مناهج الكتابة في السِّيرة النَّبَويَّة


 بسم الله الرحمن الرحيم
 
 

اختلفت منهجية المُؤلِّفين في السيرة, لأسباب متعددة, منها غلبة فن من الفنون على العالم أو الكاتب في السيرة  فمثلاً أغلب المحدِّثين والحفاظ الذين كتبوا في السيرة كتبوا بمنهجية أهل الحديث , وبعضهم حاكم السيرة كما يحكم على الأحاديث في الأحكام والعقائد , وبعضهم غلب عليه الفقه أو العربية أو غيرها من العلوم والفنون , فتساهل في محاكمة نصوص السيرة, ونحن –هنا- سنعرض لهذه المنهجيات المختلفة, ونذكر بعضها محاولين الوصول إلى بيان المنهجية التي يترجح العمل بها ومحاكمة نصوص السيرة بناءً عليها, فنقول مستعينين بالله-عز وجل-: 

 

أولاً  منهجية المحدِّثين:

والمحدِّثون هم مَن التزم بقواعدِ التحديثِ في كتابةِ السِّيرةِ النَّبَويَّةِ، و تظهرُ التجزئةُ للأحداثِ في كتاباتِ المحدِّثين الذين التزمُوا بقواعدِ الرِّواية وتمييز الأسانيدِ عن بعضِها، وربما قطَّعوا الرِّوايةَ الواحدةَ, فخرَّجُوا بعضَها في مكانٍ, وبقيَّتَها في مكانٍ, آخرَ تبعاً لموضوعاتِ (تراجم) مؤلَّفاتهم، كما يظهرُ ذلكَ جَلياً في قِسم (المغازي) الذي كتبَهُ الإمامُ البُخاريٌّ-رحمه الله- ضمن صحيحِهِ، ويظهر بصورةٍ, أخفَّ في صحيحِ الإمامِ مُسلمٍ,-رحمه الله- بسبب عنايتِهِ الخاصَّةِ بسردِ المتُونِ الطَّويلةِ وتحريرِ ألفاظِهاº لأنَّهُ أقلٌّ عنايةٍ, من البُخاريِّ بتقطيعِ الرِّوايةِ حسب تراجمِ كتابِهِ 1.

ومنهم(المحدِّثين) مَن التزم الصِّحَّة في رواياتِهِ وأحاديثِهِ كالبُخاريِّ ومسلمٍ,،ومنهم مَن أسند ولم يلتزمِ الصِّحَّةَ وهم السَّوادُ الأعظمُ من المحدِّثين والمُؤرِّخينَ.

ولاشكَّ أنَّ للإسنادِ عند المسلمينَ شَأناً كبيراً ومكاناً خطيراً ºفبه يُعرف حالُ الرَّاوي والرِّواية, وبه تقوم الحُجَّةُ بأحكام الشريعة وتفصيلاتهاº وكان أول مَن أدرك قيمةَ هذا الأمرِ وخطورتَهُ الصَّحابة أنفسُهم ºفتثبَّتوا في الرِّوايةِ وقبولِها، ولكن لغلبةِ التَّقوى والوَرَعِ عليهم وانعدامِ الكَذِبِ في تلكَ الأيَّامِ لم يكن أحدُهم يتهمُ الآخرَ بالكذبِ أو الزِّيادةِ في الحديثِ. وما وقع منهم مِن خطأ, فإنَّما كانَ من باب الخطأ الذي لا يكاد يسلمُ منه أحدٌ، باعتبارِه مجتمع الصَّحابة الذي كان يسودُهُ الصِّدقُ والأمانةُ، فكانَ الأمرُ لا يحتاجُ إلى البحثِ في عدالةِ الرَّاوي, إذِ الصَّحابةُ كلٌّهم عُدُولٌ فيما يروونه وينقلونه عن النَّبيِّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-.

واستمرَّ هذا حالهُم مع السٌّنَّةِ حتَّى وقعتِ الأحداثُ الأليمةُ التي كان من نتائجِها أن قُتل الإمامانِ: عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهما من الصَّحابة -رضي الله عنهم-.

وظهرتِ الفِرقُ المنحرفة ُ2 التي أعطت لنفسِها حقَّ تفسيرِ النٌّصوصِ من الكتاب والسنة بما يتوافقُ مع آرائِها وأهوائِها، ولمَّا أعيا البعضَ ذلكَ عمدُوا إلى وضعِ الحديثِ على النَّبيِّ     -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- لتقويةِ مذاهبِهم وبدعِهم.

عندئذٍ, قام الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- بواجبِهم في الدِّفاعِ عن السٌّنَّةِ فلم يعودُوا يقبلونَ الحديثَ من كلِّ أحدٍ,، بل أصبحُوا يعتنونَ بالنَّظرِ في حالِ الرَّاوي. قالَ ابنُ سِيرين: لم يكونُوا يسألونَ عن الإسنادِ، فلمَّا وقعتِ الفِتنةُ, قالُوا: سَمٌّوا لنا رجالَكُم، فيُنظر إلى أهلِ السٌّنَّةِ فيُؤخذُ حديثُهم، ويُنظرُ إلى أهلِ البِدَعِ فلا يُؤخذُ حديثُهم\".

وهذا المنهج أعمٌّ مِن أن يكونَ مُتعلِّقاً بأحاديثِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-º بل هو منهجٌ لكلِّ قولٍ, أو فعلٍ, له خَطَرُهُ وأهميَّتُهُ في حياةِ المسلمينَ 3 .

ولقد سارَ المُؤلِّفون على ذلك المنهجِ – منهج الإسناد – ولكن منهم مَن التزم الصِّحَّة في كلِّ ما يرويه- كما ذكرنا- كالبُخاريِّ ومسلمٍ,، ومنهم مَن لم يلتزم الصِّحَّةَ كغيرِهم من المحدِّثين.

لقد اعتنى أصحابُ مدرسةِ الحديثِ بالسِّيرةِ النَّبَويَّةِº سواء بالتَّأليفِ المُستقِلِّ أو بتخصيصِ بعضِ الأبوابِ في المسانيدِ والجوامعِ والسٌّنن للسِّيرةِ النَّبَويَّةِ والشَّمائلِ والدَّلائلِ والمغازي وأحاديثِ أحكامِ الجِهَادِ ومَنَاقِبِ الصَّحابةِ وفضائلِهم.

 وقد لقيت السِّيرةُ النَّبَويَّةُ في هذه الكتبِ العِنَايةَ الكثيرةَ من النَّقدِ والتَّحقيقِº لأنَّها نُقلت بالأسانيدِ وخضعت لموازينِ الجرحِ والتَّعديلِ وعُرِفت أحوالُ الرِّجال الذين رووها، ففي الصَّحيحينِ كُتُبٌ مُستقلةٌ للمغازي والسِّيَرِ والفضائلِ ,عدا الأخبارَ المنثورةَ في مختلفِ الموضوعاتِ والأبوابِ المرتبة على الأحكامِ الفقهيةِ, وبخاصةٍ, بابُ الجهادِ وأحكامه.

وفي غيرِهما من كتبِ السٌّنن مثل سُنن التِّرمذيّ وأبو داود وابن ماجه والنسائي ومستدرك الحاكم وصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان ومصنَّف عبد الرزاق ومسند الإمام أحمد وموطأ مالك ومسانيد عَبد بن حمُيد والحُميديِّ والطَّيالسيِّ والسٌّنن الكبرى للبيهقيِّ ومعاجم الطبرانيِّ وغيرها من دَوَاوين السٌّنَّةِ، فإنَّهُ لا يخلُو كتابٌ من هذه المدوَّناتِ الحديثيةِ من أخبار السِّيرةِ والمغازي وما يُلحق بها من تاريخِ الخلافةِ الرَّاشدةِ والفِتن والَحَوادثِ العِظامِ التي أخبر عنها الرَّسُولُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- 4.  

ولكن ينبغي ملاحظةُ منهج المحدِّثين عند التَّعامل مع الرِّوايةِ التَّاريخيةِ، فَهُم يتساهلُون في روايةِ الأخبارِ التَّاريخيةِ، كما نلاحظُ عند ثِقاتِ المُؤرِّخين مثل محمد بن إسحق وخليفة بن خيَّاط والطَّبريِّ حيث يُكثرون من الأخبار المرسَلة والمنقطعة. كما أنَّ الطَّبريَّ يُكثرُ النَّقلَ عن رُواةٍ, في غايةِ الضَّعفِ مثل هشام بن الكلبي وسيف بن عُمر التميميِّ ونصر بن مُزاحم وغيرهم.

ولا شكَّ أنَّ عدمَ تمحيصِ المُؤرِّخين للأخبارِ كما فعلُوا في الحديثِ، واكتفاءَهم بإلقاء العُهدةِ على الرٌّواةِ المذكورينَ في أسانيدِ الرِّواياتِ ألقى عِبئاً كبيراً على \"المُؤرِّخِ المعاصرِ المسلمِ\"º لأنَّه يحتاجُ إلى بذلِ جُهدٍ, ضَخمٍ, للوصولِ إلى الرِّواياتِ الصَّحيحةِ بعد فهمِ وتطبيقِ منهجِ المحدِّثين، وهو أمرٌ لم يعُد سهلاً ميسوراً كما كان بالنِّسبةِ لخليفة بن خيَّاط أو الطَّبريِّ بسبب تضلٌّعِهم في مَنَاهِجِ المحدِّثينَ وطرق سَبرِهم للرِّواياتِ وتمييزِها، وعلى أيَّةِ حالٍ, فنحنُ لا نبخسُ قُدامى المُؤرِّخين حقَّهم وفضلَهمº فقد جمعُوا لنا المادةَ الأوليَّةَ بالأسانيدِ التي تُمكننا من الحُكمِ عليها ولو بَعدَ جُهدٍ, وعَنَاء ٍ,5  .

 

ثانياً منهجيةُ المُؤرِّخينَ:

لقد سلكَ المُؤلِّفونَ في التَّاريخ مَنهجينِ مُتقاربينِ في ترتيبِ كتبِهم، فطائفةٌ اتخذتِ التَّنظيمَ الموضوعيَّ مع مُراعاةِ التَّرتيبِ الزَّمنيِّ في سَوق الموضوعات سواء في تواريخِ الأُممِ السَّابقةِ أو التَّاريخ الإسلاميِّ بعد البعثةِ النَّبَويَّة.

وطائفةٌ اتَّبعتِ التنظيمَ الموضوعيَّ في تاريخ ما قبلَ البعثةِ النَّبَويَّة لعدمِ وجودِ تاريخٍ, زمنيٍّ, ثابتٍ, ومُستمرٍّ,, ولكنَّها إذا جاءت للتَّاريخِ الإسلاميِّ رتَّبت أحداثَهُ حسبَ السَّنواتِ الهجريةِ وهو المعروفُ بالتَّاريخ الحوليِّ، حيث يسردُ حوادثَ كلِّ سنةٍ, هجريةٍ, على حِدَةٍ,، ثُمَّ التي تَلِيها وهكذا، مُرتَّبةً على التَّسلسلِ الزَّمنيِّ دُونَ النَّظرِ إلى التَّسلسلِ الموضوعيِّ, وقد سلك كلٌّ واحدٍ, من المنهجينِ مجموعةٌ من المُؤرِّخينَ المسلمينَ.

فَمِنِ الذين اتَّبعُوا منهجَ التَّرتيبِ الموضوعيِّ: أبو حنيفة الدِّينوَريٌّ 6، ومِن الذين اتَّبعُوا المنهجَ الحوليَّ: خليفة بن خيَّاط ومحمد بن جَرِير الطَّبريٌّ 7.

 

ثالثاً منهجيةُ مَن جَمَعَ بين صِفتي المُؤرِّخِ والمحدِّثِ:

القسم الثالث من المناهج منهجيةُ مَن جمع بين طريقةِ المُؤرِّخين وطريقةِ المحدِّثين. يقول الدكتور أكرم العمري: وبعضُ المُؤلِّفين جمعَ بين صِفتي المحدِّثِ والمُؤرِّخِ مثل محمد بن إسحاق وخليفة بن خيَّاط، ويعقوب بن سُفيان الفَسَويٌّ، ومحمد بن جَرِير الطَّبريِّ، وهؤلاء أفادُوا منهجَ المحدِّثين بالتزامِ سَردِ الأسانيدِ ومُحاولةِ إكمالِ صُورةِ الحادثِ عن طريقِ جمعِ الأسانيدِ –أحياناً- أو سردِ الرِّواياتِ التي تُشكِّلُ وحدةً موضوعيةً تحتَ عناوينَ دالَّة 8.

وقال الدكتور محمد السلمي: وهذا المنهجُ الذي سَلَكَهُ ابنُ إسحاق حاولَ أن يجمعَ فيه بين منهجِ المحدِّثين القائمِ على الأسانيدِ لغرضِ التَّوثيقِ العلميِّ، وبين منهجِ الإخباريينَ المتحررينَ من الالتزامِ بالأسانيدِ التي كانت سِمَةَ العلمِ والمعرفةِ في ذلكَ العصرِ، ولعلَّهُ كانَ يهدف إلى إخراج السِّيرةِ النَّبَويَّةِ في صُورةٍ, مُترابطةِ الأجزاءِ، مُتسلسلةِ الأحداثِ ليسهلَ على النَّاسِ حفظُها, وقد لقيت سيرتُهُ قَبُولاً عندَ عامَّةِ المسلمين – خاصة بعد التَّهذيبِ الذي أجراهُ ابنُ هشامٍ, فأصبحت سهلةَ الحفظِ والتَّلقين للطَّلابِ المبتدئينَ وللعامَّة واختصاراً ونَظماً 9.

وجاء مِن بعدِ ابنِ إسحاق الواقديٌّ وابنُ سعد، فأمَّا الواقديٌّ فقد تقدَّمَ خُطوةً على ابنِ إسحاقَ، يقولُ الدَّكتور السلميٌّ: وقد تقدَّمَ الواقديٌّ خُطوةً على منهجِ ابنِ إسحاقَ في الابتعادِ عن طريقةِ المحدِّثينَ وعدمِ الالتزامِ بالأسانيدِ وألفاظِ الرٌّواةِ وصاغَ المغازيَ في نَسَقٍ, واحدٍ, مُترابطِ الأحداثِ في أسلوبٍ, قَصصيٍّ, واضحِ العِبَارةِ مِمَّا يسرَّ حفظَها على عامَّةِ النَّاسِ 10. وقد نهجَ مُؤلِّفو هذه الكتبِ منهجَ المحدِّثين في الرِّوايةِ: مِن ذِكرِ الأسانيدِ، والنَّظرِ في الرٌّواةِ، وإن لم يلتزمُوا ما التزمَهُ المحدِّثون من التشددِ في التَّعديلِ والتَّجريحِ، وقبول الرِّوايةِ، ورُبَّ رجلٍ, مجروحٍ, عند أهلِ الحديثِ ,وهو ثِقةٌ عندَ أهلِ السِّيَرِ، وهذا يَرجعُ إلى اختلافِ الغرضينِ، فغرضُ المحدِّثِ ذكرُ الأحاديثِ التي هيَ مَنَاطُ معرفةِ الحلالِ والحرامِ، ومِن ثَمَّ كانَ لابُدَّ مِنَ التشددِ في الرِّوايةِ، وغَرَضُ المؤلِّفِ في السِّيَرِ والتَّواريخِ ذِكرُ أخبارٍ, ليست مَنَاطَ الحلالِ والحرامِ غالِباً، فَمِن ثَمَّ تساهلُوا، ووُجدت ذكر أخبار ليست مناطَ الحلالِ والحرامِ غالِباً، فَمَن ثَمَّ تساهلُوا، ووُجدت في كتبِهم الرِّواياتُ المرسَلةُ، والمنقطعةُ، والمعضلةُ، والشَّاذةُ والمنكرةُ، بل الموضوعةُ المختلقةُ على قِلَّةٍ,, بل المحدِّثون أنفسُهم يتشدَّدونَ ويُبالِغُون في التَّحرِّي عن الرٌّواةِ حينما يروون أحاديثَ الأحكامِ، ويتساهلُون في بعضَ الشَّيءِ في روايةِ الفضائلِ، رُوي عن الإمامِ أحمدَ أنَّهُ قالَ: (نحنُ إذا روينا في الحلالِ والحرامِ شدَّدنا، وإذا روينا في الفضائلِ تساهلنا)، وفي معنى الفضائلِ المغازي، والسِّيَرُ، ورُوي عنه –أيضاً- أنَّهُ قالَ: (ثلاثةٌ ليسَ لها أصلٌ: التَّفسيرُ، والملاحِمُ، والمَغَازي), ومرادُه أنَّهُ يغلبُ فيها روايةُ المراسيلِ، والمنقطعاتِ والبلاغاتِ، ونحوِها و إلَّا فقد صحَّ فيها أحاديثُ كثيرةٌ 11  .

 

تنبيهٌ لابُدَّ مِنهُ:

يقول الدكتور أكرم ضِياء العمري: تعقَّب ابنُ حَجَرٍ, العسقلانيٌّ إنكارَ بعضِ النٌّقَّادِ لخبرٍ, غريبٍ,, فقالَ: (في طُرُقِ هذه القصَّةِ القويٌّ والضَّعيفُ، ولا سبيلَ إلى ردِّ الجميعِ فإنَّهُ يُنادي على مَن أطلقَهُ بقلَّةِ الاطلاعِ والإقدامِ على ردِّ مالا يعلمُهُ، لكن الأَولى أن ينظرَ إلى ما اختُلف فيه بالزِّيادةِ والنَّقصِ, فيُؤخذ بما اجتمعت عليهِ ويُؤخذُ من المختلف ماقوي ويُطرحُ ما ضعفَ وما اضطرب، فإنَّ الاضطرابَ إذا بَعُدَ به الجمعُ بين المختلفِ، ولم يتجرح شيء منه التحق بالضعيف المردود)12 .

وما دمنا قد قبلنا هذا (المبدأ) فإنه يمكن الإفادةُ بصورةٍ, واسعةٍ, من كتب الحديثِ في دراسةِ عصرِ السِّيرةِ النَّبَويَّةِ والخلافةِ الرَّاشدةِ، لأنَّ كتبَ الحديثِ خُدمت أكثرَ من كتبِ السِّيرةِ والتَّاريخِ من قِبل النٌّقَّادِ، فمثلاً قد تميَّز صحيحا البُخاريِّ ومسلمٍ,, وعُرفَ أنَّ كلَّ ما فيهما صحيحٌ بعد الدِّراساتِ النَّقديةِ التي قام بها حُفَّاظٌ كِبارٌ قُدامى ودارِسون مُعاصِرون، وحتَّى الأحرفُ اليسيرةُ المنتقدةُ فيهما صمدت أمامَ النَّقدِº لأنَّ أصولهَا معروفةٌ ولم ينفرد بها البُخاريٌّ ومسلمٌ. وما دام الأمرُ كذلك فيُمكن إذاً اعتمادُ ما أورده البُخاريٌّ ومسلمٌ من رواياتٍ, تتعلَّقُ بالسِّيرةِ والرَّاشدينَ، ثم النَّظرُ في رواياتِ السٌّننِ الأربعةِ وموطَّأ مالكٍ, التي لقيت سَبراً وتَمحيصاً –أيضاً- رغم أنها لا ترقى إلى درجة الصحيحين ولا تخلو من الضعيف.

إنَّ كتبَ الحديثِ تحوي قدراً كبيراً من أخبارِ السِّيرةِ وإن كانت لا تُغطِّي كلَّ أحداثِها، ومن هنا تبرزُ أهميةُ النقد الحديثيِّ لرواياتِ كتبِ السِّيرةِ والتَّاريخِ.. فكبارُ المحدِّثين أمثالُ الحافظِ ابنِ سَيِّدِ النَّاسِ في كتابِهِ (عُيُون الأثرِ في المغازي والشَّمائلِ والسِّيَرِ) والحافظُ الذَّهبيٌّ في كتابِهِ (تاريخ الإسلام) عندما كتبا السِّيرةَ النَّبَويَّةَ اعتمدا على الكتبِ السِّتَّةِ (البُخاريِّ ومسلمٍ, وأبي داودَ والتِّرمذيِّ والنَّسائيِّ وابنِ ماجه), لكنَّهما لم يتمكَّنا من الاستغناءِ عن كتبِ السِّيرةِ والتَّاريخِ 13.

 

ضرورة المرونة في تطبيق قواعد المحدِّثين في نطاق التَّاريخ الإسلامي العام:

لاشكَّ أنَّ اشتراطَ الصِّحَّةِ الحديثيةِ في كلِّ روايةٍ, تاريخيةٍ, نريدُ قبولهَا فيه تعسفٌº لأنَّ ما تنطبقُ عليه هذه الشٌّروطُ لا يكفي لتغطيةِ العصورِ المختلفةِ للتَّاريخِ الإسلاميِّ، مِمَّا يُولِّدُ فجواتٍ, في تاريخِنا، وإذا قارنا ذلكَ بتواريخِ العالمِ فإنَّها كثيراً ما تعتمدُ على رواياتٍ, مُفردةٍ, أو مُؤرِّخينَ مجهولينَ، بالإضافةِ إلى ذلكَ فهي مليئةٌ بالفجواتِ.. لذلكَ يكفي في الفتراتِ اللَّاحقةِ التَّوثقُ من عدالةِ المُؤرِّخِ وضبطِهِ لقَبولِ ما يُسجِّلُهُ مع استخدامِ قواعدِ النَّقدِ الحديثيِّ في التَّرجيحِ عند التَّعارضِ بين المُؤرِّخينَ.

إنَّ اشتراطَ الأمانةِ والثقة والدِّينِ في المُؤرِّخ ضروريُّ لقَبولِ شهادتِهِ على الرِّجالِ والأُممِ وتقويم دَورِهم التَّاريخيِّ، إنَّ مراحلَ التَّاريخِ الإسلاميِّ كلَّها بحاجةٍ, إلى إعادةِ تقويمِها من وجهةِ النَّظرِ الإسلاميةِ، وقد تبين مَدَى تغير الصٌّورةِ التَّاريخيةِ لفترةٍ, ما من تاريخِنا عندما يتناولُها بالبحثِ كُتَّابٌ مُسلمون مُنصفون كما حدث في إعادةِ تقويمِ الدَّولةِ العثمانيةِ 14 وفتح ملفِّها من جديدٍ,. ويبدو لي أنَّ التغير الذي سيحدث في تصورنا للتاريخِ الأمويِّ والعباسيِّ وما بعدهما من حلقات حتَّى تاريخنا المعاصر سيكون كبيراً جداً، وسيكشف عن مدى الزَّيفِ والتَّحريفِ الذي أصاب تاريخَن 15..

ولا يسعنا إلا أن ندعوَ المُؤرِّخينَ المسلمينَ إلى تقديمِ دراساتٍ, مُفصَّلةٍ, تكشفُ عن ملامح التَّفسيرِ الإسلاميِّ للتَّاريخِ وعن أبعادِ المنهجِ النقديِّ الذي تُعامَلُ وِفقَهُ رِواياتُ التَّاريخِ الإسلاميِّ، كَمَا نحذِّرُ شبابَنا من الاعتمادِ في فهمِ أحداثِ التَّاريخِ الإسلاميِّ وتصور عظماء رجالِهِ على رواياتٍ, تسوقُها كتبُ التَّاريخِ والأخبارِ دُونَ تمحيصٍ,، مما يُعطي صُوَراً مشوهةً لأحداثِ التَّاريخِ الإسلاميِّ ºلتأثر الإخباريين الذي اعتمدَهم الطَّبريٌّ وغيرُهُ من المُؤرِّخينَ بالأهواءِ المختلفةِ والاتجاهاتِ المذهبيةِ والسِّياسةِ المتباينةِ التي طبعت رواياتهم عن عصرِ الرَّاشدين وما بعدَهُ من عصورِ الأُمويين والعباسيين والعثمانيين، وأنه لابُدَّ من محاولةٍ, جادَّةٍ, لإعادةِ صِياغةِ التَّاريخِ الإسلاميِّ بأقلامٍ, إسلاميةٍ, تُؤمنُ باللهِ وبرسولِهِ, وتشعر بدورِ الإسلامِ وأثرِهِ في تاريخِنا وحاضِرِنا ومستقبلِن 16 .

 

رابعاً المنهج الموضوعي:

وهو أخذُ موضوعٍ, من مواضيعِ السِّيرةِ, والكتابةُ عنهُ ºكمَن يكتبُ في الدَّلائلِ أو الشَّمائلِ أو العظاتِ والعِبَرِ  أو دراسة غزوةٍ, من الغَزَواتِ....إلخ  وإمَّا أن يُسندَ الكاتبُ ما كتبَهُ أو لا يُسنده. ومن المؤلَّفاتِ في الدَّلائل كتاب \"دلائل النبوة\" لأبي نُعيم , و\"دلائل النبوة\" لأبي زُرعة الرازيِّ, وغير ذلك. ومن المؤلَّفاتِ في الشَّمائلِ كتابٌ لمحمد بن عيسى التِّرمذيِّ في \"الشمائل النَّبَويَّة\" مرويُّ بالأسانيدِ على طريقةِ المحدِّثينَ ,وغير ذلك من الكتب. 

ومن المؤلَّفاتِ على طريقةِ المنهجِ الموضوعيِّ كتابُ \"الرَّسُول -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- واليهود وجهاً لوجه\" للدكتور سعد المرصفي ,وكتاب \"سيرة النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-\" لشبلي نعمان , وغير ذلك من الكتب والمؤلَّفات.

 

ويبقى أن نذكرَ المناهجَ المنحرفةَ في كتابةِ السِّيرةِ النَّبَويَّةِ كمنهجيةِ المستشرقينَ ومنهجية التغريبِ وكذلك منهجية

المدرسةِ الإصلاحيةِ والرافضةِ وغيرِهم، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ..

 


 


1 - السِّيرة النَّبَويَّة الصحيحة د. أكرم ضياء العمري  ص (11).

2 - كالخوارج والشيعة والقدرية...إلخ.

3 - انظر:\" روايات تاريخ الصَّحابة في ميزان الجرح والتعديل\" د. عبد العزيز دخان ص( 12).

4 - راجع المزيد في:\"منهج كتابة التَّاريخ الإسلامي\" د. محمد بن صامل السلمي ص (309).

5 - \"السِّيرة النَّبَويَّة الصحيحة\": د. أكرم ضياء العمري  ص (39-40).

6 - يقول الدكتور محمد السلمي: ومن خلال قراءتي لكتابه التَّاريخي تبين أنه تنزعه عرق فارسية مع ميول شيعية. ( منهج كتابة التَّاريخ الإسلامي د. محمد بن صامل السلمي ص( 421).

7 - منهج كتابة التَّاريخ الإسلامي د. محمد بن صامل السلمي ص421)).

8 - السِّيرة النَّبَويَّة الصحيحة د. أكرم ضياء العمري  ص11

-9 منهج كتابة التَّاريخ الإسلامي د. محمد بن صامل السلمي ص(351).

10 - منهج كتابة التَّاريخ الإسلامي د. محمد بن صامل السلمي ص(360).

11 -السِّيرة النَّبَويَّة في ضوء القرآن والسنة د. محمد بن محمد أبو شهبة (1/34).

12 -العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني.

13 -راجع:\"  السِّيرة النَّبَويَّة الصحيحة\": د. أكرم ضياء العمري  ص(40-41).

14 - أما تاريخ الدولة العثمانية , فقد تعرض لتشويه خطير , وكان القائم على ذلك التشويه هم الغربيون والكماليون-أتباع أتاتورك-والعلمانيون والماسونيون وأتباعهم جميعاً , من أجل تشويه الخلافة التي تتبنى قضايا المسلمين ,و من الأنصاف أن يقال بأنه قد وقعت أخطاء للدولة العثمانية, وبعضها أخطاء فادحة ,ولكن من الظلم قبول ما يُكتب عنها في كتب التاريخ بأيدي أعدائها الذين أنفقوا الغالي والرخيص في سبيل إشقاطها وتمزيق العالم الإسلامي وأكله لقمة بعد لقمة , هذا وإن كان ليس مجال الحديث عن هذا, إلا أن الحديث ذو شجون!

15 - من أكبر من دسَّ في تاريخنا وشوهه في العصور المتقدمة الرافضة الجعفرية º لأنهم يعتقدون في الخلفاء والملوك جميعاً أنهم مغتصبون للخلافة إلا علياً –رضي الله عنهم- º ولذلك عمدوا إلى تشويه التاريخ واختلاق الأكاذيب والطعن في الخلفاء بدءاً بالطعن في أبي بكر وعمر –رضي الله عنهم-وزاد الطين بلة أن بعض المؤرخين قمش ولم يفتش , فجمع الغث والسمين , فاستغلوا هذه الفرصة وأصبحوا يقولون إن هذا الكلام في كتبكم. وأما الدس والتشويه في العصر الحديث فتولى كبره المستشرقون وأذنابهم ممن ينتسب إلى الإسلام اسماً ورسماً , إلا فهو من ناحية المعنى مع المستشرقين الحاقدين º ولذلك نحن بحاجة إلى نقد تراثنا وتاريخنا حاجة ماسة ضرورية من أجل نهضة وصحوة صحيحة فتية.

16 - راجع: \" السِّيرة النَّبَويَّة الصحيحة\": د. أكرم ضياء العمري  ص(45-46).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply