مفاسد الإقامة في ديار الكفر


 

بسم الله الرحمن الرحيم





أولاً: تمهيد:

خلق الله - تعالى - الخلق بقدرته، وجعل منهم الكافر والمؤمن بحكمته، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم فَمِنكُم كَافِرٌ وَمِنكُم مٌّؤمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2]. وخلق - سبحانه - جنة ونارًا، وجعل لكل منهما أهلا وعمَّارًا، {لاَ يَستَوِى أَصحَـابُ النَّارِ وَأَصحَـابُ الجَنَّةِ أَصحَـابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ}. وحرص الإسلام الدين الحق على تمييز أهله ومعتنقيه عن أعدائه ومناوئيه، {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُم عَلَيهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ} [آل عمران:179]، وليس ذلك التمييز قاصرا على المخبر والمظهر فحسب بل حتى في السكنى والإقامة، ليكون ذلك سبيلا للتميز عنهم في المصير يوم القيامة، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ وَيَجعَلَ الخَبِيثَ بَعضَهُ عَلَى بَعضٍ, فَيَركُمَهُ جَمِيعًا فَيَجعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَـئِكَ هُمُ الخَـاسِرُونَ} [الأنفال:37]، وفيما يلي بيان لحكم الإسلام في الإقامة بين أظهر المشركين، وبيان لبعض المفاسد المتحققة من جراء الإقامة بينهم، والله الهادي إلى سواء السبيل..



ثانيًا: حكم الإقامة في ديار الكفر:

لقد تناول علماء الإسلام قديما وحديثا هذه المسألة بالتفصيل، وبيَّنوا الحكم الشرعي فيها، وأنه يختلف باختلاف حالات المقيمين بديار الكفر:

1- فتحرم الإقامة وتجب الهجرة في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه أو إقامة واجبات دينه في ديار الكفر، لقوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّـاهُمُ المَلَـئِكَةُ ظَـالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي الأرضِ قَالوا أَلَم تَكُن أَرضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَـاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـئِكَ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَسَاءت مَصِيرًا} [النساء:97]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا بريء من مسلم بين مشركين لا تراءى ناراهما))[1]، ومعناه لا يكون بموضع يرى نارَهم ويرون نارَه إذا أوقدت، ولأن القيام بواجبات دينه واجب، والهجرة من ضرورة الواجبات وتتمتها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.



2- ويسقط الوجوب عمّن يعجز عن الانتقال إلى ديار الإسلام إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف كالنساء والولدان وشبههم، فالعاجز لا هجرة عليه لقوله - تعالى -: {إِلاَّ المُستَضعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالوِلدانِ لاَ يَستَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولَـئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعفُوَ عَنهُم وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:98، 99].



3- وتستحب الهجرة إلى ديار الإسلام في حق من يقدر عليها، لكنه يتمكّن من إظهار دينه وإقامة واجباته في دار الكفر، فهذا تستحب في حقه ليتمكن من جهادهم، ولتكثير المسلمين ومعونتهم، والتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ومشاهدة المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكانه إقامة واجبات دينه بدون الهجرة.



وقد كان العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - مقيما بمكة قبل فتحها مع إسلامه[2].



فإن قيل: ما ضابط إظهار الدين؟

فالجواب: ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ:\"إظهاره دينَه ليس مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا وغير ذلك، إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال\"[3].



ويرى بعض العلماء أنه قد يستحب للمسلم أن يقيم في دار الكفر وذلك إذا كان يرجو ظهور الإسلام بإقامته، أو إذا ترتب على بقائه بدار الكفر مصلحة للمسلمين، فقد نقل صاحب مغني المحتاج أن إسلام العباس - رضي الله عنه - كان قبل بدر، وكان يكتمه ويكتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخبار المشركين، وكان المسلمون يتقوَّون به بمكة، وكان يحبّ القدوم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتب إليه - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مقامك بمكة خير))، ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة[4].



ولا شك أن هذا ليس لكل أحد، وأغلب الناس سريع التأثر بما عليه الكفار، وخاصة في هذا الزمان الذي غلب فيه أهل الكفر، ونحن نرى ولوع كثير من المسلمين بتقليد الكفار واتباعهم وهم في ديار الإسلام، فكيف الحال بمن هو مقيم بين أظهرهم؟! لا شك أن الفتنة أعظم والخطر أكبر، وأحكام الشريعة مبنية على الغالب الكثير، لا على ما شذّ وندر.



ثالثًا: مفاسد الإقامة في ديار الكفر:

من المقرر في أصول الشريعة الإسلامية أن الله - تعالى - ما أمر بشيء أمرَ إيجاب أو استحباب إلا وغلب على ذلك الشيء الخير والصلاح والعدل والنور والهدى، وما نهى عن شيء نهي تحريم أو كراهة إلا وغلب على ذلك الشيء الشر والفساد والظلم والظلمة والضلال.



والإقامة في ديار الكفر من جملة ما نهى الله - تعالى - عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لاشتمالها على مفاسد وأضرار كثيرة راجحة، بعضها راجع إلى الدين، وبعضها إلى النفس، وبعضها إلى العرض، وبعضها إلى العقل، وبعضها إلى المال، فمن ذلك:



1- ضعف عقيدة الولاء والبراء ـ وهي أوثق عرى الإيمان ـ في نفس المسلم الذي يقيم بين الكفار، فتضعف هذه الشعيرة في قلبه شيئا فشيئا حتى تنعدم، فيجد نفسه محبا للكافرينº ينصرهم ويواليهم، وينتصر لهم ويدافع عنهم، ويبرّر جرائمهم واعتدآتهم، ويبغض المسلمين ويعاديهم، وينشر عيوبهم ومساويهم، ويجد غضاضة في الانتساب إليهم، وهذا من أخطر وأشنع ما يصيب المقيمين بديار الكفر من المسلمين إلا من عصم الله ورحم.



2- توارد الشبهات حول الإسلام والمسلمين عليه، بحيث لا يستطيع مجانبتها، فهو يسمعها من أفواههم وفي إذاعاتهم وقنواتهم، ويقرؤها في جرائدهم وصحفهم، وفي مجلاتهم وكتبهم، فتتمكن منه وتؤثر على فكره شيئا فشيئا حتى يصبح أذنا صاغية لهم، يصدّق كل ما يرمون به الإسلام والمسلمين، فيصير عنده ارتياب واضطراب في كثير من مبادئ الإسلام وأحكامه، وهذا والذي قبله بريد الكفر والعياذ بالله.



3- موت القلب، وبلادة الحس، وضعف الغيرة الدينية لديه، بحيث يألف المعاصي والمنكرات من كثرة ما يشاهدها بينهم، فهو لا ينكرها، ولا يشمئزّ عند رؤيتها، وهذا يجرّه إلى الانحلال والتميّع، ورمي المتمسك بدينه بالتشدد والتنطّع.



4- تعرّضه لفتن الشهوات المغرية، وذلك لتوفّرها وتيسّر سبلها، وعدم استنكار وتقبيح المجتمع الكافر لها، وهذا إذا صادف ضعف الوازع الديني فتك بصاحبه لا محالة، فينساق وراء الشهوات المحرمة، ويقع في أوحالها صريعا قتيلا.



5- وقوعه حتما في مخالفات شرعية لا يستطيع أن ينفك عنها، سواء في عمله أو في دراسته أو في حياته الاجتماعية أو غير ذلك، كتأخير الصلاة عن وقتها والتبرج والربا والمعاملات المحرمة والتعرض للمآكل الخبيثة إلى غير ذلك من المحرمات التي لا ينفك عنها لأن حياتهم وقوانينهم مبنية على ذلك.



6- البحث عن الرخص وتتبع الأقوال الشاذة، بل التدين بزلات العلماء واستحداث أقوال لم يسبق قائل بها، وهذه المفسدة نتيجة حتمية للمفسدة السابقة.



7- ضياع الهوية ومعالم الشخصية الإسلامية، وذلك بتغير اللسان والتفكير والعادات والمظهر لصعوبة تميز المسلم في تلك الديار، فيتنازل شيئا فشيئا عن أمور دينه إلى أن يسهل عليه التنازل عما هو من أصل دينه، ومن لم يحصل منه ذلك حصل لذريته لا محالة.



8- عدم التمكن من مجاهدة الكفار بالبقاء في ديار الكفر، بل التعرض للقتل والإساءة والإهانة والأذية والمراهنة في حال ما إذا حصل قتال بين المسلمين والكافرين، فيكون بذلك عائقا من العوائق، وسببا من أسباب التثبيط.



هذه بعض مفاسد الإقامة في ديار الكفر يدركها كل صاحب بصيرة وصدق، ونحن نسمع ونرى بل ونعيش ما تعانيه بعض الدول الإسلامية من الضعف والهوان والاستسلام، والذي من أكبر أسبابه سيطرة بعض من تربى في ديار الكفر أو أقام بها وتشبع بأفكارهم على مراكز القوة والتأثير في المجتمعات الإسلامية، وهذا من أخطر ما يكون من الفساد وأشده تلبيسا وتدليساº لأن من خلالهم ينفذ الكفار مخططاتهم الماكرة في حرب الإسلام والمسلمين من غير تعب ولا عناء، والله المستعان.



ـــــــــــــــــ

[1] أخرجه أبو داود (2645)، والترمذي (1604) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1461).

[2] انظر: المغني لابن قدامه (13/151).

[3] فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/91-92).

[4] مغني المحتاج (4/239)، وانظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية للدكتور محمد خير هيكل (1/687-692).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

أحسنتم

-

جاسر

16:28:22 2022-12-16

مقال رفيع المستوى جزاكم الله خيرا لأن الأمر شائك بحق.