بسم الله الرحمن الرحيم
المنهج وأهميته:
النَّهجُ والِمنهاجُ كلٌّها بمعنى واحدٍ,. وهي تعني الطَّريقَ الوَاضِحَ, يُقال: أنهجَ الطَّريقُ أي استبانَ وصارَ شيئاً وَاضِحاً بَيِّناً. ونهجتُ الطَّريقَ إذا أبنتَهُ وأوضحتَهُ، ونهجتُ الطَّريقَ –أيضاً- إذا سلكتَهُ، وفُلانٌ يستنهجُ سبيلَ فُلانٍ, أي يسلكُ مسلكَهُ 1. فهو يعني السَّبيلَ الفكريَّ والخطوات العمليةَ التي يتبعُها الباحِثُ في مَسَارِهِ بقصدِ تَحصِيلِ العِلمِ .
وكانَ العُلمَاءُ المسلمونَ يُعبِّرونَ عن المنهجِ بالأصولِ والقواعدِ. ولذلكَ وضعُوا أصُولاً وضوابطَ للبحثِ في مختلفِ العُلُومِ مثل أصولِ الحديثِ \" المصطلح \" وأصول التفسير وأصول الفقه .
أما المنهجُ في الدِّراساتِ التَّاريخيةِ فإنَّهُ يَعني القواعدَ والشٌّروطَ التي يجبُ مراعاتُها عندَ مُعالجةِِ أيِّ حَدَثٍ, تاريخيٍّ,. سواء بالكتابةِ والتأليفِ أم بالدِّراسةِ والتَّعليمِ, وهذه الشٌّروطُ تتناولُ الكاتبَ ذاتَهُ كَمَا تتناولُ المصادِرَ التي يستمدٌّ منها . كَمَا أنها تُعنى بالغايةِ والهَدَفِ من الدِّراسةِ والكِتابةِ, وتُعنَى كذلكَ بالأسلوبِ والمصطلحاتِ.
وهنا لابُدَّ من ملاحظةِ الفرقِ بين نوعينِ من دلالةِ لفظةِ \"المنهج\" وتحديد المراد بها. فقد تُطلق ويُراد بها التصورات والقيم والمبادئ التي يلتزمُها الباحثُ, كما تُطلق ويُراد بها طريقة معينة في البحثِ العلميِّ لمادةٍ, من المواد.
ولفظةُ المنهج وحدها تعني الطَّريقَ أو السَّبيلَ. ويُحددُ المرادَ منها ما تُضافُ إليه، فإذا قلنا: المنهجُ الإسلاميٌّ في دِراسة السِّيرةِ, دلَّ ذلك على التصورات والمبادئ التي سيضعُها الإسلامُ كحدودٍ, ومُنطلقاتٍ, عامَّة تحكمُ دِراسةَ السِّيرةِ وتفسيرَها وِفقاً لتلك المبادئِ والمفاهيمِ المنبثقةِ من الإسلامِ .
أمَّا إذا قلنا \"منهج البحث التَّاريخي\" أو \"منهج إثبات الحقائق التَّاريخية\", فإنَّهُ يعني القواعدَ والطٌّرقَ التي اصطُلح على وضعِها بغرضِ الإعانةِ على الوصول على صحة المعلومات والتأكد من صوابِها. فيصبح المنهجُ بهذا المعنى الأخيرِ أداةَ بحثٍ, ممكن استخدامها-إلى حدٍّ, ما- من قبل مجموعةٍ, من الباحثين ,وإنِ اختلفت مناهجُ حياتِهم وعقائدِهم وتصوراتِهم.
أما المنهجُ بالمعنى الأول, فإنَّهُ -عند المسلم- محكومٌ بالتصور الإيمانيِّ والالتزام العقديِّ, أي يلتزم بمقوِّمات العقيدة وقيمِها وتصوراتها عن اللهِ والكونِ والحياةِ وعن الإنسانِ ونشأتِهِ ومركزِهِ في هذا الكونِ ووظيفتِهِ وغايةِ وجودِهِ ومصيرِهِ الذي ينتهي إليه .
ولابُدَّ للباحثِ المسلمِ من الالتزامِ بالمنهجِ الإسلاميِّ في منطلقاتِهِ وتصوراتِهِ, وأن تُساعدَ كتابتُهُ على بناء العقيدةِ الصَّحيحةِ، وقيمها التَّربويةِ والخُلُقيةِ.
وعلى هذا الأساس من الالتزامِ بالعقيدةِ تُقاس أعمالُ المُؤرِّخين والباحثين وتُوزن مناهجُهم ومذاهبُهم في التأليف ºلأنَّ الباحثَ المسلم ليس له مطلقُ الحرية في اتخاذ المواقفِ وتفسير الحوادث وتقييمها كيفما عنَّ له الخاطرُ. إنَّما هو مقيدٌ بالقواعدِ الشَّرعيةِ والأُصولِ العلميةِ المتبعةِ في إثباتِ الأخبارِ وردِّها . فليس مِن حقِّه أن يتهمَ أحداً بناءً على روايةٍ, لم يتأكَّدَ من صحتِها وعدالةِ رواتِها واتصال سندِها. ثم إذا ثبتتِ الرِّواية فإنَّ هناك قيوداً شرعيةً يلزم مراعاتُها في نقدِ الأشخاصِ وملاحظةِ مقاماتِهم مثل الصَّحابة -رضي الله عنهم- أو الأئمة الذين استفاضت عدالتُهمº لأنَّ الكلامَ في نقدِ مثلِ هؤلاءِ ليس كالكلامِ في أحدٍ, غيرِهم ,كما أنَّ الكلامَ في عُمُومِ النَّاسِ له حدودٌ وضوابطُ ,ويجبُ أنَ يكونَ بحقٍّ, وعلمٍ, .
وهذا المفهوم العقديٌّ للمنهج والالتزام به في تلقِّي العلم ومناهج البحث والدِّراسة هو مَفرَقُ الطَّريقِ بين الباحثِ المسلمِ وغيرِ المسلمِ، فالباحثُ المسلمُ ينطلقُ في بحثِهِ عن الإنسانِ وحركتِهِ وتفسيرِ تاريخِه من منطلقاتٍ, ثابتةٍ, وطمأنينةٍ, علميةٍ, ºلأنَّهُ ملتزمٌ بمفاهيمِ عقيدتِهِ وتصورها الشَّامل عن الوجودِ, والتي تلقَّاها عن طريقِ الخبرِ الصَّادقِ المُوحى به من اللهِ إلى رسولٍ, من رسلِهِ .
أما غيرُ المسلم فإنَّهُ لعدمِ تلقِّيه من الوحي الربانيِّ في تفسير هذا الوجودِ وعدم معرفته لحقيقة الرٌّبوبيةِ والعُبودية لله، ولوظيفة الإنسان ودوره ولحقيقة نشأته ومصيره ، ولعلاقته بالكون من حولهº فإنه يخبطُ بالظٌّنونِ والأوهامِ ويرجمُ بالغيب بدونِ دليلٍ, ºولذلك يكثرُ بينهم الاختلافُ, ولا يصلون إلى حقائقَ مطمئنةٍ, في هذه الأمورِ ويعيشون في اضطراب وحيرةٍ, وشَكٍّ, وخوفٍ, من هذا الكونِ, وفي صراعٍ, نفسيٍّ, وتشتتٍ, ذهنيٍّ,، وكلٌّ هذه الأعراضِ والأمراضِ ذاتُ تأثيرٍ, مُباشِرٍ, على نتائجِ دراساتِهم.
فمن لوازمِ المنهج الإسلاميِّ في كتابة التَّاريخ أن يكونَ المشتغلُ بعلم التَّاريخ الإسلاميِّ وتفسير أحداثِهِ ذا تصورٍ, سليمٍ, وعقيدةٍ, صحيحةٍ, ودرايةٍ, بعلومِ الشَّريعةِ وفقهِها بالإضافةِ إلى تخصصه التَّاريخيِّ وتمكنه من ذلكº و إلا أصبح التَّاريخ أُلعوبةً لمئاتِ المناهجِ والأهواءِ. 2 والقولُ في التَّاريخ هو القول نفسه في السِّيرةِ النَّبَويَّةº حيث أنها جزءٌ لا يتجزَّأُ من التَّاريخ الإسلاميِّ .
والمنهجية الإسلامية منهجيةٌ ملتزمةٌ ºلتمسكها بالفضائل الخلقية ,وأصيلةº لاستقلالها عن غيرِها من المناهج واستمدادِها من الأصولِ الشرعية ورجوعِها للمصادرِ الأصليةِ، ومن شأن هذه المنهجيةِ الأصيلةِ والملتزمةِ أن تقيَ الباحثَ – بحول الله – من الانحرافِ والزَّللِ وتصحح له رؤيتَهُ وتُقوِّم أحكامَهُ ونتائِجَهُ ,حتَّى وإن وقعَ في خطأٍ, – مما لا يسلمُ منه بشرٌ غيرُ معصومٍ, – فإنَّهُ سُرعانَ ما يرجعُ عنه حالما يكتشفُ ذلك أو يُنبَّهُ عليه.
فلابُدَّ لمن يشتغلُ بكتابةِ التَّاريخ الإسلاميِّ وتفسيرِ حوادِثِه أن يكون مُسلماً مُلتزماً بعقائدِ الإسلامِ عالماً بشرائعِهِ وأحكامِهِ 3 .
1- الصحاح للجوهري (1/346) مادة نهج .
2 -لقد اشتغل بدراسة التَّاريخ الإسلامي –ومنه السِّيرة النَّبَويَّة- وكتابته وتحليله في العصر الحاضر مَن لا يعرفُ أحكامَ شريعةِ الإسلامِ ,حيث أُبعدتِ الدِّراساتُ التَّاريخيةُ وفُصلت عن الدِّراساتِ الشَّرعيةِ، وهذا هدفٌ من أهدافِ الاستشراقِ والتغريبِ كما اشتغلَ به قومٌ لا يُؤمنون بالإسلامِ مثل \"طوائف الاستشراق\" ، وقوم ذُوو ميولٍ, وانحرافاتٍ, أو مُغفَّلون لا يدرُون ما يقولون ºولذلك صِرنا نجدُ مَن ينظرُ للتاريخ الإسلاميِّ نظرةً \"ليبرالية \" تحررية أو \" اشتراكية \" اقتصادية أو\" ماركسية \" إلحادية أو \" رأسمالية \" مادية, بل وجدنا من يُقسِّم الصَّحابة إلى يمينٍ, ووسطٍ, ويسارٍ, ..!! فطُبِّق على التَّاريخ الإسلاميِّ – والسِّيرة النَّبَويَّة – اصطلاحاتٌ ومناهجُ لا صلةَ لها بواقعِهِ التَّاريخيِّ أو فكرِهِ العقديِّ، فوق أنها نتاجُ حضارةٍ, وثنيةٍ, غيرِ مهتديةِ بهدي اللهِ ولا مُستنةٍ, بسنةِ رُسلِهِ. وما ذلك إلا نتيجة الابتعاد عن دراسة العلوم الشرعية وعدم الأخذ بالمنهجيةِ العلميةِ المطلوبةِ لدارسِ التَّاريخ الاسلاميِّ ومعرفة مرتكز هذا التَّاريخ وسر الحركة فيه. انظر: حاشية كتاب \"منهج كتابة التَّاريخ الإسلامي\" لمحمد بن صامل السلمي ,ص (95-96).
3 - \"منهج كتابة التَّاريخ الإسلامي\" لمحمد بن صامل السلمي (89-97).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد