بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الكون الذي نعيش فيه معبد رحب تتجاوب جنباته بالتسبيح لخالقه و منشئه. فالأرض والسماء و ما فيهما و ما بينهما كل ذلك مستسلم خاضع لله المبدع الموجد قال - تعالى -: (بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون), وقال: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون) , وهم مع استسلامهم لربهم يسجدون, (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال), وقال - تعالى -: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس و كثير حق عليه العذاب) ومع الاستسلام والسجود تسبيح و تقديس، قال - تعالى -: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه).
والإنسان في هذا الكون عالم من هذه العوالم التي أوجدها الله - سبحانه - لتعبده و تتوجه إليه قال - تعالى - :(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)
فالعبادة هي غاية الوجود الإنساني بل الكون كله ما وجد إلا لذلك فحري بنا أن نبذل وسعنا في التعرف على مفهوم هذه العبادة التي خلقنا من أجلها.
ونحن عندما نحاول الكشف عن حقيقة العبادة يجب علينا أن نتوجه إلى كتاب ربنا وسنة نبينا كيف نتعرف من خلالهما على مفهوم العبادة فما أنزل الله الكتب ولا أرسل الرسل إلا ليعرف الناس بالغاية التي خلقوا من أجلها والسبيل الذي يحققون به تلك الغاية.
والناظر في نصوص الكتاب والسنة يجد أن مدلول العبادة فيهما شامل لا يقتصر على الفرائض فالحياة في منهج الله \"وحدة\" كل ما فيها لله والإسلام لا يفصل بين طريق الدنيا وطريق الآخرة لا يفرق بين الفرائض والسلوك ويجعل كل حركة في حياة المسلم وثيقة الصلة بعقيدته كي يتوحه بها إلى ربه منفذا أمره و محققا رسالته قال - تعالى -:(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)
والذي حققه ابن تيمية أن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله و يرضاه من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة.
ويزيد الأمر وضوحا بيان أنواع العبادات, (فالصلاة, والزكاة, والصيام, والحج, وصدق الحديث, وأداء الأمانة, وبر الوالدين, وصلة الأرحام, والوفاء بالعهود, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وجهاد الكفار والمنافقين, والإحسان للجار واليتيم, والمسكين وبن السبيل, والمملوك من الآدميين والبهائم, والدعاء والذكر, وقراءة القران وأمثال ذلك من العبادة) .
ويعد من العبادة أيضا (حب الله ورسوله, و خشية الله, والإنابة إليه وإخلاص الدين له, والصبر لحكمه, والشكر لنعمه, والرضى بقضائه, والتوكل عليه, والرجاء لرحمته, والخوف من عذابه.
ويتوسع معنى العبادة فيعد منها كل ما أمر الله به عباده من الأسباب وأستدل على ذلك بأن القرآن يقرن العبادة بالتوكل (فاعبده و توكل عليه) .
والدين منهج الله جاء ليسع الحياة كلها و ينظم جميع أمورها من آداب الأكل والشرب و قضاء الحاجة إلى بناء الدولة و سياسة الحاكم و سياسة المال و شئون المعاملات والعقوبات وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب, ولهذا نجد كتاب الله الكريم يخاطب عباده المؤمنين بأوامر تكليفيه وأحكام شرعيه تتناول جوانب شتى من الحياة ففي سورة البقرة نجد مجموعة من التكاليف كلها جاءت بصيغة واحدة (كتب عليكم) ولنقرأ هذه الآيات الكريمة قال - تعالى - : (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى), وقال: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين), وقال: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام), وقال: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم)
فهذه الأمور كلها: من قصاص و صيام وقتال ووصية مكتوبة من الله على عبادة أي مفروضة عليهم فعليهم أن يعبدوا الله بالتزامها والانقياد لها.
وبهذا البيان تتضح لنا حقيقة مهمة لا زال كثير من المسلمين يجهلها فبعض الناس لا يفهم من كلمة العبادة إذا ذكرت إلا الصلاة والصيام والصدقة والحج و نحو ذلك من الأدعية والأذكار ولا يحسب أن لها علاقة بالأخلاق والآداب أو النظم والقوانين أو العادات والتقاليد.
إن عبادة الله ليست محصورة في الشعائر التعبديه من صلاة وصوم وزكاة كما يفهم بعض الناس والذين يقومون بهذه الشعائر فحسب لم يفوا العبادة حقها .
إن مقتضى العبادة المطالب بها الإنسان أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرفاته وسلوكه وعلاقته مع الناس وفق المناهج والأوضاع التي جاءت بها الشريعة الإسلامية يفعل ذلك طاعة لله و استسلاما لأمره و شعار المسلم ما أرشد الله إليه في قوله: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون), ذلك أن العبد ليس له خيار إذا قضى مولاه قضاء أو وجهه وجهة معينة.
والاحتكام إلى شرع الله والانقياد إلى أحكامه من العبادة فقد أخبر القرآن أن أهل الكتاب (اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أولياء من دون الله والمسيح ابن مريم), وقد فسر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاتخاذ هنا بمتابعة الأحبار والرهبان في تحليلهم الحرام و تحريمهم الحلال.
من كتاب: النيات في العبادات للدكتور عمر الأشقر .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد