمه الله - : لا أذكر إلا ذكرت معي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله . وقال قتادة - رحمه الله - : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
وقال السعدي - رحمه الله - : ( ورفعنا لك ذكرك أي أعلينا قدرك وجعلنا لك الثناء الحسن العالي الذي لم يصل إليه أحد من الخلق فلا يذكر الله إلا ذكر معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الدخول في الإسلام وفي الأذان والإقامة والخطب وغير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ذكر رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وله في قلوب أمته من المحبة والإجلال والتعظيم ما ليس لأحد غيره بعد الله - تعالى - فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيا عن أمته ) .
هذا والله أسأل أن يعجل بالانتصار لنبيه - صلى الله عليه وسلم- ، وأن يعز الإسلام وأهله إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.. واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله الكريم المنان ، الحمد لله الرحيم الرحمن ، الحمد لله الذي على عرشه استوى ، يعلم السر وأخفى ، لا إله غيره ، ولا رب سواه ، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه: {يَـا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} التوبة:119 .
أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لقد هُدي نبينا - صلى الله عليه وسلم - لمعالي الأمور في دينه وخلقه ، وقد أكمل الله به الدين وأتم به النعمة ، فبلغ صلى الله عليه وسلم الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح للأمة ، فكان لله - جل جلاله - أن يفتح له وأن يحقق له النصر والتمكين والهداية ، بسم الله الرحمن الرحيم : {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا}.
إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك .. أي في الدنيا والآخرة .. ويهديك صراطا مستقيما .. أي بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم .. وينصرك الله نصرا عزيزا .. أي بسبب خضوعك لأمر الله عز وجل يرفعك الله وينصرك على أعدائك . فحق لكل مسلم أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، أن يحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من نفسه وولده والناس أجمعين ، وأن يتقرب إلى الله بذلك وأن يطيع أمر الله وأمر رسوله الله عليه وسلم وأن يجتنب نهيهما ، ألا وصلوا وسلموا على هذا النبي الكريم والرسول العظيم اللهم صل عليه وعلى آله وعلى أصحابه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد