بسم الله الرحمن الرحيم
المؤلف: الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي
الناشر: مكتب الطيب لخدمة التراث الإسلامي والرسائل العلمية – مصر
حجم الكتاب: مجلدين وعدد صفحاته: 767 صفحة، قطع كبير.
تدور فكرة الكتاب حول بيان ما أصاب عقيدة معظم المسلمين اليوم من خلل بسبب تأثرهم بفهم منحرف يقوم على عقيدة الإرجاء، والتي بُنيت على فصل العمل عن الإيمان، وأن هذا الفهم السقيم أنتجته أسباب تاريخية، كان من أبرزها التصدي لفكر الخوارج الذي أوجد مناخاً للفتن والشرور بسبب ما وقع فيه من جريمة تكفير أعيان المسلمين، وما تبعه من استحلال دمائهم، وما جرّه على الأمة من مصائب ونكبات.
على أن رؤوس المرجئة لم يهتدوا إلى الطريق الصحيح في مواجهة الانحراف، بل وقعوا في فتنة أشد، وسلكوا طريقاً أكثر انحرافاً وشراً، وأن الأمة – في زمن انحطاطها الذي نعيشه اليوم - تلقفت هذا الفهم المنحرف وتمثلته اعتقاداً وواقعاً، فحين ذهبت تفرط، وتتفلت من واجب الامتثال للأوامر الشرعية، وتستسلم للشهوات والدعة والكسل والإهمال، وترك ما يشق على النفوس الضعيفة، حين تردت هذا التردي وجدت في الإرجاء متنفساً لها من أي لوم، وتفسيراً مريحاً يبرر لها تراخيها وتفريطها، وصارت تعتقد أن التصديق القلبي المجرد من العمل هو حقيقة الإيمان، وأصبح معنى كون الصلاة والصيام والزكاة والحج أركاناً للإسلام هو اعتقاد وجوبها والإقرار به وإن لم يعمل من ذلك شيئاً.
فالكتاب بحق عظيم القيمة،كبير الفائدة، خطير الأثر، ذلك بأنه يأتي في وقت يحصد فيه أعداء الإسلام ثمار الضعف والانهيار الحاصل في جنبات الأمة، ذلك الضعف الذي كان من أهم أسبابه سريان الفكر الإرجائي في المسلمين سريان النار في الهشيم، حيث تركوا العمل، فإذا الأمة التي كانت عاملة مجاهدة قائمة بأمر الله عزيزة القدر بين الأمم، مهابة الجانب من عدوها، ماضية باسم الله تنشر العدل والخير والهداية للعالمين، إذا بها تهمل أسباب ذلك العز، وتتخلف عن مقومات ذلك السؤدد، وهو العمل، المتمثل في القيام بكل ما أوجب الله عليها، من عبادات وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، واستقامة تامة على نهج الإسلام، كان ذلك.. فإذا بها تعصي الله، وتجاهر بالعصيان، وتترك شرعه، فتذهب خيريتها التي كانت صفتها الأصيلة بنص القرآن، ويتبلد حسّها الذي كان مرهفاً بالإيمان، وتزل قدمها التي طالما استقامت على الطاعة، فتبدل حالها، فحقت فيها سنة الله، فإذا عزها ذل، وهيبتها مهانة، وقوتها ضعف.
فالكتاب يمثل دراسة علمية رصينة عميقة موفقة من عالم موفق، يتحسس به مواطن الداء في الأمة، فيشخصه أحسن تشخيص وأدقه، ويصف الدواء كأمهر الأطباء وأخلصهم، فلله دره، ما انقضى بعد نهل النخبة الواعية من الدعاة من كتابه الفذ \" العلمانية \" حتى كان هذا الكتاب \" ظاهرة الإرجاء \" الذي يمثل مع توأمه \" العلمانية \" ورقة عمل لبرنامج العودة الواعية المبصرة القوية للأمة إلى دينها.
وقد أشار المؤلف إلى هذا المعنى في مقدمته فيقول: كان الكتاب الأول يعالج فصل الدين عن الحياة، والآخر يعالج فصل الإيمان عن العمل، كلتاهما على ضوء هذه العقيدة، ومن هنا كانتا تعبران عن قضية واحدة.
يشتمل الكتاب على مقدمة وخمسة أبواب:
الباب الأول: يبحث في حقيقة الإيمان وارتباط العمل به من خلال:
1 - دعوة النبي وسيرته.
2 – حقيقة النفس الإنسانية.
3 – حقيقة الإيمان الشرعية.
الباب الثاني: يبحث في التاريخ الفكري للإرجاء، منذ نشأته إلى أن أصبح فرقاً كثيرة، ثم ظاهرة فكرية عامة، وواقعاً طاغياً، مع الاهتمام الخاص بقضية \" ترك العمل \"، وحكمها عند المرجئة، والأسباب الفكرية لوقوع ذلك.
الباب الثالث: الإرجاء الظاهرة، وتفصيل الكلام على نوعي الإرجاءº إرجاء الفقهاء والعبّاد، وإرجاء المتكلمين والمتمنطقين، وحكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة.
الباب الرابع: تفصيل لعلاقة الإيمان بالعمل، والظاهر بالباطن مع الاهتمام الخاص بأعمال القلوب التي كان الانحراف فيها من أعظم أسباب انتشار الظاهرة، وشرح نماذج منها وهي بعض شروط لا إله إلا الله.
والباب الخامس: بيان أن الإيمان حقيقة مركبة من ركني القول والعمل، توصلاً بذلك إلى معرفة بطلان مذهب المرجئة في حكم تارك العمل مطلقاً، وبيان حكم صاحب الكبيرة على ضوء ذلك، وسبب ضلال الفِرق فيه.
المقدمة: وقد استهلها المؤلف ببيان أن التفرق في الدين والاختصام في رب العالمين سنة الأمم قبلنا، وواقع حالنا بعدهم، وأن ظهور البدع والضلالات كان سبباً في ضعف الأمة وتفرقها وتأخرها عن تبوء مكانها اللائق بها من الصدارة وقيادة البشرية إلى الهداية والفلاح.
وبين أن من الأصول التي ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها أصحابه - رضي الله عنهم - التسليم والاتباع والسمع والطاعةº فلا تقديم بين يدي الله ورسوله، ولا اعتراض على أمره، ولا تولي عن طاعته، فكانوا - رضي الله عنهم - بفضل هذه التربية خير أصحاب وحواريين، كما كان نبيهم - صلى الله عليه وسلم - خير نبي ورسول.
ويتابع المؤلف وصف حال الصحابة - رضي الله عنهم - بأن إيمانهم كان صادقاً حياً، فلم يكن فلسفة ولا جدلاً ولا نظريات، وإنما كان طاعة تامة في المنشط والمكره والصبر في الرخاء والشدة، والجهاد بكل معنى من معاني الجهاد.
وكان هذا الإيمان يربو ويشتد ويصقل عبر مراحل من الشدة والاضطهاد والحصار والغزوات، حتى استقامت نفوسهم وزكت قلوبهم، وصحت أعمالهم فما قبض الله - تعالى - صفيه من خلقه - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد صارت هذه العصبة المؤمنة أهلاً لحمل الأمانة وتبليغ الرسالة، والقيام بأمر هذا الدين كله. فجاهدوا جهاداً كبيراً، حتى نكّسوا رايات الباطل، ومهدوا السبيل لنشر هداية الإسلام في كل مكان.
ثم إنه نبتت في الأمة بعد ذلك نبتات ضارة من البدع التي شوهت صورة الإسلام، ولوثت عقول كثير من أبنائه، وترجع أصول هذه البدع إلى أربعº وهي: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية. لكن الله جلّت حكمته قضى ألا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، وجعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى.
ثم أوضح المؤلف أن الخلاف في مسألة الإيمان ظل من أعظم القضايا التي شغلت بال الأمة وحركت همم علمائها، ومن هؤلاء العلماء الذين حملوا هم أمتهم في هذا الميدان الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ، والذي تركزت همته على تجلية حقيقة الإيمان والتوحيد، وما يضاده من الكفر والشرك.
ثم أشار المؤلف - أثابه الله – إلى ما كان من موجة الحملات الصليبية الأخيرة \"الاستعمار\"، وفتنة الحضارة الغربية الجاهلية التي فتنت كثيراً من أبناء الأمة المسلمة، فوقع كثير من المسلمين – دولاً وأفراداً في مستنقعها، فذهلت الأمة بذلك عن دينها، ونسيت انتماءها، حتى شاء الله - تعالى - أن تظهر دعوة إصلاحية كبيرة تقوم على التوحيد، وتنادي بالإسلام من جديد، وتنبذ الغزو الغربي الثقافي الكافر، وتتأبى على سمومه، وتقاومه في صحوة صادقة واعية شاملة، مدركة ما أصاب أمتها من أمراض خطيرة، وما يحيط بحاضرها من أخطار، وما ينتظر مستقبلها من نذر مقلقة.
ثم يقترب المؤلف من المراد فيقول: لقد استطعنا - نحن شباب الإسلام – أن نكسر طوق الولاء للغرب، وأن نرفض حضارته الزائفة إلى حد لا بأس به، وعرفنا الكثير من عدونا وخططه ومؤامراته، لكننا حتى الآن لم نعرف حقيقةً من نحن؟ وفي أي طريق نسير؟
نردد: إننا مسلمون، وفي طريق الإسلام نسير.. ولكن أقدامنا تصطدم بصخور وركام أنتجتها قرون طويلة من الضلالات والانحرافات.
وعلينا لكي نرتقي بأنفسنا وأمتنا أن نجتاز عقبة شائكة يعترضها ثلاثة وسبعون طريقاً، الطريق المنجي منها طريق واحد فقط، وما عداه مهلكة، وهذا الطريق الوحيد هو منهج أهل السنة والجماعة الذي نجزم عن دين ويقين أنه منهج الفرقة الناجية الذي لا يقبل الله ديناً سواه.
ثم يشير المؤلف إلى أن النظرة الغالبة على شباب الدعوة الإسلامية اليوم هي أن عقيدة أهل السنة والجماعة لا تعدو أن تكون تصورات نظرية صحيحة لعالم الغيب وقضايا الاعتقاد، وليست – مع ذلك – منهجاً للدعوة والإصلاح والتغيير.
ثم يحمِّل الدعاةَ مسئولية هذا الفهم القاصر لدى المسلمين، وذلك أنهم لم يوضحوا معالم العقيدة الصحيحة للناس، ويكشفوا عن كمالها، فيعلن في وضوح وقطع أنه من خلال دراسته لأسباب العلمانية الطاغية على الحياة الإسلامية ظهر له أن سبب كل انحراف وذل وهزيمة وفرقة في حياة المسلمين لا يزيد عن شيء واحد هو البعد عن منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة والسلوك وسبيل الإصلاح.
وانطلاقاً من نتائج استقراء المؤلف للواقع على ضوء النصوص الشرعية أسس كتابه على ثلاثة أسس، أولها: دراسة الإرجاء على أنه ظاهرة فكرية لا فرقة تاريخية، وبين أن الفرق بينهما كبير، وأشار إلى أن واقع الأمة المعاصر يسيطر عليه الفكر الإرجائي، كما بين المؤلف أن الإرجاء لم يكن في الأصل دعوة واعية مقصودة لترك العمل والتفلت من الطاعات، وإنما كان تفسيراً ضالاً لحقيقة الإيمان أنتجته أسباب تاريخية، ولكن الأمة وهي تتراخى عن العمل بالتدريج، وتنفلت من الواجبات، وتنحدر عن قمة الامتثال رويداً رويداً، كانت تجد في الإرجاء تفسيراً مريحاً يبرر لها تراخيها وتفريطها، وهذه حقيقة نفسية معروفة، فكل ما انحسر عنه العمل واقعياً ستره ثوب الإرجاء الواسع نظرياً.
وانتشرت هذه الظاهرة، فخلال القرون الأخيرة تبنت الأمة \"الإرجاء\" عقيدة ومنهجاً، واعتبرت المخالف لهذا الفهم خارجاً.
وأنحى المؤلف باللائمة على بعض الاتجاهات الدعوية لدورها في ترسيخ هذا الفهم المنحرف من خلال تبنيه والدعوة إليه، بينما كان الأصل في عملها وهدفها إعادة الناس إلى حقيقة الإيمان اعتقاداً وعملاً.
وخلص إلى أنه ينبغي تغيير منهج العرض والمناقشة لقضية الإيمان وعلاقته بالعمل والدعوة، وذلك بانتهاج منهج يجمع بين الدليل العلمي النظري من النصوص وكلام السلف، وبين الدليل الواقعي المحسوس من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحقيقة النفس البشرية ذاتها.
الأساس الثاني من الأسس التي قامت عليها هذه الدراسة: معالجة وقائع الدعوة الإسلامية المعاصرة، فقد أوضح المؤلف في هذا الصدد أن الدعاة اليوم ينقسمون غالباً فريقين:
فريق: سلك في فهم النصوص حرفية عقيمة في الفهم أدت به إلى غلو أوقعه في بدعة تكفير أعيان المسلمين من حيث أراد العزيمة والاستقامة، ففرّ من بدعة إلى بدعة شرٍّ, منها. ثم بين أن هذا الصنف من أهل الدعوة حرموا أنفسهم من فرص النجاح في هذا الميدان العظيم، وذلك بأن سدوا على أنفسهم منافذ الاتصال بالناس، وإيصال الحق لقلوبهم، وبين أن هذا الغلو لم يقف بهم عند هذا الحد، بل تجارى بهم إلى ألوان من الانحراف أضرت بالدعوة، وأحدثت في صفوفها صدوعاً وفتناً.
وأما الصنف الثاني: من أهل الدعوة فانطلق في دعوته بدون منهج واضح ولا تصور اعتقادي متكامل، فلم يتناول الخلاف بالتأصيل العلمي، بل تناوله بالتهويش العاطفي فلم يكن لديه ما يواجه به الفريق الأول من الأصول والقواعد فهرب من التكفير إلى التبرير. وأخذ يسند هذا الواقع المنحرف ويؤصله بنظريات بدعية، وجدها في مذهب المرجئة الذي أصبح ظاهرة فكرية عامة فنسي نفسه، ونسي مهمته الأساسº وهي تغيير هذا الواقع لا تبريره.
ويجمل المؤلف هذا المعنى فيقول: فالفريق الأول أعاد مذهب الحرورية جذَعاً، والآخر أحيا مذهب المرجئة غضاً، ونقله من الدوائر الأكاديمية التقليدية إلى منهج العمل والتغيير.
إلى أن قال: وهكذا أصبحت الكتابة عن هذا الموضوع \" حقيقة الإيمان\" على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة ضرورية لكبح جماح الغالين ودفع تفريط المقصرين.
وسنحاول في هذا العرض السريع تسليط الضوء على لقطات هامة من كل باب في الكتاب، على أن مما ينبغي ملاحظته أن هذا العرض لا يغني الداعية الموفق صاحب الهمة العالية عن قراءة الأصل الذي يحفل بالكثير من التوضيح والتأصيل والفوائد الجمة والثراء العلمي الواسع.
ففي الباب الأول يبين المؤلف ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة، فيورد آيات من القرآن الكريم تبين الغايات والحقائق الكبرى للدين، والغاية من خلق الثقلين والغاية من إرسال الرسل، ثم يبسط القول في الكلام على حقيقة سنة اقتران القوة بالحق لتحقيق تلك الغايات.
قال - تعالى -: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) [الذاريات:56].
ويقول - سبحانه -: ((كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)) [البقرة:213]، ويقول عزّ من قائل: ((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز)) [الحديد:25].
وبين المؤلف أن معركة الأنبياء مع البشرية على طول التاريخ دارت حول قضية واحدة وهي دعوة الرسل للعالمين بإفراد الله الخالق - سبحانه - بالعبادة.
يقول: وموجز دعوة الرسل جميعاً، أنها دعوة واحدة إلى منهج التوحيد بكل فروعه وأنواعه وموالاة أهله، وما يستلزمه ذلك من نبذ الشرك بكل صوره وألوانه ومعاداة أهله.
وأشار إلى أن أعداء الرسل جميعاً كانوا كذلك نسيجاً واحداً في صدهم واستكبارهم وكان وصفهم غالباً في القرآن ب \"الملأ \"، وهم المستكبرونº أصحاب السلطان والمال.
ثم يقول: إن حقيقة المعركة التي خاضها الأنبياء مع أممهم، والسنة الثابتة في دعوتهم لا تتجلى إلا لمن عرف حقيقتين مهمتين ينبغي لمن أراد الانضمام لموكبهم الكريم وركبهم الناجي أن يجعل معرفتهما منطلقاً لدعوته وأساساً لمنهجه:
طبيعة الدين كما أنزله الله وأراده أن يتحقق في واقع الأرض.
طبيعة الجاهلية التي نزل لإبطالها وحربها.
وليس أمام \" الغرباء\" الذين يريدون القيام بمهمة الأنبياء بهداية الناس للحق، ويمثلون الطائفة المنصورة الناجية التي كتب الله أن تظل على الحق لا يضرها من خالفها – ليس أمامهم من خيار في البدء بتصحيح العقيدة، وتجلية مفهوماتها من خلال هاتين الحقيقتين، ثم البيان العلمي الواضح لأصول الدين وحقائقه، وقد دل استقراء نصوص الكتاب والسنة أن هذا الدين يقوم على أصلين:
1 - ألا يعبد إلا الله (بالمعنى الشرعي الكامل للعبادة).
2 - وألا يُعبد الله إلا بما شرع.
ثم نقل كلاماً نفيساً لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ومنه قوله: إن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر كما ذكره الله - تعالى - في آية الحديد السابقة، فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله - تعالى - ولطلب ما عنده. اه
ثم علق المؤلف على كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - بكلام للأستاذ سيد قطب - رحمه الله - فقال: إن اقتران الحديد بالقرآن من أجل إقامة دين الله في الأرض، ليكشف عن سنة ربانية عظمى في طبيعة هذا الدين، وطبيعة الجاهلية المقابلة، وهي أن \"هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام كما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يتحقق في الأرض – في دنيا الناس – بمجرد تنزيله من عند الله، ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه، ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية. إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر، تؤمن به إيماناً كاملاً وتستقيم عليه بقدر طاقتها، وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها، وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين، وفي حياتهم العلمية كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهداً ولا طاقة، تجاهد الضعف البشري والهوى البشري والجهل البشري في أنفسها وأنفس الآخرين، وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج، وتبلغ بعد ذلك كله من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر. أهـ
يقول المؤلف: هذه المجموعة تجاهد الناس بالقرآن قال - تعالى -: ((وجاهدهم به جهاداً كبيراً)) [الفرقان:52]، وتجاهدهم بالحديد قال - تعالى -: ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)) [البقرة:251] حتى يستقيموا إلى الله ويستقيموا على دين الله، وهذا ما أعلنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: \"بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم. \"
ويقول: \" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. الحديث \" مع نصوص كثيرة لا تحصى، وليس هذا خاصاً بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، بل هو سنة جارية في الأنبياء قبله، وإن اختلفت صور الجهاد والابتلاء، فما عليهم إلا الصبر والدعوة، أما النصر والتمكين فمن عند الله.
ثم ختم المبحث الأول من الباب الأول بطائفة من آيات التنزيل الحكيم في بيان طبيعة الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل، فأهل الحق يمسِّكون بالكتاب ويمضون على طريق الدعوة في إصرار وثبات، ويصبرون على الشدائد، ويحطمون ما يعترض راية الحق من عوائق وسدود، وأهل الباطل يصدون عن الحق ويدفعونه بكل سبيل، في عداوة للمؤمنين ومكر وتكذيب وقتل وطرد وتشريد.
ثم أتبعه بفصل استعرض فيه تاريخياً حال العالم التائه المائج بالضلال والظلام، وأشار إلى دور الأنبياء والرسل عليهم السلام في مواجهة هذا الواقع الضخم، ومحاولة إزاحة ذلك الركام الهائل من الضلال الجاثم على صدر البشرية على طول التاريخ الإنساني في الأرض، وبين معالم المنهج الذي سار عليه الرسل الكرام في مواجهة هذا الواقع الطاغي، وكيف كان صبرهم على أذى أقوامهم وتكذيبهم لهم وصدهم الناس عن سبيلهم.
يقول: لقد كانت شهادة ألا إله إلا الله نقلة بعيدة، ومَعلماً فاصلاً بين حياتين لا رابطة بينهما: حياة الكفر وحياة الإيمان، وما يستلزمه ذلك من فرائض وتعبدات، ومشقات أعظم وأكبر من فريضة الصلاة والزكاة ونحوها.
من ذلك: فريضة التلقي الكامل عن الله ورسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها.
ومن ذلك: الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار، ولو كانوا آباء وإخواناً وأزواجاً وعشيرة.
ومن ذلك: فريضة الصبر على الأذى في الله، الذي لا تطيقه إلا نفوس سمت إلى قمة تحمّل الفرائض والواجبات، حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار.
ثم ذكر طرفاً من صور الاضطهاد والتعذيب التي وقعت على نفر من الصحابة الكرام في مكة أمثال بلال وآل ياسر، وصوراً أخرى من الثبات على الحق في مواجهة ظروف اجتماعية قاسية.
وعلق على ذلك فقال: وهكذا كانت كل خطوة من خطوات الدعوة تسير على الشوك والأذى.
ويمضي المؤلف في إيضاح تلك الحقيقة الكبرى، فيستعرض مسيرة العصبة المؤمنة وحركتها بهذا الدين، وسط أمواج هادرة من الصراع مع كل قوى الباطل، فمن الهجرة من مكة إلى المدينة لوضع نواة الدولة الإسلامية خلاصاً للدعوة، وخروجاً بها من مأزق الجمود والحصار الذي كان مضروباً عليها بمكة، والتي كانت أيضاً بداية لمصارعة قوى جديدة.
من الهجرة إلى معركة بدر إلى أحد إلى الحديبية وبيعة الرضوان، حيث يمحص المؤمنون، وتصقل النفوس، وتجتاز الامتحان تلو الامتحان ليرى الله صدقها، واستعلاء الإيمان في نفوس المؤمنين وعز الطاعة على جباههم، وإبائهم أن يستضيمهم عدو الله أو ينصاعوا لضغوطه في أي ميدان.
ثم يقول: إن الإنسان ليشعر بالهوة الساحقة بين قمة الإيمان هذه التي يبينها القرآن، وتدل عليها سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحياة الجماعة المسلمة الأولى، وبين مستنقع النظريات الكلامية المجردة وهي تتحدث عن الإيمان في تجريد وغموض وأوهام وأخلاط، وإن الأمة التي تدع أخذ عقيدتها من كتاب ربها وسنة نبيها وواقع سيرته كي تأخذها من هذه النظريات السقيمة لهي جديرة بأن تكون على الحال الذي عليه أمة الإسلام اليوم وحسبك به من حال.
ويقف بنا المؤلف عند غزوة تبوك ليبالغ في تجلية تلك الحقيقة مشيراً إلى دلالات واضحة في قصة الثلاثة الذين خلفوا، وما كان من موقف العصبة المؤمنة منهم، وما تعرضوا له بسبب هذا الموقف من محنة رهيبة يصفها الله - تعالى - بأنها وصلت إلى حد أن ((ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم)) [التوبة:118]، ويبين كيف أن سورة التوبةº الفاضحة، اهتمت في معظمها بفحص نفوس المنافقين وتعريتها وكشف خباياها، وبُعد هذه النفوس عن حقيقة الإيمان، ثم يسلط الضوء على عبرتين هامتين في هذا السياقº الأولى: أن المنافقين لم يكن يخفى عليهم قط أن الإيمان جهاد وأعباء، وواجبات وفرائض على النفس والمال، وعلى القلوب والجوارح، ولهذا لم يدر في خلدهم أن يستخدموا منطق الأمة الإسلامية في عصورها الأخيرة فيقولوا للرسول - صلى الله عليه وسلم - حين استنفرهم للغزو: لن نجاهد معك ولن يضر هذا في إيماننا، فنحن مصدقون لك بقلوبنا، ومقرون برسالتك بألستنا، فدعنا نأخذ بأذناب البقر، ونغرس الأشجار، ونهتم بشئون أهلينا وأولادنا.. لم يكونوا ليفكروا في هذا، لأن حقيقة الإيمان الحية أمامهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه لم تكن تسمح لهم بذلك، فقول كهذا في مجتمع مؤمن كهذا يعد لغواً وهذياناً، لم يمثل هذا في تفكيرهم شبهة تكفي أن تسوغ في نظرهم تخاذلهم، ولهذا لجؤوا إلى الأعذار الكاذبة الواهية ((لو استطعنا لخرجنا معكم))، ((لا تنفروا في الحر))، ((ائذن لي ولا تفتني)) أي ببنات بني الأصفر، ((ذرنا نكن مع القاعدين))، وغير ذلك من الأعذار المفتعلة التي هي شرعية في فقه المنافقين أو أصول فقههم، وهو فقه كثير الحواشي، طويل الذيل، لا يخلو منه عصر ولا دعوة، أما ذاك القول الذي لم يصل أن يكون عذراً ولا شبهة في أصول فقه المنافقين وقتها، فقد أصبح حجة وقاعدة في أصول فقه الطوائف الإسلامية التي دانت بعلم الكلام واتبعت أساطينه.
ويبلغ الدرس أقصاه حين يقول: حقاً إن مما سهل للمرجئة نشر عقيدتهم أن حقيقة الإسلام الحية الكاملة لم تكن قائمة في عصور الانحراف، فكان يسيراً عليهم أن يقنعوا أمة غير عاملة بأن العمل ليس من الإيمان، إذ ليس أشهى إلى الكسول من أن يجد ما يبرر كسله، ولكن المعيار الوحيد هو الجيل الأول.
والعبرة الثانية كانت في قصة النفر من المنافقين الذين سخروا من المؤمنين ونزل فيهم قول الله - تعالى -: ((ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم))، هؤلاء النفر فزعوا قبل نزول الآيات، وهُرعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - معتذرين نادمين، يقسمون الأيمان أنهم ما أرادوا الكفر ولا قصدوه، وأن ما صنعوا لم يكن إلا خوضاً ولعباً، ولم يكذبهم الله - تعالى - في دعوى الخوض واللعب بل أوضح أن نفس خوضهم ولعبهم كفر. ثم يقول: إنه لا خلاف بين فقهاء الإسلام في أن الهزل بالكفر كفر، مع تفصيل في فروع المسألة، وقد بقي هذا الإجماع محفوظاً نظرياً في كتب الفقه، أما في الواقع العملي، فإن استمرار الإرجاء، وانحسار مفهوم الإيمان، وغموض مفهوم الكفر، والغفلة عن كثير من ضروبه وأنواعه جعل الأمة الإسلامية تغفل عن تكفير المرتدين قصداً وجهاراً، ويعني بهؤلاء طوائف الحلولية وغلاة الصوفية والفرق الباطنية وعُبّاد الموتى، ودعاة الشرك بكل ضروبه، وسائر الزنادقة والمنافقين الذين ظهر لهم في عصرنا أسماء وأشكال جديدةº كالاشتراكيين والبعثيين والقوميين والعلمانيين وسائر المنضمين أو المؤمنين بالأحزاب المرتدة والنظريات الكفرية، وكذلك دعاة الإباحية المطلقة المنتسبين إلى النظريات الاجتماعية والأدبية والنفسية والتربوية وأمثالها. ويبين أن ثمة علماء في الأمة لم تصبهم تلك الغفلة بشأن هؤلاء المرتدين وأن هؤلاء العلماء دعوا إلى تصحيح الإيمان وتجلية معانيه، فوقفت جموع غافلة من الأمة في وجوه هؤلاء العلماء الأفذاذ من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام محمد بن عبد الوهاب والشهيد سيد قطب - رحمهم الله - وأمثالهم متهمة إياهم بتكفير المسلمين، معرضة عن تصريح هؤلاء العلماء بأنهم لا يقصدون تكفير الأعيان بل تصحيح حقائق الدين في القلوب والأذهان.
إن في كل غزوة وسرية من غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - وسراياه التي بلغت مائة غزوة وسرية، وفي كل موقف من مواقفه في الدعوة والجهاد، وفي كل مقام من مقامات عبوديته وتبتله إلى ربه لنجد برهاناً ساطعاً ومعلماً شاخصاً على حقيقة دين الله - تعالى - وحقيقة الدعوة إليه، وحقيقة النفس التي يجب أن تؤمن به وتستقيم عليه مع إيضاح لحقيقة الجاهلية التي يجب أن تحارب وتدحر لكيلا تقف في طريقه.
لقد كان جيل الصحابة - رضي الله عنهم - أصفى أجيال الإنسانية وأعظمها - يدرك هذه الحقائق إدراك من عاناها وتذوقها وتربى عليها وجاهد لأجلها ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمامه يعانيها ويدعو إليها، وقد ملك هذا الإدراك نفوس ذلك الجيل حتى بلغ بهم حداً رفيعاً من الحساسية ورهافة الشعور تجاهها، فاستصحبوا الشعور بالتقصير وسوء الظن بالنفس واستعظام الهفوة، وحتى إنهم ليخشون أن يكون ما أعطاهم الله من الكرامة عقوبة واستدراجاً، ثم أورد نماذج فذة من مؤمني هذا الجيل من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وبين أن على نهجهم سارت من بعدهم أجيال فأكملوا مسيرة الجهاد بكل ضروبه وأنواعهº الجهاد لإدخال الأمم في دين الله وتحريرها من عبودية طواغيت الدجل والاستبداد، والجهاد في طلب العلم وتعليمه ليعبدوا على بصيرة، ويدعوا الناس إلى حق واضح، والجهاد في مقاومة البدع والجهاد في تحمل الأذى في سبيل ذلك كله.
يقول: كل ذلك عملوه وجاهدوه لا على أنه مجرد نوافل وتطوعات، ولا على أنه مهام جانبية تقضى في أوقات الفراغ من الشواغل، ولا على أنه وسيلة قطعية توصلهم للدرجات العلى في الجنة، بل كانوا يعملون ذلك كله على أنه حقيقة الإسلام، وهو شعب الإيمان، وهو أسنان ومفتاح الشهادتين، وهو الطريق إلى الجنة إن سلِم من الآفات والعوارض، وما نقل عن أحد منهم قط أنه قال إن إيمانه كإيمان جبريل أو أنه كامل الإيمان وما كان لمثلهم أن يتفوّه بهذا.
ثم طرح أسئلة مما يدور في بعض الأذهان مثل: لماذا كل هذه الجهود والتضحيات والمشقات؟ عندما نخاطب المسلمين بأن طبيعة هذا الدين هي هكذا: ألا تكون صعوبة هذا المنهج وارتفاعه وبطء ثمراته وطول طريقه مبرراً لما يتصورونه من إمكان العيش تحت مظلة الجاهلية المعاصرة – مكتفين بأداء الشعائر الفردية – هروباً من تلك التضحيات والتكاليف؟ والدعاة خاصة ألا نخشى أن يكون ذلك مبرراً لمحاولة الحصول على الثمرة من طرق أخرى يحسبونها ميسورة سهلة المنال بعيداً عن هذا الطريق المجهد الشاق، وهو ما يحدث فعلاً في أكثر الدعوات المعاصرة؟
ثم أشار إلى أن الإجابة الشافية على هذه الأسئلة تكون بإيضاح الحقائق الكبرى المبينة في العرض السابق أي من واقع سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، على أن علماء أهل السنة والجماعة أجابوا عنها بلسان الحال أو بلسان المقال، منهم شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله - ، بيد أنه اختار لتوضيح هذه المعاني صفحات من كتابات الأستاذ الكبير سيد قطب الذي آمن وفقه وصدق، يقول - رحمه الله -: إن حقيقة العبادة لو كانت هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب من الرسل والرسالات، وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الرسل عليهم السلام، والدعاة والمؤمنون على مدار الزمان، إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن.
إن توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة.. إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود.
إن الدينونة لله تحرر البشر من الدينونة لغيره، وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية، والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في ألوان العبودية لغير الله في كل جانب من جوانب الحياة.. إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط، ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمية ((والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم))، ولا يخسر الإنسان شيئاً كأن يخسر آدميته، ويندرج في عالم البهيمية، وهذا هو الذي يقع حتماً بمجرد التملص من الدينونة لله وحده، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة. ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية: يقعون في عبودية الأحبار والرهبان والجن والكهان والدجاجلة والمشعوذين، يقعون في ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم، سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم، أو في طبقة حاكمة أو في جنس حاكم، فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده، ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها.. ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعينº فهذه هي الصورة الصارخة، ولكنها ليست هي كل شيء، إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية، ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصور، ألا وهي عبودية الأعراف والأوضاع والتقاليد.
ثم ضرب لذلك أمثلة بالعبودية لصانعي المودات والأزياء، ثم يقول: وأخيراً تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية، وما من أضحية يقدمها عابد الله لله إلا ويقدم لغير الله أضعافها للأرباب الحاكمة من الأموال والأنفس والأعراض.
وتقام أصنام من (الوطن) ومن (القوم) ومن (الجنس) ومن (الطبقة) ومن (الإنتاج) ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب. وتدق عليها الطبول، وتنصب لها الرايات، ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد، وإلا فالتردد هو الخيانة وهو العار!، وحين يتعارض العِرض مع متطلبات هذه الأصنام فإن العرض هو الذي يضحى، ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم - كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام ومن ورائها أولئك الأرباب من الحكام.
وهنا ظاهرة واضحة متكررة، وهي أنه كلما قام عبد من عبيد الله ليقيم من نفسه طاغوتاً يعبد الناس لشخصه من دون الله، احتاج هذا الطاغوت كي يُعبد – أي يطاع ويتبع - إلى أن يسَخر كل القوى والطاقات: تسبح بحمده وترتل ذكره، وتنفخ في صورته الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان الألوهية العظيمة، وألا تكف لحظة عن النفخ في تلك الصور الهزيلة، وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها، وحشد الجموع بشتى الوسائل للتسبيح باسمها وإقامة طقوس العبادة لها.
والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية: أنه يتجلى بوضوح أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية التي يعبر القرآن عنها بالعبادة هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام، وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام، إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم، وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد، وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق، ثم هي بعد ذلك لا قبله قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام، وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام وتنفذ فيها الأحكام.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد