كيف دخل التتر بلاد المسلمين و بعض ما فعلوه في ديار المسلمين – الجزء الأول


 بسم الله الرحمن الرحيم
 
 

الجزء الأول

 

ذكر استيلاء التتر على مازندران  :

لما أيس التتر من إدراك خوارزمشاه عادوا فقصدوا بلاد مازندران ، فملكوها في أسرع وقت مع حصانتها و صعوبة الدخول إليها و امتناع قلاعها ، فإنها لم تزل ممتنعة قديم الزمان و حديثه ، ولما ملكوا بلد مازندران قتلوا وسبوا ونهبوا و أحرقوا البلاد ، ولما فرغوا من مازندران سلكوا نحو الري فرأوا في الطريق والدة خوارزمشاه ونساءه و أموالهم و ذخائرهم التي لم يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة ، فأخذوها وما معها قبل وصولها إلى الري ، فكان فيه ما ملأ عيونهم وقلوبهم ، وما لم يشاهد الناس مثله من كل غريب من المتاع و نفيس من الجواهر ، وغير ذلك ، وسيروا الجميع إلى جنكز خان بسمرقند .



 
ذكر وصول التتر إلى الري وهمذان  :
في سنة سبع عشرة وستمائة وصل التتر لعنهم الله إلى الري في طلب خوارزمشاه محمد لأنهم بلغهم أنه مضى منهزماً منهم نحو الري فجدوا السير في أثره ، وقد انضاف إليهم كثير من عساكر المسلمين و الكفار ، و كذلك أيضاً من المفسدين من يريد النهب والشر ، فوصلوا إلى الري على حين غفلة من أهلها ، فلم يشعروا إلا وقد وصلوا إليها وملكوها و نهبوها ، وسبوا الحريم ، و استرقوا الأطفال ، وفعلوا الأفعال التي لم يسمع بمثلها ، ولم يقيموا ومضوا مسرعين في طلب خوارزمشاه ، فنهبوا في طريقهم كل مدينة وقرية مروا عليها ، وفعلوا في الجميع أضعاف ما فعلوا في الري ، و أحرقوا وخربوا ووضعوا السيف في الرجال و النساء و الأطفال فلم يبقوا على شيء .

و تموا على حالهم إلى همذان ، فلما قاربوا همذان خرج رئيسها ومعه الحمل من الأموال و الثياب و الدواب وغير ذلك يطلب الأمان لأهل البلد فأمنوهم ، ثم فارقوها وساروا إلى زنجان ففعلوا أضعاف ذلك ، ثم وصلوا إلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بمدينتهم فقاتلوهم وجدوا في قتالهم و دخلوها عنوة بالسيف فاقتتلوا هم و أهل البلد حتى صاروا يقتتلون بالسكاكين فقتل من الفريقين ما لا يحصى ، ثم فارقوا قزوين ، فعد القتلى من أهل قزوين فزادوا على أربعين ألف قتيل .

ذكر وصول التتر إلى أذربيجان :
لما هجم الشتاء على التتر في همذان وبلد الجبل رأوا برداً شديداً و ثلجاً متراكماً فساروا إلى أذربيجان ففعلوا في طريقهم بالقرى و المدن الصغار من القتل و النهب مثل ما تقدم منهم وخربوا و أحرقوا . وساروايريدون ساحل البحر لأنه يكون قليل البرد ليشتوا عليه و المراعي به كثيرة لأجل دوابهم فوصلوا إلى موفان و تطرفوا في طريقهم إلى بلاد الكرج فجاء إليهم من الكرج جمع كثير من العسكر نحوعشرة آلاف مقاتل فقاتلوهم فانهزمت الكرج وقتل أكثرهم و أدركهم التتر وقد تعب الكرج من القتال ، وقتل منهم أيضاً كثير ، فلم يثبتوا للتر ، و انهزموا أقبح هزيمة وركبهم السيف من كل جانب ، فقتل منهم مالا يحصى كثرة ، وكانت الوقعة في ذي القعدة من هذه النسة ، ونهبوا من البلاد ماكان سلم منهم .
ولقد جرى لهؤلاء التتر مالم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه ، طائفة تخرج من حدودالصين لا تمضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينية ، من هذه الناحية و يجاوزون العراق من ناحية همذان ، وتالله لا شك أن من يجيء بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها ، و الحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أنا سطرنا نحن وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها- يسر الله للمسلمين والإسلام من يحفظهم و يحوطهم - فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم ، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه و فرجه ، ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن ، هذا العدو الكافر التتر قد وطئوا بلاد ماوراء النهر وملكوها وخربوها و ناهيك به سعة بلاد ، وتعدت طائفة منهم النهر إلى خراسان فملكوها وفعلوا مثل ذلك ثم إلى الري وبلد الجبل و أذربيجان ، وقد اتصلوا بالكرج فغلبوهم على بلادهم و العدو الآخر الفرنج قد ظهر من بلادهم في أقصى بلاد الروم بين الغرب و الشمال ووصلوا إلى مصر فملكوا مثل دمياط و أقاموا فيها ولم يقدر المسلمون على إزعاجهم عنها ولا إخراجهم منها وباقي ديار مصر على خطر فإنا لله و إنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

ومن أعظم الأمور على المسلمين أن سلطانهم خوارزمشاه محمداً قد عدم لا يعرف حقيقة خبره ، فتارة يقال مات عند همذان و أخفي موته ، و تارة دخل أطراف بلاد فارس ومات هناك و أخفي موته لئلا يقصدها التتر في أثره ، و تارة يقال عاد إلى طبرستان و ركب البحر فتوفي في جزيرة هناك ، وبالجملة فقد عدم ثم صح موته ببحر طبرستان ، وهذا عظيم ، مثل خراسان و عراق العجم أصبح سائباً لا مانع له ولا سلطان يدفع عنه والعدو يجوس البلاد يأخذ ما أراد ، ويترك ما أراد ، على أنهم لم يبقوا على مدينة إلا خربوها وكل ما مروا عليه نهبوه وما لا يصلح أحرقوه ، فكانوا يجمعون الإبريسم تلالاً و يلقون فيه النار و كذلك غيره من الأمتعة .

 
ذكر ملك التتر مراغة :
فلما دخلت سنة ثمان عشرة و ستمائة ساروا من ناحية الكرج لأنهم رأوا أن بين أيديهم شوكة قوية ومضايقة تحتاج إلى قتال و صداع فعدلوا عنهم ، وهذه كانت عادتهم إذا قصدوا مدينة ورأوا عندها امتناعاً عدلوا عنها ، فوصولوا إلى تبريز وصانعهم صاحبها بمال وثياب و دواب فساروا عنه إلى مدينة مراغة فحصروها وليس بها صاحب يمنعها ، فلما حصروها قاتلهم أهلها فنصبوا عليها المجانيق وزحفوا إليها ، وكانت عادتهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون و يقاتلون ، فإن عادوا قتلوا فكانوا يقتلون كرهاً ، وهم المساكين ، وكانوا هم يقاتلون وراء المسلمين فيكون القتل في المسلمين الأسارى وهم بنجوة منه ، فأقاموا عليها عدة أيام ، ثم ملكوا المدينة عنوة وقهراً رابع صفر ، و وضعوا السيف في أهلها فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء ،ونهبوا كل ما صلح لهم ومالا يصلح لهم ، و أحرقوه ، و اختفى بعض الناس منهم فكانوا يأخذون الأسارى و يقولون لهم نادوا في الدروب أن التتر قد رحلوا فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ و يقتل ، ثم رحلوا عنها نحو مدينة إربل .

 
ذكر ملك التتر همذان وقتل أهلها :
عاد التتر إلى همذان فنزلوا بالقرب منها ، وكان لهم بها رئيس يحكم فيها فأرسلوا إليه يأمرونه ليطلب من أهلها مالاً وثياباً ، وكانوا قداستنفذوا أموالهم في طول المدة ، و أشار فقيه البلد بإخراج رئيس التتر من البلد و الامتناع فيه ومقاتلة التتر ، فوثب العامة على الرئيس فقتلوه و امتنعوا في البلد ، فتقدم التتر إليهم وحصروهم ، وكانت الأقوات متعذرة في تلك البلاد جميعها لخرابها وقلت أهلها وجلاء من سلم منهم فلا يقدر أحد على الطعام إلا قليلاً ، و أما التتر فلا يبالون لعدم الأقوات لأنهم لا يأكلون إلا اللحم و لا تأكل دوابهم إلا نبات الأرض ، حتى إنها تحفر بحوافرها الأرض عن عروق النبات فتأكلها ، فلما حصروا همذان قاتلهم أهلها و الرئيس و الفقيه في أوائلهم فقتل من التتر خلق كثير و جرح الفقيه عدة جراحات و افترقوا ، ثم خرجوا من الغد فاقتتلوا أشد من القتال الأول وقتل أيضاً من التتر أكثر من اليوم الأول و جرح الفقيه أيضاً عدة جراحات و هو صابر ، و أرادوا أيضاً الخروج في اليوم الثالث فلم يطق الفقيه الركوب و طلب الناس الرئيس فلم يجدوه كان قد هرب و اجتمعت كلمتهم على القتال إلى أن يموتوا فأقاموا في البلد ولم يخرجوا منه ، و كان التتر قد عزموا على الرحيل لكثرة من قتل منهم ، فلما لم يروا أحداً خرج إليهم من البلد طمعوا و استدلوا على ضعف أهله فقصدوهم و قاتلوهم في رجب من سنة ثمان عشرة وستمائة ودخلوا المدينة بالسيف وقاتلهم الناس في الدروب فبطل السلاح للزحمة و اقتتلوا بالسكاكين ، فقتل من الفريقين مالا يحصيه إلا الله تعالى ، وقوي التتر على المسلمين فأفنوهم قتلاً ، ولم يسلم إلا من كان عمل له نفقاً يختفي فيه ، وبقي القتل في المسلمين عدة أيام، ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوه و رحلوا عنها إلى مدينة أردويل .

ذكر مسير التتر إلى أذربيجان :
رحل التتار إلى مدينة سراو فنهبوها و قتلوا كل من فيها ، ورحلوا منها إلى بيلقان من بلاد أران ، فنهبوا كل ما مروا به من البلاد و القرى ، وخربوا و قتلوا من ظفروا به من أهلها ، فلما وصلوا إلى بيلقان حضروها فاستدعى أهلها منهم رسولاً يقرون معه الصلح ، فأرسلوا إليهم رسولاً من أكابرهم و مقدمهم فقتله أهل البلد ، فزحف التتر إليهم و قاتلوهم ، ثم إنهم ملكوا البلد عنوة في شهر رمضان سنة ثمان عشرة ووضعوا السيف فلم يبقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة ، حتى إنهم يشقون بطون الحبالى و يقتلون الأجنة ، وكانوا يفجرون بالمرأة ثم يقتلونها ، و كان الإنسان منهم يدخل الدرب فيه الجماعة فيقتلهم واحداً بعد واحد حتى يفرغ من الجميع لا يمد أحد منهم إليه يداً ، فلما فرغوا منها استقصوا ما حولها من النهب و التخريب ، وساروا إلى مدينة كنجة وهي أم بلاد أران فعلموا بكثرة أهلها وشجاعتهم لكثرة دربتهم بقتال الكرج و حصانتهم فلم يقدموا عليها فأرسلوا إلى أهلها يطلبون منهم المال و الثياب فحملوا إليهم ما طلبوا فساروا عنهم .

 
ذكر وصول التتر إلى بلاد الكرج :
لما فرغ التتر من بلاد المسلمين بأذربيجان و أران بعضه بالملك و بعضه بالصلح ، وساروا إلى بلاد الكرج من هذه الأعمال أيضاً ، وكان الكرج قد أعدوا لهم و استعدوا وسيروا جيشاً كثيراً إلى طرف بلادهم ليمنعوا التتر عنها ، فوصل إليهم التتر فالتقوا فلم يثبت الكرج بل ولوا منهزمين ، فأخذهم السيف فلم يسلم منهم إلا الشريد ، ولقد بلغني أنهم قتل منهم نحو ثلاثين ألفاً ، و نهبوا ما وصلوا إليه من بلادهم و خربوها وفعلوا بها ماهو عادتهم ، فلما وصل المنهزمون إلى تفليس وبها ملكهم جمع جموعاً أخرى وسيرهم إلى التتر أيضاً ليمنعوهم من توسط بلادهم فرأوا التتر وقد دخلوا البلاد لم يمنعهم جبل ولا مضيق ولا غير ذلك ، فلما رأوا فعلهم عادوا إلى تفليس فأخلوا البلاد، ففعل التتر فيها ما أرادوا من النهب و القتل و التخريب ، ورأوا بلاداً كثيرة المضايق فلم يتجاسروا على الوغول فيها فعادوا عنها ، وداخل الكرج منهم خوف عظيم حتى سمعت عن بعض أكابر الكرج وكان قدم رسولاً أنه قال : من حدّثكم أن التتر انهزموا و أسروا فلا تصدقوه ، و إذا حدثتم أنهم قتلوا فصدقوا ، فإن القوم لا يفرون أبداً ، ولقد أخذنا أسيراً منهم فألقى نفسه من الدابة و ضرب نفسه بالحجر إلى أن مات ولم يسلم نفسه للأسر .

 

تابع الجزء الثاني .....

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply