بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: أسباب حبوط الأعمال في القرآن الكريم:
أولاً: كراهة ما أنزل الله
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحبَطَ أَعمَالَهُم} [سورة محمد: 9].
قال سيد قطب رحمه الله: \" وهو تصوير لما يعتمل في قلوبهم ويختلج في نفوسهم من الكراهية لما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه. وهذا هو الذي يدفع بهم إلى الكفر والعناد والخصومة والملاحاة. وهي حالة كثير من النفوس الفاسدة التي تكره بطبعها ذلك النهج السليم القويم، وتصادمه من داخلها، بحكم مغايرة طبيعتها لطبيعته. وهي نفوس يلتقي بها الإنسان كثيراً في كل زمان وفي كل مكان، ويحس منها النفرة والكراهية لهذا الدين وما يتصل به ; حتى إنها لتفزع من مجرد ذكره كما لو كانت قد لذعتها العقارب! وتتجنب أن يجيء ذكره أو الإشارة إليه فيما تسمع حولها من حديث! ولعلنا نشاهد في هذه الأيام حالة من هذا الطراز لا تخفى على الملاحظة!
وكان جزاء هذه الكراهية لما أنزل الله، أن أحبط الله أعمالهم. فالحبوط انتفاخ بطون الماشية عند أكلها نوعاً من المرعى سام. ينتهي بها إلى الموت والهلاك. وكذلك انتفخت أعمالهم وورمت وانبعجت..ثم انتهت إلى الهلاك والضياع! إنها صورة وحركة، ونهاية مطابقة لحال من كرهوا ما أنزل الله ثم تعاجبوا بالأعمال الضخام.المنتفخة كبطون الأنعام، حين ترعى من ذلك النبت السام \" [في ظلال القرآن، (ج 6/ 3289)].
ثانياً: إتباع ما أسخط الله
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضوَانَهُ فَأَحبَطَ أَعمَالَهُم} [سورة محمد: 28].
قال ابن عاشور رحمه الله: \" واتباعهم ما أسخط الله: هو اتباعهم الشرك. والسخط مستعار لعدم الرضى بالفعل. وكراهتهم رضوان الله: كراهتهم أسباب رضوانه وهو الإسلام.
والجمع بين الإخبار عنهم باتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه مع إمكان الاجتزاء بأحدهما عن الآخر للإيماء إلى أن ضرب الملائكة وجوه هؤلاء مناسب لإقبالهم على ما أسخط الله، وأن ضربهم أدبارهم مناسب لكراهتهم رضوانه لأن الكراهة تستلزم الإعراض والإدبار.
فكان ذلك التعذيب مناسباً لحالي توقيهم في الفرار من القتال وللسببين الباعثين على ذلك التوقي.
وفرع على اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه قال \"فأحبط أعمالهم\" فكان اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه سبباً في الأمرين: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند الوفاة، وإحباط أعمالهم \" [التحرير و التنوير، (ج17/4044)].
\" فهم الذين أرادوا لأنفسهم هذا المصير واختاروه. هم الذين عمدوا إلى ما أسخط الله من نفاق ومعصية وتآمر مع أعداء الله وأعداء دينه ورسوله فاتبعوه. وهم الذين كرهوا رضوان الله فلم يعملوا له، بل عملوا ما يسخط الله ويغضبه.. فأحبط أعمالهم.. التي كانوا يعجبون بها ويتعاجبون ; ويحسبونها مهارة وبراعة وهم يتآمرون على المؤمنين ويكيدون. فإذا بهذه الأعمال تتضخم وتنتفخ. ثم تهلك وتضيع! \" [في ظلال القرآن، (ج 6/ 3298)].
ثالثاً: الكفر و الصد عن سبيل الله و مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: {كَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم كَانُوا أَشَدَّ مِنكُم قُوَّةً وَأَكثَرَ أَموَالاً وَأَولاَدًا فَاستَمتَعُوا بِخَلاقِهِم فَاستَمتَعتُم بِخَلاَقِكُم كَمَا استَمتَعَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُم بِخَلاَقِهِم وَخُضتُم كَالَّذِي خَاضُوا أُولَـئِكَ حَبِطَت أَعمَالُهُم فِي الٌّدنيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} [سورة التوبة: 69].
\" أولئك حبطت أعمالهم أي بطلت مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب \".
و عن ابن عباس في قوله كالذين من قبلكم الآية قال ابن عباس ما أشبه الليلة بالبارحة\" كالذين من قبلكم\" هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم لا أعلم إلا أنه قال والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه\".
و قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدٌّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقٌّوا الرَّسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرٌّوا اللَّهَ شَيئًا وَسَيُحبِطُ أَعمَالَهُم} [سورة محمد: 32].
قال ابن كثير رحمه الله: \" يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله وخالف الرسول وشاقه، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى أنه لن يضر الله شيئاً، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها، وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير، بل يحبطه ويمحقه بالكلية كما أن الحسنات يذهبن السيئات \" [تفسير القرآن العظيم، (ج4/195)].
و قال سيد قطب رحمه الله: \" إنه قرار من الله مؤكد، ووعد منه واقع: أن الذين كفروا، ووقفوا في وجه الحق أن يُبَلغ إلى الناس ; وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع أو أية وسيلة من الوسائل، وشاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته بإعلان الحرب عليه، والمخالفة عن طريقه، والوقوف في غير صفه. أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه والمتبعين لسنته والقائمين على دعوته. وذلك {من بعد ما تبين لهم الهدى}.. وعرفوا أنه الحق ; ولكنهم اتبعوا الهوى، وجمح بهم العناد وأعماهم الغرض، وقادتهم المصلحة العاجلة.
قرار من الله مؤكد، ووعد من الله واقع أن هؤلاء {لن يضروا الله شيئاً}.. وهم أضأل وأضعف من أن يُذكروا في مجال إلحاق ضرر بالله سبحانه وتعالى. فليس هذا هو المقصود إنما المقصود أنهم لن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته. ولن يُحدِثوا حدثاً في نواميسه وسننه. مهما بلغ من قوتهم، ومهما قدروا على إيذاء بعض المسلمين فترة من الوقتº فإن هذا بلاء وقتي يقع بإذن الله لحكمة يريدها ; وليست ضراً حقيقيا لناموس الله وسنته ونظامه ونهجه وعباده القائمين على نظامه ونهجه. والعاقبة مقررة: {وسيحبط أعمالهم}.. فتنتهي إلى الخيبة والدمار. كما تنتهي الماشية التي ترعى ذلك النبات السام! \" [في ظلال القرآن، (ج6/ 3300 )].
رابعاً: رفع الصوت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرفَعُوا أَصوَاتَكُم فَوقَ صَوتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهرِ بَعضِكُم لِبَعضٍ, أَن تَحبَطَ أَعمَالُكُم وَأَنتُم لَا تَشعُرُونَ} [سورة الحجرات: 2].
قال ابن عاشور: \" ظاهر الآية التحذير من حبط جميع الأعمال لأن الجمع المضاف من صيغ العموم ولا يكون حبط جميع الأعمال إلا في حالة الكفر لأن من الأعمال الإيمان فمعنى الآية: أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته أو يفضي به إلى الكفر.
قال ابن عطية: أي يكون ذلك سبباً إلى الوحشة في نفوسكم فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فحبط الأعمال.
وأقول: لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعود النفس بالاسترسال فيه فلا تزال تزداد منه وينقص توفير الرسول صلى الله عليه وسلم من النفس وتتولى من سيء إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه وذلك كفر. وهذا معنى {وأنتم لا تشعرون} لأن المنتقل من سيء إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملي من السوء بحكم التعود بالشيء قليلاً حتى تغمره المعاصي وربما كان آخرها الكفر حين تضرى النفس بالإقدام على ذلك.
ويجوز أن يراد حبط بعض الأعمال على أنه عام مراد به الخصوص فيكون المعنى حصول حطيطة في أعمالهم بغلبة عظم ذنب جهرهم له بالقول، وهذا مجمل لا يعلم مقدار الحبط إلا الله تعالى \" [التحرير و التنوير، (ج17/4090)].
ففي قوله {وأنتم لا تشعرون} تنبيه إلى مزيد الحذر من هذه المهلكات حتى يصير ذلك دربة حتى يصل إلى ما يحبط الأعمال، وليس عدم الشعور كائنا في إتيان الفعل المنهي عنه لأنه لو كان كذلك لكان صاحبه غير مكلف لامتناع تكليف الغافل ونحوه.
{يا أيها الذين آمنوا}.. ليوقروا النبي الذي دعاهم إلى الإيمان.
{أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}.. ليحذروا هذا المزلق الذي قد ينتهي بهم إلى حبوط أعمالهم، وهم غير شاعرين ولا عالمين، ليتقوه!
أثر هذا النداء في نفوس الصحابة:
ولقد عمل في نفوسهم ذلك النداء الحبيب، وهذا التحذير المرهوب، عمله العميق الشديد:
قال البخاري: عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا.. أبو بكر وعمر رضي الله عنهما º رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم في السنة التاسعة من الهجرة، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع أي ليؤمره عليهم وأشار الآخر برجل آخر. قال نافع: لا أحفظ اسمه \"في رواية أخرى أن اسمه القعقاع بن معبد\" فقال: أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ما أردت إلا خلافي. فقال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك. فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}. قال ابن الزبير رضي الله عنه: فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه! وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لما نزلت هذه الآية: قلت: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا كأخي السرار \"يعني كالهمس! \".
منقبة عظيمة لثابت بن قيس رضي الله عنه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته، منكسا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، وهو من أهل النار. فأتى الرجل فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى بن أنس: فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: (اذهب إليه، فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة). [صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم الحديث (3417)].
قال أنس رضي الله عنه: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة.
قال النووي: في هذا الحديث:
منقبة عظيمة لثابت بن قيس رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من أهل الجنة.
وفيه أنه ينبغي للعالم وكبير القوم أن يتفقد أصحابه ويسأل عمن غاب منهم.
فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب، وذلك التحذير الرعيب ; وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون. ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم! ولكن هذا المنزلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم، فخافوه واتقوه!
ونوه الله بتقواهم، وغضهم أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعبير عجيب:
{إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم}.
فالتقوى هبة عظيمة، يختار الله لها القلوب، بعد امتحان واختبار، وبعد تخليص وتمحيص، فلا يضعها في قلب إلا وقد تهيأ لها، وقد ثبت أنه يستحقها. والذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قد اختبر الله قلوبهم وهيأها لتلقي تلك الهبة. هبة التقوى. وقد كتب لهم معها وبها المغفرة والأجر العظيم.
إنه الترغيب العميق، بعد التحذير المخيف. بها يربي الله قلوب عباده المختارين، ويعدها للأمر العظيم. الذي نهض به الصدر الأول على هدى من هذه التربية ونور.
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فجاء فقال: أتدريان أين أنتما ? ثم قال: من أين أنتما ? قالا: من أهل الطائف. فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا!
وعرف علماء هذه الأمة وقالوا: إنه يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته صلى الله عليه وسلم احتراماً له في كل حال.
ثم أشار إلى حادث وقع من وفد بني تميم حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام التاسع. الذي سمي \"عام الوفود\".. لمجيء وفود العرب من كل مكان بعد فتح مكة، ودخولهم في الإسلام، وكانوا أعرابا جفاة، فنادوا من وراء حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم المطلة على المسجد النبوي الشريف: يا محمد. اخرج لنا. فكره النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجفوة وهذا الإزعاج. فنزل قوله تعالى:
{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم}.
فوصفهم الله بأن أكثرهم لا يعقلون. وكره إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وحرمة رسول الله القائد والمربي. وبين لهم الأولى والأفضل وهو الصبر والانتظار حتى يخرج إليهم. وحبب إليهم التوبة والإنابة، ورغبهم في المغفرة والرحمة.
وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع، وتجاوزوا به شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل أستاذ وعالم. لا يزعجونه حتى يخرج إليهم ; ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم.. يحكى عن أبي عبيد العالم الزاهد الراوية الثقة أنه قال: \"ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه\" [في ظلال القرآن، (ج 6 / 3340 )].
خامساً: الردة
قال تعالى: {وَمَن يَرتَدِد مِنكُم عَن دِينِهِ فَيَمُت وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَـئِكَ حَبِطَت أَعمَالُهُم فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَـئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة: 217].
قال القرطبي رحمه الله: \" استظهر علماؤنا بقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [سورة الزمر: 65]:
قالوا: وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته; لأنه عليه السلام يستحيل منه الردة شرعاً.
وقال أصحاب الشافعي: بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة، وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله; فكيف أنتم! لكنه لا يشرك لفضل مرتبته.
وقال علماؤنا: إنما ذكر الله الموافاة شرطاً ها هنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاء; فمن وافى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى.
فهما آيتان مفيدتان لمعنيين، وحكمين متغايرين. وما خوطب به عليه السلام فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه.
و قال السعدي – رحمه الله: \" دلت الآية بمفهومها، أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام، أنه يرجع إليه عمله و كذلك من تاب من المعاصي، فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة \" [تفسير السعدي، (ص106)].
قال ابن عاشور – رحمه الله: \" والمقصد منه التحذير، لأنه لما ذكر حرص المشركين على رد المسلمين عن الإسلام وعقبه باستبعاد أن يصدر ذلك من المسلمين، أعقبه بالتحذير منه، وجيء بصيغة يرتدد وهي صيغة مطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قدر حصوله لا يكون إلا عن محاولة من المشركين فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه ومن عرف الحق لا يرجع عنه إلا بعناء\" [التحرير و التنوير، الطاهر ابن عاشور، (ج3/603)].
\" ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه ; تحت مطارق الأذى والفتنة مهما بلغت هذا مصيره الذي قرره الله له.. حبوط العمل في الدنيا والآخرة. ثم ملازمة العذاب في النار خلوداً.
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه، لا يمكن أن يرتد عنه ارتداداً حقيقيا أبداً. إلا إذا فسد فساداً لا صلاح له. وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة. فالله رحيم. رخص للمسلم حين يتجاوز العذاب طاقته أن يقي نفسه بالتظاهر، مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان. ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي، وفي الارتداد الحقيقي، بحيث يموت وهو كافر.. والعياذ بالله..
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان.. ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه، ويرتد عن إيمانه وإسلامه، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه.. وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله. والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به، ويصبرون على الأذى في سبيله. فهو معوضهم خيراً: إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة \" [في ظلال القرآن، (ج1/ 222)].
سادساً: الكفر بآيات الله و قتل النبيين و الذين يأمرون الناس بالقسط
قال تعالى: {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم * أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَت أَعمَالُهُم فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [سورة آل عمران: 22].
\" فهذا هو المصير المحتوم: عذاب أليم. لا يحدده بالدنيا أو بالآخرة. فهو متوقع هنا وهناك. وبطلان لأعمالهم في الدنيا والآخرة في تعبير مصور.. وهكذا أعمال هؤلاء قد تنتفخ وتتضخم في الأعين. ولكنه الانتفاخ المؤدي إلى البطلان والهلاك! حيث لا ينصرهم ناصر ولا يدفع عنهم حام! \" [في ظلال القرآن، (ج1/ 375376)].
سابعاً: النفاق:
قال تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيكُم فَإِذَا جَاء الخَوفُ رَأَيتَهُم يَنظُرُونَ إِلَيكَ تَدُورُ أَعيُنُهُم كَالَّذِي يُغشَى عَلَيهِ مِنَ المَوتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوفُ سَلَقُوكُم بِأَلسِنَةٍ, حِدَادٍ, أَشِحَّةً عَلَى الخَيرِ أُولَئِكَ لَم يُؤمِنُوا فَأَحبَطَ اللَّهُ أَعمَالَهُم وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [سورة الأحزاب: 19].
\" فهذه هي العلة الأولى. العلة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشة الإيمان، ولم تهتد بنوره، ولم تسلك منهجه. {فأحبط الله أعمالهم}.. ولم ينجحوا لأن عنصر النجاح الأصيل ليس هناك \" [المصدر السابق].
وقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقسَمُوا بِاللّهِ جَهدَ أَيمَانِهِم إِنَّهُم لَمَعَكُم حَبِطَت أَعمَالُهُم فَأَصبَحُوا خَاسِرِينَ} [سورة المائدة: 53].
\" لقد جاء الله بالفتح يوماً، وتكشفت نوايا، وحبطت أعمال، وخسرت فئات. ونحن على وعد من الله قائم بأن يجيء الفتح، كلما استمسكنا بعروة الله وحده ; وكلما أخلصنا الولاء لله وحده. وكلما وعينا منهج الله، وأقمنا عليه تصوراتنا وأوضاعنا. وكلما تحركنا في المعركة على هدى الله وتوجيهه. فلم نتخذ لنا ولياً إلا الله ورسوله والذين آمنوا \" [في ظلال القرآن، (ج 2/917)].
ثامناً: التكذيب بآيات الله و لقاء الآخرة
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَت أَعمَالُهُم هَل يُجزَونَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ} [سورة الأعراف: 147].
\" وإن الإنسان ليصادف هذا الصنف من الخلق بوصفه هذا وسمته وملامحه، فيرى كأنما يتجنب الرشد ويتبع الغي دون جهد منه، ودون تفكير ولا تدبير! فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه، وينشرح لطريق الغي ويتبعه! وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله لا يراها ولا يتدبرها ولا تلتقط أجهزته إيحاءاتها وإيقاعاتها! وسبحان الله! فمن خلال اللمسات السريعة في العبارة القرآنية العجيبة ينتفض هذا النموذج من الخلق شاخصاً بارزاً حتى ليكاد القارئ يصيح لتوه: نعم. نعم. أعرف هذا الصنف من الخلق.. إنه فلان!!! وإنه للمعنيّ الموصوف بهذه الكلمات!!!
وما يظلم الله هذا الصنف من الخلق بهذا الجزاء المردي المؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.. إنما هو الجزاء الحق لمن يكذب بآيات الله ويغفل عنها، ويتكبر في الأرض بغير الحق، ويتجنب سبيل الرشد حيثما رآه، ويهرع إلى سبيل الغي حيثما لاح له! فإنما بعمله جوزي ; وبسلوكه أورد موارد الهلاك \" [في ظلال القرآن، (ج3/ 1372)].
\" وحبوط الأعمال مأخوذ من قولهم: حبطت الناقة.. إذا رعت نباتاً ساماً، فانتفخ بطنها ثم نفقت.. وهو وصف ملحوظ فيه طبيعة الباطل الذي يصدر من المكذبين بآيات الله ولقاء الآخرة. فهو ينتفخ حتى يظنه الناس من عظمة وقوة! ثم ينفق كما تنفق الناقة التي رعت ذلك النبات السام!
وإنه لجزاء كذلك حق أن تحبط وتهلك أعمال الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة.
ولكن كيف تُحبط هذه الأعمال ؟
\" من ناحية الاعتقاد: نحن نؤمن بصدق وعيد الله لا محالة، أياً كانت الظواهر التي تخالف هذه العاقبة المحتومة. فحيثما كذب أحد بآيات الله ولقائه في الآخرة حبط عمله وبطل، وهلك في النهاية وذهب كأن لم يكن.
ومن ناحية النظر: نحن نجد السبب واضحاً في حياة البشر.. إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور، أو آياته المصاحبة للرسالات، أو التي يحملها الرسل ; ويكذب تبعاً لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر.. إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المؤمن المسلم ونواميسه.. لا تربطه بهذا الكون رابطة. وهو منقطع عن دوافع الحركة الصادقة الموصولة بغاية الوجود واتجاهه. وكل عمل يصدر عن مثل هذا المسخ المقطوع هو عمل حابط ضائع، ولو بدا أنه قائم وناجح. لأنه لا ينبعث عن البواعث الأصيلة العميقة في بنية هذا الوجود ; ولا يتجه إلى الغاية الكبيرة التي يتجه إليها الكون كله. شأنه شأن الجدول الذي ينقطع عن النبع الأول ; فمآله إلى الجفاف والضياع في يوم قريب أو بعيد!
والذين لا يرون العلاقة الوثيقة بين تلك القيم الإيمانية وحركة التاريخ الإنساني ; والذين يغفلون عن قدر الله الذي يجري بعاقبة الذين يتنكرون لهذه القيم.. هؤلاء إنما هم الغافلون الذين أعلن الله سبحانه عن مشيئته في أمرهم، بصرفهم عن رؤية آياته، وتدبر سننه.. وقدر الله يتربص بهم وهم عنه غافلون..
والذين يخدعهم ما يرونه في الأمد القصير المحدود، من فلاح بعض الذين يغفلون عن تلك القيم الإيمانية ونجاحهم ; إنما يخدعهم الانتفاخ الذي يصيب الدابة وقد رعت النبت السام ; فيحسبونه شحماً وسمنة وعافية وصحة.. والهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط! \" [في ظلال القرآن، (ج313731372 / )].
تاسعاً: إرادة الحياة الدنيا و زينتها
قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدّنيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيهِم أَعمَالَهُم فِيهَا وَهُم فِيهَا لاَ يُبخَسُونَ * أُولَـَئِكَ الّذِينَ لَيسَ لَهُم فِي الاَخِرَةِ إِلاّ النّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مّا كَانُوا يَعمَلُونَ} [سورة هود: 1617]
قال ابن كثير – رحمه الله: \" عن ابن عباس في هذه الآية: إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لا يظلمون نقيراً يقول من عمل صالحاً التماس الدنيا صوماً أو صلاة أو تهجداً بالليل لا يعمله إلا التماس الدنيا يقول الله تعالى: أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا وهو في الآخرة من الخاسرين\".
و قال مجاهد وغيره: \" نزلت في أهل الرياء، وقال قتادة: من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطىَ بها جزاء وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة \" [تفسير القرآن العظيم، (ج2/ 455)].
و عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها) [صحيح مسلم، باب: جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا، (ج1/97)، رقم (2808)].
و عن أنس بن مالك أيضاً أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته) [صحيح مسلم، (ج1/98)].
\" إن للجهد في هذه الأرض ثمرته. سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته المحدودة. فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها، فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا ; ويتمتع بها كما يريد في أجل محدود ولكن ليس له في الآخرة إلا النار، لأنه لم يقدم للآخرة شيئاً، ولم يحسب لها حساباً، فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا. ولكنه باطل في الآخرة لا يقام له فيها وزن وحابط [من حبطت الناقة إذا انتفخ بطنها من المرض] وهي صورة مناسبة للعمل المنتفخ المتورم في الدنيا وهو مؤد إلى الهلاك!
ونحن نشهد في هذه الأرض أفراداً اليوم وشعوباً وأمما تعمل لهذه الدنيا، وتنال جزاءها فيها، زينة، ولدنياها انتفاخ! فلا يجوز أن نعجب ولا أن نسأل: لماذا ? لأن هذه هي سنة الله في هذه الأرض: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون}.
ولكن التسليم بهذه السنة ونتائجها لا يجوز أن ينسينا أن هؤلاء كان يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه ونفوسهم تتطلع للآخرة وتراقب الله في الكسب والمتاع فينالوا زينة الحياة الدنيا لا يبخسون منها شيئاً، وينالوا كذلك متاع الحياة الأخرى \" [في ظلال القرآن، (ج4/ 18621863 )].
\" إن العمل للحياة الأخرى لا يقف في سبيل العمل للحياة الدنيا. بل إنه هو هو مع الاتجاه إلى الله فيه. ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره ولا تنقص من آثاره ; بل تزيد وتبارك الجهد والثمر، وتجعل الكسب طيباً والمتاع به طيباً، ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة. إلا أن يكون الغرض من متاع الدنيا هو الشهوات الحرام. وهذه مردية لا في الأخرى فحسب، بل كذلك في الدنيا ولو بعد حين. وهي ظاهرة في حياة الأمم وفي حياة الأفراد. وعبر التاريخ شاهدة على مصير كل أمة اتبعت الشهوات على مدار القرون\" [في ظلال القرآن، (ج4 / 1863)].
عاشراً: الشرك
قال تعالى: {مَا كَانَ لِلمُشرِكِينَ أَن يَعمُرُوا مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالكُفرِ أُولَئِكَ حَبِطَت أَعمَالُهُم وَفِي النَّارِ هُم خَالِدُونَ} [سورة التوبة: 17].
فأعمالهم باطلة، و فاسدة أصلاً، ومنها عمارة بيت الله التي لا تقوم إلا على قاعدة من توحيد الله.
إن العبادة تعبير عن العقيدة ; فإذا لم تصح العقيدة لم تصح العبادة ; وأداء الشعائر وعمارة المساجد ليست بشيء ما لم تعمر القلوب بالاعتقاد الإيماني الصحيح، وبالعمل الواقع الصريح، وبالتجرد لله في العمل والعبادة على السواء \" [في ظلال القرآن، (ج 3/ 1614)].
وقال تعالى: {وَلَقَد أُوحِيَ إِلَيكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكَ لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِين} [سورة الزمر: 65].
والله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أوحى إليك كما أوحى إلى النبيين من قبلك أن الشرك يحبط العمل ويفسده، ويئول في النهاية إلى الخسران، الخسران الأكبر في الآخرة بدخول النار والعياذ بالله.
و قال تعالى: {وَقَدِمنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِن عَمَلٍ, فَجَعَلنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [سورة الفرقان: 23].
\" هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي:
إما الإخلاص فيها.
وإما المتابعة لشرع الله.
فكل عمل لا يكون خالصاً وعلى الشريعة المرضية فهو باطل فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين وقد تجمعهما معا فتكون أبعد من القبول حينئذ.
ولهذا قال تعالى: \"وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً\".
قال مجاهد والثوري \"وقدمنا\" أي عمدنا وكذا قال السدي. وبعضهم يقول أتينا عليه.
وقوله تعالى: \"فجعلناه هباء منثورا\" قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه في قوله: \"هباء منثورا\" قال شعاع الشمس إذا دخل الكوة.
وكذا قال الحسن البصري هو الشعاع في كوة أحدكم ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع.
و عن ابن عباس: \"هباء منثوراً \" قال هو الماء المهراق.
و عن علي: \"هباء منثوراً \". قال الهباء وهج الدواب.
وقال قتادة في قوله: \"هباء منثوراً \"، قال أما رأيت يبس الشجر إذا ذرته الريح؟ فهو ذلك الورق. وعن عبيد بن يعلى قال: وإن الهباء الرماد إذا ذرته الريح.
\" وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية وذلك أنهم عملوا أعمالاً اعتقدوا أنها على شيء فلما عرضت على الملك الحكم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحداً إذا إنها لا شيء بالكلية وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية \".
إن الناس فى الجاهلية المعاصرة قد انتفخوا من كثرة ما أعطاهم الله استدراجاً عن طريق التقدم العلمى من سيارات وثلاجات وطائرات وصواريخ وقنابل ذرية ونووية وأموال وخيرات من كل الأنواع.
انتفخوا بكل ذلك حتى وصلت بهم ((النفخة)) إلى الاستكبار على الله، يقول الله عن أمثالهم: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم} [سورة غافر: 83].
ولكنه انتفاخ كانتفاخ الناقة الحابطة بالغذاء المسموم 0
فاستثمار خيرات الأرض وصل حالياً إلى حد لم يبلغه في التاريخ، والفقر الجاثم على كثير من ربوع الأرض ليس له كذلك مثيل في التاريخ!
وتقدم الطب بلغ درجة لم يصلها من قبل قط، ونسبة المرض كذلك في تزايد مستمر، وتنشأ أمراض جديدة لا عهد للبشرية بها من قبل، وآخرها مرض نقص المناعة المكتسبة المسمى بالإيدز 0
والتنادى بالحريات السياسية والحريات الإنسانية يشبه الدوى فى برلمانات الأرض، وصحفها ووسائل إعلامها، والعبودية التي يعيش الناس فيها في أكثر بقاع الأرض أبشع عبودية في التاريخ0
ووسائل المتاع التي اخترعها البشر ليتناولوا بها أكبر قسط من متاع الأرض لا مثيل لها في كثرتها وتنوعها واستغراقها لحياة الناس، ودرجة الشقاء التي يحسها الناس من أول الاضطرابات النفسية إلى الجنون لا مثيل لها كذلك في كل التاريخ! \" [ركائز الإيمان، محمد قطب، (ص126)].
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد