بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، يا رب قد عجز الطبيب فداونا ، يا رب قد عم الفساد فنجنا ، يا رب قلت الحيلة فتولنا ، وارفع غضبك ومقتك عنا ، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ولا تعاملنا بما فعل السفهاء منا ، وتوفنا غير فاتنين ولا مفتونين .
يا رب اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وأصلح قلوبنا وارحم ضعفنا ، وتول أمرنا ، واستر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا يا رب أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا ، وكن لنا وإن لم نكن لأنفسنا ، لأنك أولى بنا .
يا ذا الجلال والإكرام ، يا ذا الكمال والإنعام ، يا ذا العفو والغفران. سبحانك إذا كان عفوك يستغرق الذنوب فكيف يكون رضوانك ؟ .. وإذا كان رضوانك تزكو به النفوس ، فكيف يكون حبك ؟.. وإذا كان حبك ينير القلوب ، فكيف يكون ودك ؟ .. وإذا كان ودك ينسي كل ما سواك فكيف يكون لطفك ؟ ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إذا ظهر قهر ، وإذا تجلى طاشت لأنوار جلاله ألباب البشر ، فيما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن سيدنا داود ناجى ربه فقال : \"يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك ؟ قال : يا داود أحب عبادي إلي تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني ، وأحب من أحبني وحببني إلى خلقي .. فقال يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ .. قال يا داود ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي \" .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، صاحب المقام المحمود والحوض المورود ، والشفاعة العظمى ، أول العابدين وسيد ولد آدم أجمعين .
ففيما روى الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
\" بئس العبد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال .
بئس العبد عبد تجبر واعتدى ، ونسي الجبار الأعلى .
بئس العبد عبد سهى ولهى ، ونسي المقابر والبلى .
بئس العبد عبد عتا وطغى ، ونسي المبتدى والمنتهى .
بئس العبد عبد يخلط الدين بالشبهات ، بئس العبد عبد يخلط الدنيا بالدين .
بئس العبد عبد طمعٌ يقوده ، بئس العبد عبد هوى يضله ، بئس العبد عبد رَغَبٌ يذله \" .
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وآل بيته الطيبين الطاهرين الهداة المهديين الغر الميامين ، أبطال دعوته وقادة ألويته ، الذين خصوه بمهجهم ، وافتدوه بأرواحهم ، ورغبوا بأنفسهم عن نفسه .
فيما روي عن سيدنا علي كرم والله وجهه ، أنه أوصى كميل النخعي ، فقال يا كميل :
\" الناس ثلاثة ، عالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح ، لم يستنيروا بنور العلم ، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق ، فاحذر يا كميل أن تكون منهم .
يا كميل العلم خير من المال ، لأن العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق .
يا كميل معرفة العلم دين يُدان به ، يُكسب الإنسان الطاعة في حياته وجميلَ الأحدوثة بعد وفاته ، العلم حاكم والمال محكوم عليه .
يا كميل مات خُزان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة \" .
عباد الله أوصيكم بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير :
أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام :
الإسلام هو دين الله الذي أوحاه إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفيه عقيدة وشريعة ، والعقيدة بكلياتها أصل ، والشريعة بأحكامها التفصيلية فرع ، وإن صحت عقيدة المرء ، صح عمله ، وإن فسدت فسد عمله .
وأركان العقيدة هي أركان الإيمان ، وأركان الشريعة هي أركان الإسلام وفروعه ، من عبادات ومعاملات وأخلاق .
وقد عبر القرآن عن العقيدة بالإيمان ، وعن الشريعة بالعمل الصالح فورد الإيمان مقترناً بالعمل الصالح ، في أكثر آيات القرآن الكريم لأن العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح علاقة السبب بالنتيجة، وعلاقة الشجر بالثمر ، فقال تعالى :
[سورة الكهف 107]
ولأن الإسلام دين الفطرة ، فقد راعى في الإنسان الجانب العقلي وجعل كماله معرفة الحقائق المطابقة للواقع ، المؤيدة بدليل قطعي وراعى في الإنسان الجانب السلوكي ، وجعل كماله انطلاقة من حقائق يقينية ، وتوجيهه نحو هدف كبير لتحقيق سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة .
إن السنة المطهرة الثابتة ، جاءت لتبين للناس ما نزل إليهم فحضت على طلب العلم بالله ، وبأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى ، وما يتبع ذلك من إيمان باليوم الآخر ، والملائكة والكتاب والنبيين ، ليصح الإيمان ، وحضت على طلب العلم بالأمر والنهي والحلال والحرام ، والمندوب والمكروه والمباح ، ليصح الإسلام .
كل ذلك تحقيقاً لمفهوم التكليف الذي ورد في معرض الأمانة التي حملها الإنسان ، والتي استنكفت السماوات والأرض والجبال عن حملها قال تعالى :
فنحن في الدنيا في دار تكليف ، وهل من عمل أجل وأعظم من أن نعرف ما التكليف ؟ وما فحواه ؟ .. وما مؤداه ؟ .. لأننا إذا عرفناه وأخذنا به ، انتقلنا إلى دار التشريف ، حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
روى الإمام البخاري رضي الله عنه في صحيحه ، وصحيحا البخاري ومسلم هما أصح كتابين بعد كتاب الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
\" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين \" . وقال أيضاً : \" إنما العلم بالتعلم ، وقليل الفقه خير من كثير العمل \" .
[ أخرجه البخاري في كتاب العلم ]
فلقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين أن الخير كله في العلم ، وأن العلم مقدم على العمل ، وأن للعلم طريقاً واحداً لكسبه ألا وهو التعلم ، ولم يقل عليه الصلاة والسلام التعليم ، لأن كلمة التعلم تفيد بذل الجهد الذاتي للمتعلم بناءً على رغبة حرة صادقة، بينما التعليم يفيد بذل جهد المعلم لا المتعلم ، ويفيد الإلزام ، لا الرغبة الطوعية .
ولقد حض النبي عليه الصلاة والسلام ، على طلب العلم وعلى تعلمه وتعليمه وبذله ومذاكرته ومدارسته فقال عليه الصلاة والسلام ، فيما رواه بن عبد البر والديلمي عن سيدنا معاذ بن جبل :
\" تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ، ومنار سبيل أهل الجنة ، وهو الأنيس في الوحشة ، والصاحب في الغربة ، والمحدث في الخلوة ، والدليل على السراء والضراء ، والسلاح على الأعداء ، والزين عند الأخلاء ، ولأن العلم حياة القلوب ومصابيح الأبصار ، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلا في الدنيا والآخرة ، التفكر فيه يعدل الصيام ، ومدارسته تعدل القيام ، به توصل الأرحام، وبما أن الإنسان خُلق ليسعد إلى الأبد في جنة ربه ، الفرد الصمد وبما أن ثمن الجنة هو العلم الصالح ، لقوله تعالى :
[سورة النحل ]
وبما أن العمل الصالح لا يصح إلا إذا صحت العقيدة ، لهذا كان طلب العلم فرضاً على كل مسلم .. ليحقق الهدف الذي خُلق من أجله لذا قال صلى الله عليه وسلم :
\" طلب العلم فريضة على كل مسلم \" .
[ رواه بن ماجه والديلمي ، وهو حديث حسن بطرقه]
فكما أن تنفس الهواء فرض لاستمرار الحياة ، كذلك طلب العلم فرض لتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة ، وإذا أعرض الإنسان عن طلب العلم أو طلبه من غير أهله ، زاغت عقيدته وساء عمله ، وهلك في الدنيا وشقي في الآخرة ، لذلك كان طلب العلم ، بل طلب العلم من أهله الصادقين المخلصين ، ضماناً لسلامة الدين ، يروى في الأثر :
\" دينك .. دينك . إنه لحمك ودمك ، خذ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين مالوا .\"
ويُعزى للإمام مالك رضي الله عنه ، قوله: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم .
طلب العلم حياة للقلب ، والجهل موت له ، فليس الإنسان جسماً بعضه القلب ، ولكنه قلب غلافه الجسم ، ولعلك يا أخي إن فتشت عن أعجب ما خلق الله في السماء والأرض ، لن تجد أعجب ولا أروع ولا أدق ولا أجمل من قلب الإنسان ، تصلح أوتاره بالعلم والعمل والإقبال ، فيفيض رحمة وشفقة ، وحباً وحناناً ، ومعاني لطافاً ، وشعوراً رقيقاً حتى يجاوز في سموه الملائكة المقربين .. وتفسد أوتاره بالجهل والإساءة والإعراض ، فينضح قسوةً وسوءً ولؤماً ، حتى يهوي إلى أسفل السافلين .
يكبر القلب ولا نرى كبره ، فيتضاءل أمامه كل كبير ، ويصغر القلب ولا نرى صغره ، فيتعاظم عليه كل حقير .
إن من وجد كل شيء وفقد قلبه لم يجد شيئاً ، ففيما رواه الطوسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
\" طالب العلم بين الجهال كالحي بين الأموات \"
والعلم عزٌَ حقيقي ، لا يُسلب منك ، ولأن رتبة العلم أعلى الرتب ولا شيء يذل الإنسان كجهله ، ففيما رواه الشهاب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
\" ما أعز الله بجهل قط ، ولا أذل بعلم قط ، سبحانك يا رب ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، وما اتخذت ولياً جاهلاً ، لو اتخذته لعلمته \" .
اجعل لربك كـل عـزك يستقــر ويثبـت
فإذا اعتززت بمن يموت فإن عـزك ميـت
ومعرفة الله والاستقامة على أمره ، والتقرب إليه بالعمل الصالح هو أثمن ما في الحياة الدنيا ، وسبب الفوز في الآخرة .
ففيما روى ابن عبد البر في كتاب العلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
\" إذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم \" .
وبما أن القرآن الكريم هو كتاب الله ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذي يهدي للتي هي أقوم ، وهو قطعي الثبوت ، وقطعي الدلالة ، وهو الغنى الذي لا فقر بعده ، ولا غنى دونه ، لذلك قال الني صلى الله عليه وسلم :
\" من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقر ما عظمه الله \"
[رواه النووي في آداب حملة القرآن ]
وبما أن شرف المرسَل من شرف المرسِل ، وبما أن العلماء أمناء الرسل ، لذلك قال الني الكريم صلى الله عليه وسلم :
\" إن من إجلال الله إكرام العلم والعلماء ، وإكرام حملة القرآن وأهله\".
[رواه أبو داود والطوسي]
لكن العلم كما يرى الإمام الغزالي رحمه الله : لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً .
ومن لم يأخذ هذا العلم عن الرجال فهو ينتقل من محال إلى محال.
ولا يرتجي الوصول من لم يقتف أثر الرسول .
إن ما صح من التوجيهات النبوية ، من أقوال وأفعال وإقرار ، يجب العمل بها لأنها المصدر الثاني للأحكام التشريعية ، ولأن الله تعالى أمرنا أن نأخذ بها فقال :
[سورة الحشر]
بل إن علماء الأصول يعدون ما صح من السنة المطهرة وحياً غير متلو ، استنباطاً من قوله تعالى :
[سورة النجم]
وقد يتوهم المرء أنه يعرف الله ، وهو في الحقيقة لا يعرفه ، فحينما يظن به ظناً يتناقض مع أسمائه الحسنى أو صفاته الفضلى ، أو حينما يظن به ظناً يتناقض مع عدالته وحكمته وحمده ، وحينما يظن به ظناً يتناقض مع تفرده بالربوبية والألوهية ، حينما ييأس من رحمته ونصره فهو لا يعرفه ولو ادعى ما ادعى ، وفعل ما فعل ..
فمن ظن أن هؤلاء الذين ساءت طويتهم ، فاجترحوا السيئات وارتكبوا الموبقات ، وبنوا سعادتهم الموهومة على أنقاض الآخرين ، وحسبوا أنهم فازوا وسبقوا . من ظن من هؤلاء جهلاً ، أو تجاهلاً أن الله سيسوي بينهم وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وأخلصوا دينهم لله ، في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة ، فقد ضل ضلالاً بعيداً ، لأن موازين هؤلاء قد اختلت ، وأحكامهم قد اضطربت .. قال الله تعالى :
[سورة الجاثية]
ومن ظن أن الله يترك خلقه سدى معطلين من الأمر والنهي ، ولا يبين لهم طريق سعادتهم ولا طريق شقائهم ، ولا الحقائق التي يجب أن يعلموها بالضرورة ، ولا المنهج القويم الذي يجب أن يتبعوه ، فقد ظن بالله غير الحق ، ظن الجاهلية .. قال الله تعالى :
[سورة القيامة ]
ومن ظن أن الله لن يجمع عبيده بعد موتهم ليجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ، ويظهر لهم صدق رُسله ، وكذب أعدائه فقد ظن به غير الحق ظن الجاهلية ، قال الله تعالى :
[سورة المؤمنون]
ومن ظن أن الله يضيع على المؤمن عمله الصالح ، ويتفلت المجرم من عدالته ، فقد ظن بالله غير الحق، ظن الجاهلية .. يروى أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله، عظني وأوجز .. فقال : \" فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره \" .
فقال : قد كفيت .. عندها قال النبي الكريم : \" فَقُه الرجل \" ، ولم يقل فقِه لأن \"فقِه \" تعني معرفة الحكم .. أما فقُه فتعني أنه صار فقيهاً.
ويروى أن أعرابياً آخر جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : يا رسول الله ، عظني ولا تطل ؟ .. فقال الني الكريم \" قل آمنت بالله ثم استقم \" . فقال الأعرابي : أريد أخف من ذلك ، فقال : \" إذاً استعد للبلاء \" .
[ رواه مسلم في كتاب الإيمان وما رواه أحمد بمسنده والترمذي وغيرهم ]
وحينما يعسر الفهم ويعز التفسير فلا بد من التسليم للعلي القدير فأصل الدين معرفته ، وحسن الظن بالله ثمن الجنة .
من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره ، وربما أعطاك فمنعك ، وربما منعك فأعطاك ، وقد يكون العطاء من الخلق حرماناً والمنع من الله إحساناً ، ومتى فتح لك باب الفهم في المنع ، عاد المنع عين العطاء ، وإنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه .
ومتى أوحشك من خلقه فليفتح لك باب الأنس به ، وربما وجدت في الفاقات ، ما لا تجده في الصوم والصلاة ، فلا تستبطئ منه النوال ولكن استبطئ من نفسك وجود الإقبال ، وما لم تُفرّغ قلبك من الأغيار، فلن يملأه بالمعارف والأسرار ، فكما أنه لا يحب العمل المشترك .. فإنه لا يحب القلب المشترك ، فالعمل المشترك لا يقبله ، والقلب المشترك لا يُقبل عليه ، وهذا كله منطوٍ, في قوله تعالى:
[سورة البقرة 216]
ويروى عن الحسن ابن علي رضي الله عنهما أنه قال :
\" من حمل ذنبه على الله فقد فجر º إن الله لا يطاع استكراهاً ولا يعصى بغلبة ، فإن عمل الناس بالطاعة ، لم يحل بينهم وبين ما عملوا وإن عملوا بالمعصية فليس هو الذي أمرهم ولو أجبرهم على الطاعة لأسقط الثواب ، ولو أمرهم بالمعصية لأسقط العقاب ، ولو أهملهم لكان عجزاً في القدرة ، فإن عملوا بالطاعة فله المنة عليهم ، وإن عملوا بالمعصية فله الحجة عليهم \"
حينما تطلب العلم من أهله تصح عقيدتك ، عندئذ تحملك عقيدتك الصحيحة على عبادة الله حق العبادة، تلك العبادة التي تثمر طمأنينة وأمناً لا يعرفها إلا من ذاقها ، وتثمر صفاءً وسعادة ، لا ينكرها إلا من حرمها وتثمر رؤية صحيحة تنفذ إلى حقائق الأشياء ، متجاوزةً صورها الخداعة ، وتثمر سلوكاً أخلاقياً أصيلاً ، هو النتيجة اللازمة للإيمان .
فقد وضّح النبي صلوات الله عليه أن الهدف الكبير من بعثته إرساء البناء الأخلاقي في الفرد والمجتمع بقوله :
\" إنما بُعثت معلماً ، إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق \" .
[رواه الإمام مالك ، ورواه الإمام أحمد والحاكم وابن عبد البر ]
وقد جعل الإيمان والأخلاق يتلازمان تلازماً ضرورياً في مجموعة من أحاديثه الشريفة الصحيحة ، فبين :
أن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً .
وأن أكملهم إيماناً أحسنهم خلقاً .
وأن من أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً .
وأن خير ما أعطي الإنسان خلقٌ حسن .
وأنه ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن .
وإن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم ، بل إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة .
والخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد .
والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل .
يقول الإمام الغزالي رحمه الله : لو قرأتَ العلم مائة سنة ، وجمعت ألف كتاب لا تكون مستعداً لرحمة الله إلا بالعمل الصالح ، قال الله تعالى :
[سورة النجم ]
وقال تعالى :
[سورة الكهف 110]
ومن ظن أنه بدون الجهد يصل فهو متمنٍّ, ، والمنى بضائع الحمقى ، وطلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، والعلم بلا عمل جنون ، والعمل بلا علم لا يكون .
فالإسلام إذاً ، عقيدة وشريعة ، وعلم وعمل ، وإيمان واستقامة ، ودعوة وإحسان , وقد كان الني صلى الله عليه وسلم ، أسوة حسنة وقدوة صالحة ومثلاً أعلى .
فلما عرض عليه الأسرى عقب بعض الغزوات وقفت امرأةٌ أسيرة قالت يا رسول الله ، هلك الوالد وغاب الوافد فامنن علي منَّ الله عليك، وخل عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإن أبي كان سيد قومه، يفكٌّ العاني ، ويعفو عن الجاني ، ويحفظ الجار ويحمي الذمار ، ويفرج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ويحمل الكلَّ ، ويعين على نوائب الدهر ، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائباً .. أنا بنت حاتم طي..
فقال الني صلى الله عليه وسلم \" يا جارية ، هذه صفات المؤمنين حقاً \" ، ثم قال صلى الله عليه وسلم \" خلوا عنها ، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق \" ، ثم قال صلى الله عليه وسلم \" ارحموا عزيز قوم ذل وغنياً افتقر ، وعالماً ضاع بين الجهَّال \" .
فاستأذنته بالدعاء .. وقالت : أصاب الله ببرك مواقعه ، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا جعلك سبباً في ردها ، ورجعت إلى أهلها وقالت لأخيها عدي : ائت هذا الرجل ، فإني قد رأيت هدياً وسمتاً ورأياً ، يغلب أهل الغلبة ، ورأيت فيه خصالاً تعجبني ، رأيته يحب الفقير ويفك الأسير ، ويرحم الصغير ويعرف قدر الكبير ، وما رأيت أجود ولا أكرم منه ، فإن يكن نبياً فللسابق فضله وإن يكن ملكاً فلا تزال في عز ملكه ، قيل : وأسلمت واستجاب لها أخوها ، وقَدِم إلى المدينة وهو يظن أنه سيلقى ملكاً فقال: دخلت على محمد وهو في المسجد ، فسلمت عليه ، فقال : من الرجل ؟ .. فقلت: عدي بن حاتم ، فقام وانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيته امرأة ، ضعيفة كبيرة ، في الطريق ، فاستوقفته ، فوقف طويلاً تكلمه في حاجتها ، فقلت في نفسي ، والله ما هذا بملك .. ثم مضى بي حتى دخل بيته .. فتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً فقذفها إليَّ فقال : اجلس علي هذه ، قلت : بل أنت فاجلس عليها ، فقال : بل أنت .. فجلست عليها وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض ، ثم قال لي :
\" لعلك يا عدي ، إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من فقرهم ، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم ، وقلة عددهم ، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها فتزور هذا البيت لا تخاف .. ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين أنك ترى المُلك والسلطان في غيرهم وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل ، قد فتحت عليهم ، وأن كنوز كسرى قد صارت لهم\".
قال : فأسلمت .. ولقد عُمِّر عدي حتى رأى بنفسه كيف تحققت كل بشارات النبي صلى الله عليه وسلم .
أيها الأخوة الأحباب :
لقد رأيتم من خلال ما تم عرضه من حقائق مؤيدة بالأدلة النقلية المتوافقة مع الأدلة العقلية ، أن الإنسان ، هو المخلوق الأول من بين المخلوقات المكرم بأن سخر الله له ما في الأرض والسماوات ، المكلف بمعرفة ربه معرفة يقينية ، وبطاعته طاعة تامة ومخلصة ، وأن التكليف يقتضي التخيير وأن التخيير يقتضي المسؤولية والجزاء ، فعن قيس بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
\"يا قيس إن مع العز ذلاً ، وإن مع الحياة موتاً ، وإن مع الدنيا آخرة ، وإن لكل شيء حسيباً وعلى كل شيء رقيباً ، وإن لكل حسنة ثواباً ، ولكل سيئة عقاباً ، وإن لكل أجل كتاباً .
إنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي ، وتُدفن معه وأنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ألا وهو عملك \" .
إلى متى أنت باللذات مشغــول وأنت عن كل ما قدمت مســـؤول
تزود من الدنيا فإنك لا تــــــــــــدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجــر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهـر
الخطبة الثانية :
أن يتفكر الإنسان في خلق السماوات والأرض ، وما بث فيهما من دابة ، وأن ينظر الإنسان ممَّ خلق ، وأن ينظر إلى طعامه ، وأن ينظر فيما حوله من مخلوقات وكائنات ، وأشجار ونباتات ، وأن ينظر إلى ما فوقه من أطيار وأنواء ، وإلى ما تحته من بحار وأسماك ، وأن يفكر وينظر في ملكوت السماوات والأرض ، لهو باب من واسع من أبواب معرفة الله سبحانه وتعالى ، ومعرفة الله أصل الدين ، وأصل التكليف وأصل السعادة ، وثمن الجنة .
أيها الناس :
كأس الحليب الذي تشربونه ، أو طبق اللبن الذي تحتسونه ، وما اشتق منهما من خيرات حسان آيات بينات دالة على عظمة الخالق وجلاله ، وتربيته ورعايته وفضله وإنعامه .. قال الله تعالى :
[سورة النحل]
فهذا الحليب يحتوي على نسب دقيقة وجليلة ، من الماء والدسم والسكريات والمواد المرممة وأملاح المعادن والفيتامينات ، وعدد كبير من الغازات المنحلة .. من حدّد هذه المكونات ؟ ومن ضبط هذه النسب فيما بينها ؟ .. ومن جعلها كذلك ؟ لتكون غذاءً كاملاً لبني البشر .. أ إله مع الله ؟ .. بل أكثرهم لا يعلمون ..
ثم إن هذه البقرة ، التي نأخذ منها الحليب ، من خلقها ؟ .. ومن خلق أجهزتها ؟ .. ومن ذللها للإنسان ؟ .. ومن جعل نتاجها من الحليب غذاءً مناسباً لنا ، لأنه يفوق بكميته حاجة وليدها ومن جعله اقتصادياً ؟ لأنه يزيد بثمنه عن مصاريف العناية بها وإطعامها .
يذكر العلماء أن الغدة الثديية ، للبقرة ، هي المعمل الحيوي الذي يقوم بتكوين الحليب وإفرازه، ويُعد السنخ الوحدة الوظيفية ، لتصنيع الحليب ، وهو مجموعة من الخلايا على شكل كرة مجوفة ، محاطة بشبكة من الشعريات الدموية تأخذ المواد الأولية اللازمة لتصنيع الحليب من الدم الذي يمر في شبكة الشعريات ثم تصنعها حليباً ثم تطرحها في جوف السنخ ، ليجتمع في قنوات تصب في ضرع البقرة .
هل تستطيع الخلايا غير العاقلة وحدها أن تختار المواد الأولية للحليب من دم البقرة ، لتكون غذاءً كاملاً للإنسان ؟ .. وهل تستطيع هذه الخلايا غير العاقلة وحدها ، أن تصنّع بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ، يحبه الصغار والكبار ؟
يقول العلماء : إن طريقة عمل هذه الخلايا ، وسر تصنيع الحليب غير معروف تماماً حتى الآن .. علماً بأن اللتر الواحد من حليب البقرة المصنع في الغدد الثديية ، يحتاج إلى أربعمائة لتر من الدم تجول في الأوعية الدموية المحيطة بالغدد الثديية .
سبحان من سخر لنا هذه البقرة ، لتكون معملاً عظيماً ، لتصنيع الغذاء الأول للإنسان ، خلقها وسخرها وذللها لنا ، نأكل من لحمها ونشرب من لبنها وننتفع بخدماتها ، قال الله تعالى :
[سورة يس]
أيها الأخوة المؤمنون ، روى الإمام أحمد في مسنده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :
\" ليس شيء أكرم على الله من الدعاء ، وإن الله يحب الملحين في الدعاء ، وإن الله حيي كريم يستحي من عبده أن يبسط إليه يديه ثم يردهما خائبتين \" .
ولكن ما لنا ندعوه فلا يستجيب لنا ؟ .. يجيب عن هذا السؤال إبراهيم بن الأدهم فقد مر بسوق البصرة فقيل له : يا أبا إسحاق ، إن الله تعالى يقول ، ادعوني أستجب لكم ، ونحن ندعوه فلا يستجيب لنا، فقال لهم : لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء ، عرفتم الله فلم تؤدوا حقه، وقرأتم القرآن فلم تعملوا به ، وادعيتم حب رسوله فلم تعملوا بسنته ، وقلتم إن الشيطان لكم عدو فاتخذتموه ولياً ، وقلتم إنكم مشتاقون إلى الجنة فلم تعملوا لها ، وقلتم إنكم تخافون من النار فلم تتقوها ، وقلتم إن الموت حق فلم تستعدوا له ، واشتغلتم في عيوب الناس ، وتركتم عيوبكم ، وتقلبتم في نعمة الله ، فلم تشكروه عليها، ودفنتم موتاكم فلم تعتبروا فكيف يستجاب لكم .
أيها الأخوة بعد أن عرفتم كيف يُستجاب لكم إني داعٍ, فأمنوا :
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردٌّنا واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر مولانا رب العالمين.
اللهم أغننا بالعلم وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية وطهر قلوبنا من النفاق ، وأعمالنا من الرياء ، وألسنتنا من الكذب ، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
اللهم أغننا بالافتقار إليك ولا تفقرنا بالاستغناء عنك .
اللهم أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين .
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفقه لكل خير ، ومن أراد بهم غير ذلك فخذه أخذ عزيز مقتدر.
والحمد لله رب العالمين
****
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد