بسم الله الرحمن الرحيم
كانت بداية التدوين في علم العقيدة في القرن الثاني الهجري تحت عنوان (الفقه الأكبر)، وتلا ذلك في القرن الثالث الهجري مصطلح جديد هو (الإيمان) - كما لاحظنا في العدد السابق - وفي هذا القرن أيضاً شاع مصطلح جديد، أصبح عنواناً لكثير من الكتب في العقيدة الإسلامية، وهو (السنة). وهذا ما سنلمح إليه في هذا المقال.
3- السٌّنَّة:
قال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) (3/ 60-61): (سن - السين والنون أصل واحد مطَّرد، وهو جريان الشيء واطراده في سهولة. والأصل قولهم: سننت الماء على وجهي أسنٌّه سَنَّاً، إذا أرسلته إرسالاً.. ومما اشتق منه: السنٌّة، وهي السيرة. وسنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سيرتُه.
قال الهُذَليٌٌّّ: فلا تَجزَعَن من سِيرَة أنتَ سِرتَهَا فأولُ راضٍ, سنةً من يَسِيرُهَا فالسنة في اللغة: هي الطريقة المسلوكة، محمودةً كانت أو مذمومة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده.) [1].
والسنة أيضاً: هي العادة، قال - تعالى -: (سُنَّةَ مَن قَد أَرسَلنَا قَبلَكَ)، أي هكذا عاداتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب [2].
وفي الشرع تطلق على معانٍ,، منها الشريعة، وبهذا المعنى جاء قولهم: الأولى بالإمامة الأعلم بالسنة: أي بأحكام الشرع.
ومنها الطريقة المسلوكة في الدين، فتنتظم المستحب والمباح، كما تنتظم أيضاً الواجب والفرض.
وتطلق في عرف الفقهاء واصطلاحهم على الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب.
والمراد بالطريقة المسلوكة في الدين: ما سلكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيره ممن هم علم في الدين، كالصحابة - رضي الله عنهم - لقوله - عليه الصلاة والسلام -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ..) [3].
وتطلق عند علماء أصول الفقه على ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير.
فهي هنا مصدر من مصادر التشريع، كالقرآن الكريم.
وعلماء الحديث يريدون بالسنة: ما نقل عن النبي من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقِية أو خُلُقية أو سيرة، مطلقاً - أي قبل النبوة أو بعدها - وهي بهذا مرادفة لمعنى الحديث.
كما تطلق السنة أيضاً: على ما يقابل البدعة، كقولهم: طلاق السنة كذا، وطلاق البدعة كذا، وفلان على سنة وفلان على بدعة.
وهاتان الكلمتان (السنة والبدعة) تستعملان دائماً كلمتين متضادتين - كما رأيت - لأن السنة هي الطريق الذي كان عليه الرسول وأصحابه، والبدعة هي ترك ذلك الطريق والانحراف عنه وسلوك طريق آخر مخترع، فلهذا كانت الأولى هدايةً والثانيةُ ضلالة [4].
ومما تجدر الإشارة إليه هنا: أن السنة تقتضي المواظبة والاستمرار، وهي أعم من الحديث، لأنها تتناول الفعل والقول والتقرير، والحديث لا يتناول إلا القول، وهذا فارق ما بينهما.
ومن هذه الإطلاقات لمعاني كلمة السنة، يظهر أنها تطلق بمعنى شرعي عام يشمل ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون، من الاعتقادات والأعمال والأقوال. وهذه هي السنة الكاملة.
ولهذا كان السلف قديماً لا يطلقون السنة إلا على ما يشمل ذلك كله. وروي معنى ذلك عن الحسن البصري والأوزاعي والفضيل بن عياض [5].
ثم إن كثيراً من العلماء المتأخرين يخصُ اسم السنة بما يتعلق بالاعتقاد فحسب، لأنها أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم [6].
وعلى هذا المعنى الخاص جاء استعمال علماء السلف لكلمة (السنة) عنواناً على جانب العقيدة وأصول الدين فيما كتبوه بياناً للعقيدة ابتداءً، أو رداً على الفرق المخالفة، ليميزوا بين عقيدة أهل السنة وعقيدة أهل البدعة.
وقد شرح ابن أبي عاصم هذا المعنى للسنة، وذكر أهم مباحثها، فقال في (كتاب السنة) (2/445-447): (السنة اسم جامع لمعان كثيرة في الأحكام وغير ذلك.
ومما اتفق أهل العلم على أن نسبوه إلى السنة: القول بإثبات القدر، وأن الاستطاعة مع الفعل للفعل.. والقرآن كلام الله تبارك وتعالى..
والإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وإثبات رؤية الله - عز وجل -.
وأبو بكر الصديق أفضل أصحاب رسول الله بعده وهو الخليفة خلافة النبوة، ثم عمر بن الخطاب. ثم عثمان ابن عفان بعده ثم علي بعدهم على مثل ذلك - رحمهم الله - جميعاً -.
ومما قد ينسب إلى السنة -وذلك عندي إيمان- نحو عذاب القبر، ومنكر ونكير، والشفاعة والحوض، وحب أصحاب رسول الله.. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون).
وقد ساد اصطلاح السنة في القرن الثالث الهجري في عصر الإمام أحمد بن حنبل حين ظهرت الفرق وراجت عقائد المعتزلة والرافضة والصوفية وأهل الكلام.
فأخذ أئمة الإسلام - حينذاك - يطلقون على أصول الدين ومسائل العقيدة: (السنة) تمييزاً لها عن مقولات الفرق..
وهذا - أي وصف العقيدة وأصول الدين بـ (السنة) - وإن كان معروفاً في عصر الصحابة، إلا أنه لم يكن مشهوراً، إنما يدل عليه مثل قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (من ترك السنة كفر) فإن التكفير من الصحابة لا يكون إلا في أمر عظيم كأصول الدين وأمور الاعتقاد، كما يدل عليه قول عليّ - رضي الله عنه -: (الهوى عند من خالف السنة حق وإن ضربت فيه عنقه)، فإن مثل هذا الحكم إنما يتأتى في أصحاب العقائد والأهواء والفرق الضالة) [7].
وقد جمع طوائف من العلماء الأحاديث والآثار المروية في أبواب عقائد أهل السنة، مثل حمّاد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم في طبقتهم.
ومثلها ما بوَّب عليه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم في كتبهم.
ومثل مصنفات أبي بكر الأثرم، وعبد الله بن أحمد، وأبي بكر الخلاَّل، وأبي القاسم الطبراني، وأبي الشيخ الأصفهاني..
وسائر أهل العلم ممن صنَّفوا في السنة [8].
ونجتزئ هنا ببعض المصنفات مرتبة حسب وفيات مؤلفيها، وكلها تحت اسم (السنة): (كتاب السنة) لابن أبي شيبة (235 هـ)، كتاب السنة للإمام أحمد (241هـ)، وللإمام ابن هانئ تلميذ الإمام أحمد (273 هـ)، ولأبي علي حنبل بن إسحاق (273 هـ) ولأبي داود السجستاني صاحب السنن (275 هـ)، ولابن أبي عاصم (287 هـ)، وعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل (290 هـ)، وللمرزوي (292 هـ).
وممن كتب في العقيدة تحت عنوان (السنة) في القرن الرابع الهجري: أبو بكر الخلاّل (311 هـ)، والطحاوي (321 هـ)، والعسَّال الأصفهاني (349 هـ)، والطبراني (360 هـ)، وأبو الشيخ الأصبهاني (396 هـ)، وابن شاهين (385 هـ)، ومحمد بن نصر المروزي (394 هـ)، ومحمد بن إسحاق بن منده (396 هـ) واللالكائي (418 هـ).
وهذه المصنفات أُلِّفت للحض على اتباع السنة والعمل بها، وترك ما حدث بعد الصدر الأول من البدع والضلالة والأهواء [9] مع بيان أصول العقيدة الإسلامية أو جوانب منها.
ولو أخذنا بعض ما وصلنا من هذه المؤلفات في (السنة) لوجدنا قاسماً مشتركاً في المسائل والأبحاث التي تشكل الركيزة الأساسية فيها، وقد ينفرد كتاب منها في بعض المسائل دون سائر الكتب، وقد يتوسع بعضها ببسط الأدلة بينما يختصرها كتاب آخر.
وقد تذكر بعض هذه الكتب المسائل مجردة عن الأدلة، وقد نجد في بعضها جملة من المسائل والقضايا التي تخرج عن موضوع البحث في العقيدة، أو لا ترقى إلى أن تكون من مسائل الاعتقاد.
والمنهج الذي سلكه المصنفون في (السنة) يكاد يكون منهجاً واحداً، يتلخص في أنه يترجم للباب ترجمة موجزة، وقد تطول في بعض الكتب، ثم يسوق جملة من الآيات والأحاديث والآثار التي تتناسب مع العنوان، وقد يروي الأحاديث من طرق متعددة، بإسناده، أو مجردة من الإسناد، كما أن بعضهم قد يتكلم في الرواية وينقدها، وغالباً ما نجد في عناوين الأبواب إشارة إلى الرد على الفرق المخالفة، بل نجد ذلك صراحة أيضاً.
ومن خلال الردِّ والمناقشة تتضح الفكرة التي عقد المصنف الباب من أجلها.
ولم يكن - فيما يبدو - من منهج هؤلاء الأئمة المصنفين في السنة أن يتحروا الأحاديث الصحيحة في الباب، وإنما يجمعون الروايات التي وصلت إليهم في المسألة، ولهذا أوقع في بعضها أو في كثير منها بعض الأحاديث الضعيفة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد يروي كثير من الناس في الصفات، وفي سائر أبواب الاعتقادات وعامة أبواب الدينº أحاديث كثيرة تكون مكذوبة موضوعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي قسمان: منها ما يكون كلاماً باطلاً، لا يجوز أن يقال، فضلاً عن أن يضاف إلى النبي.
والقسم الثاني من الكلام: ما يكون قد قاله بعض السلف أو بعض الناس، ويكون حقاً، أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو مذهباً لقائله، فيعزى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كثير عند من لا يعرف الحديث، مثل المسائل التي وضعها أبو الفرج الأنصاري، وجعلها محنة يفرِّق فيها بين السني والبدعي! وهي مسائل معروفة عملها بعض الكذابين وجعل لها إسناداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذه المسائل - وإن كان غالبها موافقاً لأصول السنة - ففيها ما إذا خالفه الإنسان لا يكون مبتدعاً، مثل: أول نعمة أنعمها الله على عبده.
فالواجب أن يفرّق بين الحديث الصحيح والمكذوب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة. فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام ولمن يدَّعي السنة خصوصاً).
وبهذه الكلمات النيرة نقفل الكلام عن العقيدة في القرن الثالث الهجري، كيما نرصد تطور الكتابة في القرن الرابع تحت عنواني (التوحيد) و (الشريعة). ونسأل الله العون والتوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قطعة من حديث أخرجه مسلم: 2/705.
(2) انظر تعريفات الجرجاني ص 161، تفسير ابن كثر: 3/54.
(3) أخرجه أبو داود 7/ 1، والترمذي 1/438، وابن ماجه 1/16، والدارمي 1/44، وصححه الحاكم 1/95 وابن حبان ص 56 من موارد الظمآن، وابن أبى عاصم 1/17، واللالكائي 1/85، والبغوي في شرح السنة 1/205، وانظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 243.
(4) انظر: الكليات للكفوي: 3/9-12، كشاف اصطلاحات الفنون: 4/ 53-57، السنة ومكانتها في التشريع للسباعي ص 47-49، حجية السنة لأستاذنا الشيخ عبد الغني عبد الخالق - رحمه الله - ص 20-22.
(5) ومما ينبغي التنبيه إليه هنا أمران اثنان: أولهما: أن بعض الناس يقصرون التأسي على جانب واحد من السنة، وهو الجانب المظهري للمسلم، ويغفلون سائر الجوانب الأخرى، فيقولون (فلان سنيّ) لأنه أطلق لحيته مثلاً مع أننا لا نقلل من أهمية هذا الجانب، فإن هناك ارتباطاً وعلاقة بين المظهر أو الشكل والمضمون - وينسون الجوانب الأخرى وهي على غاية الأهمية، كالعقيدة السليمة، والعلم الشرعي، والأخلاق الخ. وثانيهما: أن بعضهم يتساهل بالمشروعات مما هو في مرتبة السنة، بحجة أنها سنة - بالمعنى الفقهي - يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها مع أن العلماء قد نصّوا - بناء على أحاديث تحض على التمسك بالسنة - على أن من يعتاد على ترك السنة يعاقب، وأنه مسيء، وأن تارك السنن المؤكدة يعاقب، وقال بعضهم: يأثم بتركها انظر: كشاف اصطلاحات الفنون: 4/54.
(6) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (249)، وانظر: الوصية الكبرى لابن تيمية بتحقيقي ص (60)، كشف الأسرار على البزدوي: 1/8، دليل الفالحين لابن علاَّن: 1/415.
(7) مفهوم أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر عبد الكريم العقل ص 42- 43.
(8) الوصية الكبرى لابن تيمية ص 60-63.
(9) انظر:نموذج من الأعمال الخيرية، لمحمد منير الدمشقي ص 259.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد