بسم الله الرحمن الرحيم
إذ انتهى بنا البحث في تدوين العقيدة الإسلامية إلى القرن الرابع الهجري، وهو ما أسماه بعضهم بـ (عصر النهضة في الإسلام)، فإننا نجد مصطلحاً شاع استعماله كثيراً، ولا يزال، حتى أصبح عَلَماً على هذا الجانب الذي نؤرِّخ له، وهو (التوحيد)، وبجانبه مصطلح آخر هو (الشريعة) مع مصطلحات أخرى.
نقف لها هذه المقالة المختصرة، لعل فيها بعض الغَناء عن كثير من التطويل والإسهاب.
4- التوحيد:
قال ابن فارس في (معجم المقاييس ) [1]: (وحد - الواو والحاء والدال، أصل واحد يدل على الانفراد، من ذلك: الوحدة.
وهو واحد قبيلته، إذ لم يكن فيهم مثله.
قال الشاعر:
يا واحد العرب الذي *** ما في الأنام له نظير
ولقيتُ القوم مَوحَد مَوحَد، ولقيتهُ وحدَه.
ولا يضاف إلا في قولهم: نسيج وحده، وعيير وحده..
والواحد: المنفرد.. ).
وقال الراغب الأصفهاني في (المفردات ) [2]: (الوحدة: الانفراد.
والواحد - في الحقيقة - هو الشيء الذي لا جزء له البتة.
ثم يطلق على كل موجود، حتى إنه ما من عدد إلا ويصح أن يوصف به..
فالواحد لفظ مشترك يطلق على ستة أوجه ) وذكر هذه الوجوه.
وقال ابن منظور في (اللسان ) [3]: (قال ابن سِيده: والله الأوحد المتوحد وذو الوحدانية.
ومن صفاته: الواحد الأحد.
والفرق بينهما - كما قال الأزهري وغيره -: أن (الأحد) بني لنفي ما يذكر معه من العدد، و (الواحد) اسم بني لمفتتح العدد...
ولا يوصف شيء بالأحدية غير الله - تعالى -).
والتوحيد في اللغة: الحكم بأن الشيء واحد، والعلم بأنه واحد، وهو على وزن التَّفعيل، وهذا النوع من الفعل يأتي متعدياً، إلا أحرفاً جاءت لازمة، كقولهم: روَّض الرَّوضُ، إذا تمَّ حسنه ونضارته..
وهذه الصيغة لها معنيان: أحدهما: تكثير الفعل وتكريره والمبالغة فيه، كقولهم: كسَّرت الإناء، وغلَّقت الأبواب.
والوجه الثاني: وقوعه مرة واحدة كقولهم: غدَّيت فلاناً وعشَّيته.
ومعنى وحَّدته: جعلته منفرداً عما يشاركه أو يشبهه في ذاته وصفاته.
والتشديد فيه للمبالغة، أي: بالغت في وصفه بذلك..
وقولهم: وحَّدت الله، أي علِمتُه واحداً منزَّهاً عن المثل في الذات والصفات.
وقال بعض العلماء: التوحيد نفي التشبيه عن ذات الله وصفاته وألوهيته [4].
وبعد هذا التعريف اللغوي نشير إلى المعنى الاصطلاحي الشرعي، فإن التوحيد هو أساس دعوة الإسلام، وهو دين جميع الرسل والأنبياء، وهو إفراد الله - تعالى -بالربوبية والطاعة أو العبادة، ويشمل ذلك أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وهي كلها متلازمة مترابطة.
وتطلق كلمة (التوحيد) أيضاً: على العِلم الذي يدرس الجانب العقائدي من الدين، وعندئذ عرفه العلماء بأنه: علم يبحث فيه عن وجود الله، وما يجب أن يثبت له من صفاته، وما يجوز أن يوصف به وما يجب، وما ينفى عنه، ويبحث عن الرسل لإثبات رسالتهم وما يجوز أن ينسب إليهم وما يمتنع.
وسمي بهذا الاسم تسمية له بأهم أجزائه، فهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
ولما أصبح التوحيد لقباً لهذا العلم، وجدنا عدداً من العلماء كتب فيه تحت هذا العنوان مثل: (كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - عز وجل -) لابن خزيمة (306 هـ)، و (التوحيد ومعرفة أسماء الله - عز وجل - وصفاته على الاتفاق والتفرٌّد) لابن منده (395 هـ)، و (الحجة في بيان المحجة وشرح التوحيد ومذهب أهل السنة) للحافظ قوَّام السنة الأصبهاني (535 هـ)، و(التمهيد لقواعد التوحيد) لأبي المعين النسفي (508 هـ) وهكذا وضعت كتب بهذا العنوان في عصور تالية، لن نستقصيها ونتحدث عنها، لأن ذلك يخرج بنا عما أرد ناه من إيجاز [5].
5- الشريعة:
قال ابن فارس في (معجم المقاييس) [6]: (شرع - الشين والراء والعين أصل واحد، وهو شىء يُفتح في امتداد يكون فيه، من ذلك: الشريعة، وهي مورد الشاربة الماء.
واشتق من ذلك: الشرعة في الدين والشريعة).
وقال ابن منظور في (اللسان ) مادة شرع [7]: (الشريعة والشرعة: ما سنَّ الله من الدين وأمر به، كالصوم والصلاة..
مشتق من شاطئ البحر.
ومن قوله - تعالى -: (لِكُلٍ,ّ جَعَلنَا مِنكُم شِرعَةً ومِنهَاجاً) قيل في تفسيره: الشرعة: الدين، والمنهاج: الطريق.. ).
والشريعة - كما قال الكَفَوي - اسم للأحكام الجزئية التي يتهذب بها المكلَّف معاشاً ومعاداً، سواء كانت منصوصة من الشارع أو راجعه إليه.
ومما ذكره العلماء من تعريف للشريعة نجد أنها تطق على معانٍ, متعددة: أ- فالشريعة هي: كل ما أنزله الله - تعالى -على أنبيائه، وهي تنتظم الاعتقاد والأحكام العملية والأخلاق.
فهي ما شرعه الله من الاعتقاد والعمل.
وبهذا تلتقى مع مفهوم السنة الذي سلف بيانه فيما سبق [8].
ب- وتطلق كذلك على ما خص الله - تعالى -به كل نبي من الأحكام لأمته، مما يختلف من دعوة نبي لآخر، من المنهاج وتفصيل العبادات والمعاملات، ومن هنا نقول: إن الدين في أصله واحد، والشرائع متعددة.
ج- وتطلق أحياناً على ما شرعه الله - تعالى -لجميع الرسل من أصول الاعتقاد والبِّر والطاعة مما لا يختلف من دعوة نبي لآخر، كما قال - تعالى -: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وصَّى بِهِ نُوحاً والَّذِي أَوحَينَا إلَيكَ ومَا وصَّينَا بِهِ إبرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى) [الشورى 13].
د- وتطلق الشريعة بخاصة على العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان.
مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق..
وأنهم لا يكفرِّون أهل القبلة بمجرَّد الذنوب..
فسمَّوا أصول اعتقادهم: شريعة..
والشريعة في هذا كالسنة، التي تقدم الكلام عليها، فقد يراد بها ما سنَّه وشرعه من العقائد، وقد يراد بها ما سنَّه من العمل، وقد يراد بها كلاهما [9].
وممن كتب في اعتقاد أهل السنة والجماعة باسم الشريعة: الإمام الآجري (360 هـ)، وابن بطة العكبري في كتابه (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة) وتوفي ابن بطة سنة (387 هـ).
وطبع الكتاب الأول أكثر من مرة، وحقَّق رسالة علمية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، قدمها الشيخ عبد الله الدميجي، وحقق الثاني كذلك الشيخ رضا معطي، رسالة جامعية في الجامعة نفسها ثم طبع القسم المحقق منها في مجلدين.
6- العقيدة:
قال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) [10]: (عقد - العين والقاف والدال، أصل واحد يدل على شدٍّ, وشدَّةِ وثوقٍ,.
وإليه ترجع فروع الباب كلها.
من ذلك: عقد البناء، والجمع أعقاد وعقود..
وعقدتُ الحبل أعقده عقداً، وقد انعقد، وتلك هي العقدة.
وعاقدته مثل عاهدته.
وهو العقد، والجمع عقود.
والعقد: عقد اليمين، ومنه قوله - تعالى -: (ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتٌّمُ الأَيمَانَ).
وعقدة كل شيء: وجوبه وإبرامه.
وعقد قلبه على كذا فلا ينزع عنه.
واعتقد الشيء: صَلُب.
واعتقد الإخاءُ: ثَبَتَ..).
وقال الراغب في (المفردات ) [11]: (العقد: الجمع بين أطراف الشيء.
ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل وعقد البناء.
ثم يستعار ذلك للمعاني نحو: عقد البيع والعهد وغيرهما، فيقال: عاقدته وعقدته وتعاقدنا وعقدت يمينه..).
وفي (المصباح المنير): (اعتقدت كذا: عقدت عليه القلب والضمير، حتى قيل: العقيدة ما يدين به الإنسان.
وله عقيدة حسنة: سالمة من الشك).
ومن هذه النصوص اللغوية نلاحظ أن مدار كلمة (عقد) على الوثوق والثبات والصلابة في الشيء.
ومن هنا جاء تعريف العقيدة والاعتقاد - كما في المعجم الوسيط - حيث قال: (العقيدة): الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده.
ومن هذا المعنى اللغوي أخذ تعريف العقيدة في الاصطلاح الشرعي، فقال الشيخ حسن البنا - رحمه الله - في تعريف العقائد - بصيغة الجمع -: (هي الأمور التي يجب أن يصدِّق بها قلبك، وتطمئن إليها نفسك، وتكون يقينا عندك، لا يمازجه ريب ولا يخالطه شك).
فهي إذن اعتقاد جازم مطابق للواقع، لا يقبل شكاً ولا ظناً، فما لم يصل العلم بالشيء إلى درجة اليقين الجازم لا يسمى عقيدة.
وإذا كان الاعتقاد غير مطابق للواقع والحق الثابت ولا يقوم على دليل، فهو ليس عقيدة صحيحة سليمة، وإنما هو عقيدة فاسدة، كاعتقاد النصارى بالتثليث وبألوهية عيسى - عليه السلام -.
والناس في هذا الاعتقاد يتفاوتون، وهم في العقيدة على مراتب، كما أن آثار هذه العقيدة تختلف من شخص لآخر حسب ما يقوم به بنفسه منها، واستيقانه بها وفهمه لها وتفاعله معها.
والدراسة التحليلية للعقيدة تشير إلى أنها تعتمد على جوانب نفسية وجدانية وإرادية وعقلية في حياة الإنسان، وتتصل بها كلها اتصالاً وثيقاً، بها تتكامل شخصية الفرد، وبها ينتفي التضارب والصراع بين قواه المتعددة.
هذا، وقد أصبحت كلمة (العقيدة) اسم عَلَمَ على العلم الذي يدرس جوانب الإيمان والتوحيد - التي سبقت الإشارة إليها - وأصبح كل من يكتب في هذا الجانب يُطلق على ما كتبه اسم العقيدة، فيقال: عقيدة الطحاوي، وعقيدة فلان من العلماء..
وأصبحت هذه الكلمة مضافة إلى الإسلام عنواناً على المادة الدراسية في المعاهد والكليات وغيرهما، فيقال (مادة العقيدة الإسلامية).
وأقدم من عرفته ممن استعمل هذه الكلمة عنواناً لما كتبه هو الإمام الحافظ اللالكائي (418 هـ) في كتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة).
و يقع الكتاب في ثمانية أجزاء طبعت بتحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان.
وفي القرن نفسه كتب الإمام أبو عثمان الصابوني (449) رسالته باسم (عقيدة السلف أصحاب الحديث ).
وكتب الجويني (478) كتابه (الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد ).
وقد سبق كتاب (الحجة في ترك المحجة وشرح عقيدة التوحيد ) للحافظ قوَّام السنة الأصفهاني.
وهناك كتب كثيرة تحت هذا العنوان نكتفي بما ذكرناه منها.
7- أصول الدين:
والأصل في اللغة: ما يبتنى عليه غيره من حيث أنه يبتنى عليه، حسياً كان أو عقلياً.
ويطلق عند الفقهاء والأصوليين على معان: أحدها: الدليل، فيقال: الأصل في المسألة الكتاب والسنة.
ويطلق على القاعدة الكلية، كقاعدة لا ضرر ولا ضرار.
ويطلق بمعنى ثالث: وهو الراجح والأولى، كما يطلق على المستصحب.
والأصل في الدين هو التوحيد، والأصل في الاعتقاد هو الإيمان بالمبدأ أو المعاد.
وعلى هذا فأصول الدين هي: ما يقوم الدين عليه ويعتبر أصلاً له.
وهو يقوم على عقيدة التوحيد، ومن هنا سمي علم التوحيد بـ (أصول الدين) كما سماه بعضهم علم (الفقه الأكبر) أو علم (الأصول).
وهي ألفاظ متقاربة.
وعرَّ فه بعضهم بأنه: علم يقتدر معه على إثبات الحقائق الدينية، بإيراد الحجج لها، ودفع الشُبَهِ عنها [12].
وهكذا أصبحت كلمة (أصول الدين) لقباً لعلم العقيدة، وقد استخدمه الشافعي في كتابه (الفقه الأكبر)، ولم يشتهر وقتها.
ثم وضع الإمام الأشعري (329هـ) كتابه: (الإبانة عن أصول الديانة)، ولابن بطة العكبري (387 هـ): (الإبانة عن أصول السنة والديانة)، وللإمام أبي منصور عبد القادر البغدادي (429هـ) كتاب (أصول الدين) ولأبي عثمان الصابوني كتابه السابق في العقيدة، يمكن أن نسلكه هنا، حيث قال فيه: (سألني إخواني أن أجمع لهم فصولاً في أصول الدين.. ) ثم ذكر هذه الأصول.
ولإمام الحرمين الجويني كتاب (الشامل في أصول الدين).
وغير ذلك من الكتب لغيرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) 6 / 90-91.
(2) 514-515.
(3) 3/450-451.
(4) انظر: التعريفات للجرجاني ص (96)، الحجة في بيان المحجة للأصفهاني: 1/305-306.
(5) انظر بالتفصيل: محاضرات في العقيدة، لكاتب هذا المقال ص (67- 70).
(6) 3/262.
(7) 8-176.
(8) انظر العدد (54) من مجلة البيان، ص (18-20).
(9) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه: 19/306-307.
(10) 4/86-87.
(11) ص 341.
(12) أبجد العلوم لصديق خان:3/67 وانظر فيما سبق: الكليات للكفوي 1/ 188، فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه: 19/134.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد