إن الله-سبحانه وتعالى-يبتلي رسله(عليهم الصلاة والسلام)بأنواع البلاء، فيزداد بذلك أجرُهم،ويعظم ثوابهم،فقد ابتلى رسله بتكذيب أقوامهم لهم،ووصل إيذاؤهم إليهم،وابتلى بعض الرسل بالمرض،ومن الابتلاء الذي أوذي به الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ)ما أصابه من السحر، روى الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة-رَضِيَ اللهُ عَنها- أن رجلاً من بني زريق يُقَالُ له:لبيد بن الأعصم سحر رسولَ اللهِ(صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ)،حتى كان رسولُ اللهِ(صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ) يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله البخاري باب السحر (5/2147) برقم 5430 .إلا أنَّ هناك بعضَ العُلماءِ(1) أو من ينتسب إلى العلم أنكروا هذا الحديثَ،وردٌّوه رَدَّاً مُنكراً بدعوى أنه مناقضٌ لكتابِ اللهِ الذي برَّأ الرَّسولَ من السحر فمن هؤلاء العلماء ( الجصَّاص ) في كتابه أحكام القرآن: 1 : 49 حيث قال :{ ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعباً بالحشو الطغام...} ومنهم ( أبو بكر الأصم ) حيث قال : { إن حديث سحره (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ) المروي هنا متروك لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور ، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله -سبحانه وتعالى- . . } نقله عنه \"شارح المجموع\" (19/242). ومنهم الشيخ جمال الدين القاسمي في تفسيره المسمَّى محاسن التأويل حيث قال: { ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه ، وإن كان مخرجاً في الصحاح º وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالماً من القدح والنقد سنداً أو معنى كما يعرفه الراسخون... }
وقال الشيخ محمد عبده :{ وقد ذهب كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما النبوة ، ولا ينبغي لها إلى أن الخبر بتأثير السحر قد صح .... وقال أيضاُ : وهو
مما يصدق فيه المشركين :{ إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } الفرقان،الآية: 8 .
وقد أجاب كثير من العلماء عن هذه الشبهة,وبينوا زيفها بالآتي:
أولاً : من المعلوم أن الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ) بشر ، فيجوز أن يصيبه ما يصيب البشر من الأوجاع والأمراض وتعدي الخلق عليه وظلمهم إياه كسائر البشر إلي أمثال ذلك مما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يُبعث لأجلها،ولا كانت الرسالة من أجلها,فإنه -عليه الصلاة والسلام- لم يعصم من هذه الأمور ، وقد كان (عليه الصلاة والسلام) يصيبه ما يصيب الرسل من أنواع البلاء وغير ذلك ، فغير بعيد أن يُصابَ بمرض أو اعتداء أحد عليه بسحر ونحوه يخيل إليه بسببه في أمور الدنيا ما لا حقيقة له ، كأن يخيل إليه أنه وطىء زوجاته وهو لم يطأهن ، و حدث أنه جاء للرسول(صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ)أحد الصحابة يعودُهُ قائِلاً له : { إنك تُوعَك يا رسول الله فقال : إني أُوعَك كما يُوعَك الرَّجُلانِ منكم }. مسلم –باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (4/1991) برقم 2571 .إلا أن الإصابة أو المرض أو السحر لا يتجاوز ذلك إلي تلقي الوحي عن الله-سبحانه وتعالى- ولا إلي البلاغ عن ربه إلي الناسºلقيام الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على عصمته (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ) في تلقي الوحي وإبلاغه وسائر ما يتعلق بشؤون الدين .والذي وقع للرسولِ(صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ)من السِّحر هو نوعٌ من المرضِ الذي يتعلَّق بالصِّفات والعوارضِ البشريةِ والذي لا علاقةَ له بالوحي وبالرِّسَالة التي كُلِّف بإبلاغِها،لذلك يظن البعضُ أنَّ ما أصابَ الرَّسولَ(صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ)من السحر هو نقص وعيب, وليس الأمرُ كما يظنونºلأن ما وقع له هو من جنس ما كان يعتريه من الأعراضِ البشريةِ كأنواع الأمراض والآلام ونحو ذلك، فالأنبياء- صلوات الله وسلامه- عليهم يعتريهم من ذلك ما يعتري البشرَ كما قال الله- سبحانه وتعالى-: { قالت رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } سورة إبراهيم : 11
واستدلَّ ابنُ القَصَّار على أنَّ الذي أصابه كانَ من جنس المرضِ بقول الرسول في حديث آخر:{ أما أنا فقد شفاني الله } البخاري-باب صفة إبليس وجنوده (3/1192) برقم 3095 .ويؤيد ذلك حديث ابن عباس عند ابن سعد : { مرض النَّبيٌّ (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ) وأخذ عن النساء والطعام والشراب ، فهبط عليه ملكان }. فتح الباري بشرح صحيح البخاري(10/227)
قال المازري في-\"شرح صحيح مسلم\"-:{ إن الدليل قد قام على صدق النَّبيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ)فيما يبلغه عن الله-سبحانه وتعالى-وعلى عصمته في التبليغ ، والمعجزات شاهدات بتصديقه،وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يُبعث لأجلها,ولا كانت الرسالةُ من أجلها فهو في ذلك عُرضةٌ لما يعتري البشرَ كالأمراضِ،فغيرُ بعيدٍ, أن يُخيَّلَ إليه أنه وطىء زوجاته ولم يكن وطئهن،وهذا كثيراً ما يقع تخيله للإنسان في المنام،فلا يَبعُد أن يُخيَّل إليه في اليقظة . قال القاضي عياض-رحمه الله-:{ قد نَزَّه اللهُ-سبحانه وتعالى-الشَّرع والنَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- عَمَّا يُدخل في أمرِهِ لَبساً،وإنما السِّحرُ مرضٌ من الأمراضِ وعارضٌ من العِللِ يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته. وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله ، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه وشريعته ، أو يقدح في صدقه لقيام الدليل ، والإجماع على عصمته من هذا ، أما ما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يُبعث بسببها ، ولا فُضِّل من أجلها ، وهو فيها عُرضةٌ للآفاتِ كسائرِ البشرِ، فغيرُ بعيدٍ, أن يُخيَّلَ إليه من أمورِها ما لا حقيقة له،ثم ينجلي عنه كما كان. وجاء في مُرسَلِ عبدِ الرَّحمنِ بن كعبٍ, عند ابنِ سعدٍ, أنَّ أخت لبيد بن الأعصم قالت : إن يكن نبياً فسيُخبَر،و إلا فسيُذهله هذا السِّحرُ حتى يذهبَ عقلُهُ فوقع الشق الأول.
ثانياً : أما دعواهم أن السحر من عمل الشيطان,والشيطان لا سلطان له على عباد اللهº لأن الله يقول : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } الحجر، الآية: 42
فنقول: إن المراد من قوله-سبحانه وتعالى-:{ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } أي في الإغواء والإضلال, فالسلطان المثبت للشيطان هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه للشر والباطل وإفساد إيمانهم ،قال بعض العلماء في الآية : يعني على قلوبهم,وقال ابن عيينة: أي في أن يلقيهم في ذنبº يمنعهم عفوي, ويُضيِّقُهُ عليهم,وهؤلاء الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم . تفسير الإمام القرطبي (10/18) .فهذه الآيةُ كقولِهِ-سبحانه وتعالى-حكاية عن الشيطان في مخاطبته رب العزة:{ لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } ولا ريب أن الحالة التي تعرض لها الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ) لا تنطبق عليها هذه الآية الكريمة. ولا شك أن إصابة الشيطان للعبد الصالح في بدنه لا ينفيه القرآن ،وقد جاء في القرآن ما يدل على إمكان وقوعها،ومن ذلك قول أيوب عليه السلام في دعائه ربه : { أني مسني الشيطان بنُصب وعذاب } سورة، ص الآية: 41 . وموسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل ، وقد خُيِّل إليه عندما ألقى السحرةُ عِصيَّهم أنها تسعى:{ فأوجس في نفسه خيفة موسى } سورة طه : 67 فهذا التخيل الذي وقع لموسى يُطابق التخيلَ الذي وقع للرسولِ(صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ)،إلا أنَّ تأثير السِّحرِ كما قررنا لا يُمكن أن يصلَ إلي حَدِّ الإخلالِ في تلقِّي الوحي والعمل به وتبليغه للناسِºلأنَّ النٌّصوصَ قد دلَّت على عِصمةِ الرٌّسُلِ في ذلك .
ثالثاً : نريد أن نسأل النصارى سؤالاً :
إذا كنتُم تعتقدون أنَّ ما أصاب النَّبيَّ مُحمَّداً(عليهِ أفضلُ الصَّلاةِ وأتمٌّ التَّسليمِ) على أيدي اليهود من السحر,والذي قررنا أنه لم يكن له تأثير في دينه وعبادته ، ولا في رسالته التي كُلِّفَ بإبلاغِها، إذا كنتم تعتقدون أن ما أصابه هو قدح و طعن في نبوته فهل يعني ذلك أنكم أسقطتم أنبياء كتابكم المقدس الذي نصَّ على أنهم عُصَاةٌ زُنَاةٌ كُفَّارٌ؟! ألم يرد في كتابكم المقدس أن نبي الله سليمان كفر وعبد الأوثان وهو نبي من أنبياء الله سفر الملوك الأول
فهل أسقطتم نبوة سليمان,وهل ما أقدم عليه النَّبيٌّ سليمان من السجود للأوثان والكفر بالله –بزعمكم-هو أمر مُوجِبٌ للطعن في نُبوته ومسقطاً لها؟!
وإذا كان ما قام به النَّبيٌّ سليمان من السجود للأوثان والكفر بالله–بزعمكم- هو أمر لا يُوجِبُ الطعن في نبوته و لا يسقط نبوته عندكم ، فكيف تعتبرون ما أصاب النَّبيَّ محمداً(صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ)من السحر الذي لم يكن له تأثير في دينه وعبادته ولا في رسالته التي كُلِّفَ بإبلاغِها هو أمر موجب للطعن في نبوته ؟ أخبرونا من فضلكم... فسبحان الله العظيم ,كيف تفكرون؟! وبأي منطق تتكلمون؟! وعلى أي أساس تحكمون؟! وإن لله وإنا إليه راجعون ... وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من أهم المصادرِ والمراجعِ:
1. أحكام القرآن: للجصاص (1/49) .
2. محاسن التأويل: لجمال الدين القاسمي
3. فتح الباري بشرح صحيح البخاري (10/227)
4. تفسير الإمام القرطبي (10/18) .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد