إن الله - تعالى - بيده الخير كله، وإن النعم والخيرات الوفيرة منه - جل وعلا -، والبركة كلها منه ، فهو - سبحانه وتعالى - يختص بعض خلقه بما شاء من الخير والفضل والبركة، كالرسل والأنبياء, والملائكة, وبعض الصالحين. فالبركة كلها لله - تعالى- ومنّه، فهو المبارك، ومن ألقى عليه بركته فهو المبارَك، ولهذا كان كتاب الله مباركاً، وبيته مباركاً، والأزمنة التي شرّفها واختصها عن غيرها مباركة، وليلة القدر مباركة، فهو المتبارك في ذاته، الذي يُبارك فيمن شاء من خلقه وعليه، فيصير بذلك مباركاً. راجع: \"بدائع الفوائد لابن القيم\" (2/186-187) بتصرف.
ولله جل وعلا المشيئة المطلقة في كل شيء فهو المتفضل والمنعم: (قُل إِنَّ الفَضلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (73) سورة آل عمران.
وإننا في هذا المبحث سنذكر آثاره وفضلاته -صلى الله عليه وسلم- التي يُتبرك بها. بخلاف غيره من الناس باستثناء البول والغائط، فنقول متوكلين على الله. تعريف التبرك:
التبرك مأخوذ من البركة، وأصل البركة الثبوت واللزوم. قال في معجم مقاييس اللغة: (بَرَكَ: الباء والراء والكاف أصل واحد، وهو ثبات الشيء، ثم يتفرع فروعاً. يقال: برك البعير يبُرك بُروكاً). راجع:\"معجم المقاييس لابن فارس\" (1/227-228).
التبرك: مصدر تبّرك يتبرّك، وهو طلب البركة، والتبرك بالشيء طلب البركة بواسطة. راجع\"التبرك – أنواعه وأحكامه\" ص30. مكتبة الرشد ط/2.
وهنا وقبل أن ندخل في الموضوع نتساءل، هل التبرك يجوز فعله مطلقاً؟ أم لا؟
والجواب: إن التبرك يجوزº لكن ليس على إطلاقه، فالشارع الحكيم قد أبان الأمور والأشياء التي يستحب أو يجب طلب البركة منها، والتماس كثرة الخير عن طريقها، وخاصة أن طلب الخير والحرص عليها مما يحث عليه ديننا الحنيف. وما عدا تلك الأشياء المشروعة فلا يجوز التبرك بهاº لأن ما ليس بمشروع في الدين فهو ممنوع، وأيضاً فقد وردت أدلة شرعية في تحريم ومنع بعض صوره وأشكاله وقد يصل حكم التبرك الممنوع إلى حد الشرك أو يكون وسلية إلى الشرك!. \"التبرك وأنواعه \" ص139. وإننا في هذا المبحث لن نتوسع في ذكر أقسامه وأدلة كل قسم وأنواعه وإنما سنقتصر على ما يُتبرك به من آثار النبي -صلى الله عليه وسلم - من فضلات وآثار عدا البول والغائط.
تمهيد:
إنه مما لا شك فيه أن نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- مبارك في ذاته وآثاره، كما كان مباركاً في أفعاله -عليه الصلاة والسلام- . وهذا مما أكرم الله تعالى به أنبياءه ورسله جميعاً -عليهم الصلاة والسلام-. ولا شك أن آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صفوة خلق الله وأفضل النبيين– أثبت وجوداً، وأشهر ذكراً، وأظهر بركة، فهي أولى بذلك وأحرى. راجع \"تبرك الصحابة بآثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبيان فضله\" لمحمد طاهر الكردي (ص6).
ولهذا فإن صحابة رسول الله -رضي الله عنهم- تبركوا بذاته - عليه الصلاة والسلام -، وبآثاره الحسية المنفصلة منه -صلى الله عليه وسلم- في حياته، وأقرّهم -صلى الله عليه وسلم- على ذلك ولم ينكر عليهم، ثم إنهم -رضي الله عنهم- تبركوا من بعدهم من سلف هذه الأمة الصالحة بآثار الرسول - عليه الصلاة والسلام - بعد وفاته، مما يدل على مشروعية هذا التبرك. وينبغي أن يُعلم أنه لا يصاحب هذا التبرك - من جهة الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح- شيء يعارض أو يناقض توحيد الألوهية أو الربوبية، وأن هذا الفعل من باب الغلو المذموم، وإلا لنبه على ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- صحابته - رضي الله عنهم -، كما نهاهم عن بعض الألفاظ الشركية وحذرهم من ألفاظ الغلو. فينظر إذن إلى هذا على أنه تكريم وتشريف من الخالق - سبحانه وتعالى- لصفوة خلقه في بدنه وما ينفصل عنه من آثاره الحسية، حيث وضع -تبارك وتعالى- في ذلك كله الخير والبركة. راجع\" التبرك أنواعه وأحكامه\" الجديع(ص140).
وإليك أخي القارئ هذا المبحث.
أولاً: التبرك بفضلاته - صلى الله عليه وسلم -:
1- التبرك بشعر النبي - صلى الله عليه وسلم -:
ثبت أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يتبركوا بشعر النبي - صلى الله عليه وسلم- وأنه قد أقرهم على ذلك، بل إنه -صلى الله عليه وسلم- وزعه عليهم. فعن أنس -رضي الله عنه- : أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: (خُذ) وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يُعطيه الناس. وفي رواية بدأ بالشق الأيمن، فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر فصنع به مثل ذلك، ثم قال: (ههنا أبو طلحة) فدفعه إلى أبي طلحة). صحيح مسلم.(2/947) رقم(1305) كتاب الحج، باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر. قال النووي -رحمه الله- : \"من فوائد الحديث التبرك بشعره - صلى الله عليه وسلم - ، وجواز اقتنائه للتبرك\". \"شرح النووي لصحيح مسلم\" (9/54). وعن أنس أيضاً قال: (لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحلاق يحلقه، وطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل).
صحيح مسلم (4/1812) رقم (2325)كتاب الفضائل،باب قرب النبي من الناس وتبركهم به.
وهذا يدل على حرص الصحابة -رضوان الله عليهم- على اقتناء شعره الشريف والتبرك به. وقد ذكر النووي من أحكام هذا الحديث أيضاً: تبرك الصحابة بشعر الرسول -صلى الله عليه وسلم - الكريم، وإكرامهم إياه أن يقع منه إلا في يد رجل سبق إليه).\" شرح مسلم\" (15/82).
2- التبرك بريق النبي - صلى الله عليه وسلم -:
عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها - أنها هاجرت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
وهي حُبلى بعبد الله بن الزبير، قالت: (فأتيت المدينة فنزلت بقباء، فولدته بقباء، ثم أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شي دخل جوفه ريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم حنكه بالتمر) البخاري (9/501) رقم(5469)كتاب العقيقة ، باب تسمية المولد غداة يولد.
وعن عروة بن مسعود -رضي الله عنه- قال عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- : \"فوالله ما تنخم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نُخامة إلا وقعت في كفِّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده...) \"جزءٌ من حديث صلح الحديبية الطويل أخرجه البخاري، الفتح، (5/388-392) رقم(2732)كتاب الشٌّروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة.
وقال الحافظ \"ابن حجر\" مُعلِّقاً على فعل الصحابة - رضوان الله عليهم - : \"هذا ونحوه في هذه الغزوة مع الرسول, ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة، وبالغوا في ذلك، إشارة منهم إلى الرد على ما خشيه من فرارهم، وكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحب إمامه هذه المحبة، ويُعظِّمه هذا التعظيم، كيف يُظن أن يفر عنه ويسلمه لعدوه؟ بل هم أشدٌّ اغتباطاً به وبدينه وبنصره من القبائل التي يراعي بعضها بعضاً بمجرد الرحم\" \"فتح الباري\" (5/341).
3- التبرك بعَرَق النبي - صلى الله عليه وسلم -:
1. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه، قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأتت فقيل لها: هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- نام في بيتك على الفراش، ففتحت عتيدتها (العتيد: الحقة يكون فيها طيب الرجل والعروس). \"القاموس المحيط\" (3/146) فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها، ففزع النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: (وما تصنعين يا أم سليم؟) فقالت: يا رسول الله نرجوا بركته لصبياننا، قال: (أصبت). \"صحيح مسلم\" (4/1815) رقم(2331) كتاب الفضائل، باب طيب عرق النبي والتبرك به.
وقال ابن حجر- رحمه الله- : \"وقد أشكل هذا على جماعة فقال ابن عبد البر: أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أختها أم سليم فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة فلذلك كان ينام عندها وتنال منه ما يجوز للمحرم أن يناله من محارمه، ثم ساق بسنده إلى يحيى بن إبراهيم بن مزين قال: \"إنما استجاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تفلي أم حرام رأسهº لأنها كانت منه ذات محرم من قبل خالاتهº لأن أم عبد المطلب جده كانت من بنى النجار. ومن طريق يونس بن عبد الأعلى قال : قال لنا ابن وهب أم حرام إحدى خالات النبي -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة فلذلك كان يقِيل عندها وينام في حجرها وتفلي رأسه\". قال ابن عبد البر: \"وأيهما كان فهي محرم له\". وجزم أبو القاسم بن الجوهري والداودي والمهلب فيما حكاه ابن بطال عنه بما قال ابن وهب قال : \"وقال غيره إنما كانت خالة لأبيه أو جده عبد المطلب\"، وقال ابن الجوزي: \"سمعت بعض الحفاظ يقول: كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة\". وحكى ابن العربي ما قال ابن وهب ثم قال : \"وقال غيره بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم - معصوماً يملك أربه عن زوجته فكيف عن غيرها مما هو المنزه عنه، وهو المبرأ عن كل فعل قبيح وقول رفث، فيكون ذلك من خصائصه\". ثم قال: \"ويحتمل أن يكون ذلك قبل الحجاب\"، وأما هذا فقد ورد بأن ذلك كان بعد الحجاب جزماً، ºلأن ذلك كان بعد حجة الوداع, ورد عياض الأول بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، وثبوت العصمة مسلم لكن الأصل عدم الخصوصية، وجواز الإقتداء به في أفعاله حتى يقوم على الخصوصية دليل. وبالغ الدمياطي في الرد على من ادعى المحرمية فقال: ذهل كل من زعم أن أم حرام إحدى خالات النبي -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة أو من النسب, وكل من أثبت لها خؤلة تقتضي محرميةº لأن أمهاته من النسب واللاتي أرضعنه معلومات ليس فيهن أحد من الأنصار البتة، سوى أم عبد المطلب وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدى بن النجار، وأم حرام هي بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر المذكور، فلا تجتمع أم حرام وسلمى إلا في عامر بن غنم جدهما الأعلى، وهذه خؤلة لا تثبت بها محرمية: لأنها خؤلة مجازية، وهي كقوله -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص: ( هذا خالي). لكونه من بني زهرة وهم أقارب أمه آمنة، وليس سعد أخا لآمنة لا من النسب ولا من الرضاعة. ثم قال: وإذا تقرر هذا فقد ثبت في الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا على أم سليم فقيل له فقال: أرحمها قتل أخوها معي، يعني حرام بن ملحان، وكان قد قتل يوم بئر معونة.
قلت (ابن حجر): في أم حرام بما حاصله: أنهما أختان كانتا في دار واحدة كل واحدة منهما في بيت من تلك الدار، وحرام بن ملحان أخوهما معاً فالعلة مشتركة فيهما. وإن ثبتت قصة أم عبد الله بنت ملحان فالقول فيها كالقول في أم حرام، وقد انضاف إلى العلة المذكورة كون أنس خادم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد جرت العادة بمخالطة المخدوم خادمه وأهل خادمه ورفع الحشمة التي تقع بين الأجانب عنهم ، ثم قال الدمياطي: \"على أنه ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بأم حرام، ولعل ذلك كان مع ولد أو خادم أو زوج أو تابع . قلت(ابن حجر) : وهو احتمال قوي، لكنه لا يدفع الإشكال من أصله لبقاء الملامسة في تفلية الرأس، وكذا النوم في الحجر، وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليلº لأن الدليل على ذلك واضح، والله أعلم. راجع\" فتح الباري\" (11/ 80- 81).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد