مقدمة في تدوين السيرة النبوية


 بسم الله الرحمن الرحيم

 

لم تُعنَ أمةٌ من الأممِ في القديمِ والحديثِ بآثارِ نبيِّها وحياتِهِ، وكلِّ ما يتصلُ به من قُربٍ, أو بُعدٍ,، مثل ما عُنيت الأمةُ الإسلاميةُ في تاريخِها الطَّويلِ، هذه العنايةَ التي كانِ من آثارِها هذه الثَّروةِ الطَّائلةِ من الكتب المؤلَّفةِ في مولدِهِ، وسيرتِهِ، وحياتِهِ، وشمائلِهِ، وفضائِلِهِ،وخُصوصياتِهِ، ومُعجزاتِهِ، وأخلاقِهِ، وآدابِهِ، وأزواجِهِ، وأولادِهِ، وأجدادِهِ، وجدَّاتِهِ، ونسبه من لدن جدِّه الأعلى خليلِ الرَّحمنِ، وابنِهِ الذَّبيحِ إسماعيل -عليهما الصَّلاة والسَّلام-، إلى خروجِهِ مِن بين أبويه الشَّريفينِ الكريمينِ، وحياة مَن بقي مِن ذريتِهِ من بعده، وخدمِهِ، ومماليكِهِ، وسراريه، ومُرضعاتِهِ، وحاضناتِهِ.

 

بل بلغتِ العنايةُ بالعلماءِ وكُتَّابِ السِّيرة أن بحثُوا في نياقِهِ، وبِغالِهِ، وحميرِهِ، وأسمائِها، ومن أين جاءت، وكتبُوا عن وصفِ نعالِهِ، ومطهرتِهِ، أسوكته، إلى غير ذلك مما يدلٌّ على غايةِ الحبِّ، والعناية بآثاره، وإنَّ ما يتعلَّقُ بالسِّيرةِ النَّبَويَّة ليُكوِّن مكتبةً حَافِلةً قيِّمةً تعدُو الألوف عدَّاً.

وهذا إن دلَّ على شيءٍ, فإنما يدلٌّ على أنَّهُ رسولُ اللهِ حَقَّاً، فما كان لمدَّعٍ, أن يكون له هذا الحبٌّ كلٌّه، ولا هذه العنايةُ كلٌّها! ولا هذا التكريمُ والتعظيمُ.

وعلى أنَّ رسالتَهُ هي خاتمةُ الرِّسالاتِ، وأحقٌّها بالخُلُودِ، وأبقاها على الزَّمانِ، وعلى أنه لا نبيَّ بعده، بنفسي، وأبي، وأمي هو -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-.1 

 

 تاريخ التأليف في السِّيرة:

لقد عُنيَ المسلمون –كما ذكرنا- عنايةً فائِقةً بأحاديثِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، وسُننه، وأيامه، ومغازيه، وقبل أن تُدوَّن الأحاديثُ تدويناً عاماً في آخرِ القرنِ الأولِ الهجريِّ، كانت مقيدةً في الحوافظِ، مُدوَّنةً في الصٌّدورِ عند جَمهَرةِ الصَّحابة، والتَّابعينَ، وكانَ القارِئون الكاتبون منهم يُدوِّنونَ منها ما استطاعُوا من لدنِ النَّبيّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- إلى عهدِ التَّدوين، ومِن ذلكَ ما يتعلَّقُ بسيرةِ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم-ومغازيهِ.

 

السِّيرةُ جُزءٌ من الحديثِ:

وقدُ شغلتِ السِّيرةُ النَّبَويَّة حيِّزاً غيرَ قليلٍ, من الأحاديثِ، والذين ألَّفُوا في الأحاديثِ لم تَخلُ كتبُهم غالِباً عن ذكرِ ما يتعلَّقُ بحياةِ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- ومغازيه، وخَصَائِصِهِ، ومناقِبِهِ، ومناقبِ صحابتِهِ، وقد استمرَّ هذا المنهجُ حتَّى بعد  انفصالِ السِّيرةِ عن الحديثِ في التأليفِ وجعلها عِلماً مُستقلاً، وأقدمُ كتابٍ, وصل إلينا في الأحاديثِ وهو (موطأ) الإمام مالك – رحمه الله- (المتوفَّى 179هـ) ºولم يخلُ مِن ذكرِ جُملةٍ, من الأحاديثِ فيما يتعلَّقُ بسيرةِ النَّبيّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-، وأوصافِهِ، وأسمائِهِ، وذكر ما يتعلَّقُ بالجهادِ.

 

وصحيح الإمام أبي عبد الله البُخاريّ (المتوفَّى 256هـ) ذكر فيه قطعةً كبيرةً مما يتعلَّقُ بحياةِ النَّبيّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- قبلَ البعثةِ وبعدَها، كما ذكر كتاب (المغازي) وما يتعلَّق بخصائصِهِ وفضائلِهِ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، وفضائلِ أصحابِهِ ومناقبِهم، وذلكَ كُلٌّه لا يقلٌّ عن عُشرِ الكتابِ، وكذلكَ صحيحُ الإمامِ أبي الحُسينِ مُسلمِ بن الحجَّاج (المتوفى 261هـ) اشتملَ على جُزءٍ, كبيرٍ, مِن سِيرةِ النَّبيِّ، وفضائلِهِ، وفضائلِ أصحابِهِ، والجهادِ والسِّيَر.

 

وكذلك صنع الإمامُ أحمدُ (المتوفى 241هـ) في مسنده الكبير، وأبو داود، والنسائيٌّ والتِّرمذيّ، وابنُ ماجه، لم تخلُ كتبُهم من كتاب الجهاد، وذكر طَرَفٍ, مِمَّا يتعلَّقُ بالسِّيرةِ، وهذا يدلٌّ على الصِّلةِ الوثيقةِ بين الأحاديثِ والسِّيَرِ، فهي جُزءٌ منها.

 

التَّأليفُ في السِّيرةِ على سبيلِ الاستقلالِ:

 وكذلكَ أُلِّفَت في السِّيرةِ النَّبَويَّةِ كتبٌ خاصَّة بها، وقد بدأَ التَّدوينُ فيها على سبيل الاستقلالِ في النِّصفِ الثَّاني من القَرنِ الأولِ الهجريِّ.

وسنذكر في الدرس القادم أول مَن عُرِفَ بالمغازي والسِّيَرِ  واعتنى بالسيرة النبوية إن شاء الله تعالى.


 


1 - انظر :مقدمة كتاب\" السِّيرة النَّبَويَّة في ضوء الكتاب والسنة\" للدكتور محمد بن محمد أبو شهبة(1/27).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply