عصمة الأئمة بين أهل السنة والشيعة


 بسم الله الرحمن الرحيم
عصمة الأئمة بين أهل السنة والشيعة

من خلال (منهاج السنة النبوية)




من الكتب الجليلة التي ألفها شيخ الإسـلام ابن تيمية (رحمه الله): (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية)، ردّ فـيـه عـلـى كتاب: (منهاج الكرامة في إثبات الإمامة) لابن الـمُطَهّر الحلي الرافضي، وقد طـبـع أخـيـراً بعناية الدكتور محمد رشاد سالم (رحمه الله)(*)، وتأتي أهمية هذا السفر الجليل لعدة أسباب، أذكر منها:

1- أنّ الشيعة من أقدم الفرق ظهوراً في الـتـاريـخ الإسلامي، ومن أكثرها انتشاراً في العصر الحاضر.

2- أن ابـن تـيـمـيــة اهـتـم بالـردّ علـيهم معتمداً على النقل الدقيق من أكثر كتبهم رواجاً وانتشاراً في عصره.

3- أن ابـن المطهـر الحلـي الذي ردّ عـلــيــــه ابن تيمية كان يُعدّ عند الإمامية أفضلهم في زمانه، بل يقول بعضهم: ليس في بلاد المشرق أفضل منه في جنس العلوم مطلقاً(1).

4- يُعدّ كتاب (منهاج السنة النبوية) من أوســــــع كتب أهل السنة وأجمعها في الرد على الشيعة الإمامية خاصة، وقد استوعب ابن تيمية فـــيـــه الــــرد على كـثــير من شبهاتهم وافتراءاتهم التي كانوا وما زالوا يرددونها، ويكتبون فيها الرسائل والمدونات.

5- وحيث إن مذهب الإمامية قد جمع عظائم البدع المنكرة ـ فإنّهم جهـمـــية في الصفات، قدرية على مذهب المعتزلة، رافضة في الصحابة(2) ـ فإن ابن تيمية اسـتــطـرد استطرادات نـفـيـســـة للـــرد على الجهمية والمعتزلة والفلاسفة.. وغيرهم من طوائف المبتدعة ورؤوس الضلال.

وقد ناقش ابن تـيـمـيـة في هذا الكتاب مسائل متعددة أثارها ابن المطهر في أبواب مختلفة، ولعلّ من أهم هذه المسائل وأجمعها:

أولاً: منزلة الـصـحـابـة (رضي الله عنهم أجمعين)، ومواقفهم بعد وفاة النبي، والرد على المطاعن والأكاذيب التي ذكرها ابن المطهر.

ثانياً: الإمامة والعصمة.

ثالثاً: منهج أهل السنة في الصـفـات والقدر، ومقارنته بمنهج الرافضة وأشياخهم المعتزلة، والرد على أكاذيبهم ومخازيهم.

وسوف أقتصر في هـــذه المــقـالـة على مقارنة مختصرة بين منهجي أهل السنة والرافضة في عصمة الأئمة من خلال هذا السفر الجليل.

عصمة الأئمة عند الشيعة:

لعل موضوع الإمامة هو الموضوع الـرئــيـــس الــذي يدور حوله كـتاب ابن المطهر: (منهاج الكرامة في إثبات الإمامة)، ولذا: فإنه أبرز الموضوعات التي تـكـلم عنها ـ فيما بعد ـ شيخ الإسلام ابن تيمية في: (منهاج السنة النبوية)، وســــوف أشـــيـر في هذا المبحث إلى منهج الرافضة في التلقي عن أئمتهم، ثم أختمه ببيان منهج أهل السنة في العصمة.

* أقسام الأئمة الإثني عشر:

ذكر ابن تيمية أن: (أصول الدين عند الإمامية أربعة: التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، فالإمامة هي آخرالمراتب، والتوحيد والعدل والنبوة قبل ذلك)(3).

ويقسم ابن تيمية الأئمة الإثني عشر أربعة أقسام:

القـسـم الأول: علي بــن أبي طالب، والحسن، والحسين (رضي الله عنهم) وهم صحابة أجلاء، لا يُشَكّ في فـضـلـهـم وإمــامـتـهـم، ولكن شَرِكَهُم في فضل الصحبة خلق كثير، وفي الصحابة من هو أفضل منهم(4) بأدلة صحيحة عن النبي.

القـسـم الثاني: علي بن الحـسـين، ومحمد بن عـلـي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر(5)، وهؤلاء من العلماء الثقات المعتد بهم، وقد أشار ابن تيمية في مواضع عديدة إلى تقديرهم ومحبتهم، وجواز تقليدهم لمن عـجــز عن الاســتــدلال، حالهم في ذلك كحال بقية علماء الأمة(6).

القسم الثالث: علي بن مـوســــى الرضا، ومحمد بن علي بن مـوســى الجواد، وعلي بن محمد بن علي العسكري، والحسن بن علي بن محمد العسكري.

وقد أثنى ابن تيمية على الأئمة الـثــلاثة: علي بن الحسين، وابنه أبي جعفر، وجعفر بن محمد، ثم قال: (وأما من بعد الـثـــلاثة كالعسكريين، فهؤلاء لم يظهر عليهم علمٌ تستفيده الأمة، ولا كان لهم يدٌ تستعين بها الأمــــة، بل كانوا كأمثالهم من الهاشميين، لهم حرمة ومكانة، وفيهم من معرفة ما يحتاجون إليه في الإسلام والدين ما في أمثالهم، وهو ما يعرفه كثير من عوام المسلمين، وأما ما يختص به أهــل العلم، فهذا لم يُعرف عنهم، ولهذا: لم يأخذ عنهم أهل العلم كما أخذوا عن أولئك الثلاثة، ولو وجدوا ما يُستفاد لأخذوا، ولكن طالب العلم يعرف مقصوده)(7).

القسم الرابع: محمد بن الحسن العسكري المنتظر.

وهــذا مــن غـرائـب الـشيعة، حيث لم يُرَ له عينٌ ولا أثر، ولا سُمع له حسّ ولا خبر.

والشيعة يجعلون له مشاهد ينتظرونه عندها، كمشهد سامراء(8).!

أصول الشرعيات عند الرافضة وغلوهم في الأئمة:

ذكــر ابن تيمية في عدة مواضع: أن الرافضة الإمامية أصّلوا لهم أصولاً اعتمدوها في كلّ ما يُنقل عن أئمة البيت، وهذه الأصول هي:

الأصل الأول: أن هؤلاء الأئمة معصومون كعصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- .

الأصل الثاني: أن كل ما يقوله هؤلاء الأئمة منقولٌ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- .

الأصل الـثـالـث: أن إجماع العترة حجة، ثم يدّعون أن العترة هم الاثنا عشر، ويدعون أن ما يُنقل عن أحدهم فقد أجمعوا كلهم عليه(9).

قال ابن تـيـمـية بــعــد أن ذكر هذه الأصول: (فهذه أصول الشرعيات عندهم، وهي أصول فاسدة كما سنـبـيـن ذلك فـي مـوضـعه، لا يعتمدون على القرآن ولا على الحديث ولا على الإجماع، إلا لكون المعصوم منهم، ولا على القياس وإن كان واضحاً جليّاً)(10).

فالرافضة ـ إذن ـ بالغوا في أئمتهم، وجعلوا: (الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين، وأشرف مسائل المسلمين)(11)، بل إنهم جعلوا الإمامة: (أحد أركان الإيمان)(12).

ومـن غـلــوّ الـرافــضـــة فـي الأئـمــة: اعتقادهم أن (كل واحد من هؤلاء قد بلغ الغاية في الكمال)(13).

والرافضة: (تجعل الأئمة الاثني عشر أفضل من السابقيـن الأولين من المهاجرين والأنصار، وغلاتهم يقولون: إنهم أفضل من الأنـبــيـــاء، لأنـهـم يعتقدون فيهم الإلهية كما اعتقدتها النصارى في المسيح)(14).

(وكذلك الرافضة غلوا في الرسل، بل في الأئمة، حتى اتخذوهم أرباباً من دون الله، فتركوا عــبــــادة الله وحده لا شريك له التي أمرهم بها الرسل، وكذّبوا الرسول فيما أخبر به من توبة الأنبياء واستغفارهم)(15).

ولهذا: فإن الغلو لا يوجد في (طائفة أكثر مما يوجد فيهم، ومنهم من ادعى إلهية البشر، وادعى النبوة في غير النبي -صلى الله عليه وسلم- وادعى العصمة في الأئمة، ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف)(16).

وتزعم الرافضة أن (كل ما أفتى به الواحد من هؤلاء فهو منقول عنده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-)(17).

ثم تـرتـب على هذا الغلو أن (الرافضة تزعم أن الدين مُسَلّم إلى الأئمة، فالحلال ما حللوه، والحرام ما حرموه، والدين ما شرعوه)(18).

وحقيقة قول الرافضة: أنهم (يُريدون أن يجعلوا ما قاله الواحد من هؤلاء هو قول الرسول الذي بعثه الله إلى جميع المؤمنين، بمنزلة القرآن والمتواتر من السنة)(19).

ومن عجائب بعضهم: ترجيحهم للقول الذي لا يُعرف قائلهº لأنّ المنتظر المعصوم يقول به. فكان دينهم مبنيّاً على مجهول ومعدوم..!(20)

انحراف الرافضة في الأئمة:

مع ذلك الغلو والتعظيم الشديد للأئمة، فإن الرافضة وقعوا في الأمور التالية:

الأمر الأول: اختلافهم في تعيين الأئمة:

اختـلـفت الرافضة في تعيين أولئك الأئمةاختلافاً متبايناً، وكل فرقة من فرقهم تدعي أنها هي التي على الحق، بدون حجة أو برهان(21).

الأمر الثاني: مخالفتهم لأئمتهم:

مع أن الرافضة يغلون في الأئمة وتعظيمهم، إلا أنهم لم يأخذوا بأقوالهم، ولم يقتدوا بهمº ولهذا قــــال ابن تـيـمــية: (لا نُسلّم أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن أهل البيت: لا الاثنا عــشــريـــة ولا غيرهم، بل هم مخالفون لعلي (رضي الله عنه) وأئمة أهل البيت في جميع أصــولـــهــم التي فارقوا فيها أهل السنة والجماعة... والنقل بذلك مستفيضٌ في كتب أهل العلم، بحيث إن معرفة المنقول في هذا الباب عن أئمة أهل البيت يوجب علماً ضروريّاً بأن الرافضة مخالفون لهم لا موافقون لهم)(22).

الأمر الثالث: أن الرافضة لا يهتمون بتمييز المنقولات عن الأئمة، ولا خبرة لهم بالأسانيد ومعرفة الثقات:

قال ابن تـيـمـيــة: (وعمدتهم في الشرعيات ما نُقل لهم عن بعض أهل البيت، وذلك النقل منه ما هو صدق، ومــنــه ما هو كذب ـ عمداً أو خطأً ـ وليسوا أهل معرفة بصحيح المنقول وضعيفه كأهل المعرفة بالحديث)(23).

الأمر الرابع: كذب الرافضة على أئمتهم:

لم يقف الرافضة مع أئـمـتـهـــم عـنـد حد القصور في تمييز المنقولات عنهم، بل تعدوه إلى الكذب والافتراءº قال ابن تيمية: (الـكـذب علـى هــــؤلاء [يعني: الأئمة الاثني عشر] في الرافضة أعظم الأمور، لا سيما على جعفر بن محمد الـصـادق، فإنه ما كُذب على أحدٍ, ما كُذب عليه، حتى نسبوا إليه: كتاب الجَفر والبطاقة، والهفت.

وفي الجملة: فمن جرّب الرافضة في كتابهم وخطابهم علم أنهم من أكذب خلق الله، فكيف يثق القلب بنقلِ من كثر منهم الكذب قبل أن يعرف صدق الناقل؟)(24).

الأمر الخامس: اتباع الرافضة لشيوخهم لا لأئمتهم:

قال ابن تيمية: (إن الأئمة الذين يُدّعى فيهم العصمة قـد مـاتـوا منذ سنين كثيرة، والمنتظر له غائب أكثر من أربعمئة وخمسين سنة، وعند آخرين هو مـــعـــدوم لــم يـوجـد، والذين يُـطــاعـــون شيوخٌ من شيوخ الرافضة، أو كتب صنفها بعض شيوخ الرافضة، وذكروا أن ما فيها مـنـقـول عن أولئك المعصومين، وهؤلاء الشيوخ المصنفون ليسوا معصومين بالاتفاق، ولا مقطوعاً لهم بالنجاة.

فإذن: الرافضة لا يتبعون إلا أئمة لا يقطعون بنجاتهم ولا سعادتهم، فلم يكونوا قاطعين لا بنجاتـهـم ولا بـنـجـاة أئمتهم الذين يُباشرونهم بالأمر والنهي، وهم أئمتهم حقّاً، وإنهم في انتسابهم إلى أولئك بمـنـزلـة كـثـيـر من أتباع شيوخهم الذين ينتسبون إلى شيخ قد مات من مــدة، ولا يــدرون بـمــاذا أمــر، ولا عـن ماذا نهى، بل له أتباع يأكلون أموالهم بالباطل ويـصـدّون عــن سـبــيــل الله، يــأمــرونهم بالغلو في ذلك الشيخ وفي خلفائه وأن يتخذوهم أرباباً)(25).

الأمر السادس: سخافة قول الرافضة في أئمتهم:

مع أن الإمامة عند الرافضة من أهم مطالب الدين، وأشرف مسائل المسلمين، إلا أنهم: (قد قالوا في الإمامة أسخف قول وأفسده في العقل والدين)(26).

وقال ابن تيمية أيضاً: (ثم إنه لما علم اســم ذلك الإمـام ونسبه ـ يعني: المنتظر ـ، لم يظفر بشيء من مطلوبه، ولا وصل إليه شيء من تعليمه وإرشاده، ولا أمـره ولا نهيه، ولا حصل له من جهته منفعة ولا مصلحة أصلاً، إلا إذهاب نـفــســه ومـالــه، وقطع الأسفار، وطول الانتظار بالليل والنهار، ومعاداة الجمهور لداخل في سرداب، لـيــس له عمل ولا خطاب، ولو كان موجوداً بيقين لما حصل به منفعة لهؤلاء المساكين، فــكـيـف وعقلاء الناس يعلمون أنه ليس معهم إلا الإفلاس، وأن الحسن بن علي العسكري لم يـنـسـل ولم يُعقب، كما ذكر ذلك محـمـد بــن جـريــر الـطـبـري، وعـبـد الـبــاقــــي بن قانع، وغيرهما من أهل العلم بالنسب؟!..)(27).

الأمر السابع: شرك الرافضة في أئمتهم:

من غلوّ الرافضة في الأئمة: أنهم حوّلوا حبهم لهم إلى شرك وعبادة لغير الله (تعالى)، قـال ابـن تيميـة: (.. وكذلك الرافضة غلوا في الرسل، بل في الأئمة، حتى اتخذوهم أرباباً من دون الله، فتركوا عبادة الله وحده لا شريك له التي أمـرهــــم بها الرسل، وكذّبوا الرسول فيما أخبر به من توبة الأنبياء واستغفارهم، فتجدهم يُعطلون المساجد التي أمر الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه، فلا يصلون فيها جمعة ولا جماعة، وليس لها عندهم كبير حُرمة، وإن صلوا فيها صلوا وحداناً، ويُعظمون المشاهد المبنية على الـقــبـــور، فيعكفون عليها مشابهة للمشركين، ويحجون إليها كما يحج الحاج إلى البيت العتيق، ومــنـهـــم من يجعل الحج إليها أعظم من الحج إلى الكعبة، وقد ثبت في الصحاح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنــه قــال: (لـعـــن الله الـيــهــود والـنـصـــارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا)..)(28).

(وقد صنف شيخهم ابن النعمان، المعروف عندهم بالمفيد ـ وهو شيخ الموسوي والطوسي ـ كتاباً سماه: (مناسك المشاهد)، جعل قبور المخلوقين تُحج كما تحج الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قياماً للناس، وهو أول بيت وضع للناس فلا يُطاف إلا به، ولا يُصلى إلا إليه، ولم يأمر الله إلا بحجه.

وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي - صلى الله عليه وسـلـم - لم يأمر بما ذكروه من أمر المشاهد، ولا شرع لأمته مناسك عند قبور الأنبياء والصالـحــيـن، بــل هذا من دين المشركين)(29).

منهج أهل السنة في العصمة:

بــعــد هـذا العرض لمنهج الرافضة في التلقي عن أئمتهم وأشياخهم، أنتقل إلى عرض منهج أهل السنة في هذا الباب:

أولاً: الطاعة المطلقة لا تكون لمخلوق إلا للرسل (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين):

قال ابن تيمية: (والرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المبلغ عن الله أمره ونهيه، فلا يُطاع مخلوق طـاعــة مطـلـقـــة إلا هو، فإذا جعل الإمام والشيخ كأنه إله يُدعى مع مغيبه وبعد موته، ويستغاث به، ويطلب منه الحوائج ـ والطاعة إنما هي لشخص حاضر يأمر بما يُريد وينهى عما يُريد ـ كان المـيـــــت مُشبّهاً بالله (تعالى) والحي مشبّها برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيخرجون عن حـقـيـقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله)(30).

وقـال أيــضاً: (المعصوم تجب طاعته مطلقاً بلا قيد، ومخالفه يستحق الوعيد، والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصةº قال (تعالى): ((وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)) [الجن: 23]، فدل القرآن في غير موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل الـسـعـادة، ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر، ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد، وإن قُدّر أنه أطاع من ظن أنه معصوم، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي فرق به بين أهل الجنة وأهل النار، وبين الأبرار والفجار، وبين الحق والباطل، وبين الغي والرشد، والـهـدى والضلال، وجعله القسيم الذي قسم الله به عباده إلى شقي وسعيد، فمن اتبعه فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقي، وليست هذه المرتبة لغيره.

ولهذا اتفق أهــل العلم (أهل الكتاب والسنة) على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ مــن قـوله ويــتــرك، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطـاعـتــــه في كل ما أمر، فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وهو الذي يسأل الناس عنه يوم القيامة، كما قال (تعالى): ((فَلَنَسئَلَنَّ الَذِينَ أُرسِلَ إلَيهِم وَلَنَسئَلَنَّ المُرسَلِينَ)) [الأعراف: 6]..)(31).

ثانياً: أهل السنة لا ينتصرون إلا لقول الرسول:

قال ابن تيمية: (فليس الضلال والغي في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في الرافضة، كما أن الـهــدى والرشـــاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والــســنــة المحــــضة، الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنهم خاصته، وهو إمامــهــم المطلق الذي لا يغضبون لقول غيره، إلا إذا اتبع قوله، ومقصودهم نصر الله ورسوله)(32).

ثالثاً: ليس أحدٌ من البشر واسطة بين الله وخلقه في الخلق والرزق:

قال ابن تيمية: (لـــيـــس أحـــد من البشر واسطة بين الله وخلقه في رزقه وخلقه، وهداه ونصره، وإنما الرسل وسائط في تـبـلــيــــغ رسالاته، لا سبيل لأحد إلى السعادة إلا بطاعة الرسل. وأما خلقه ورزقه، وهداه ونصره، فـــلا يـقـدرعليه إلا الله (تعالى)، فهذا لا يتوقف على حياة الرسل وبقائهم، بل ولا يتوقف نصر الخـلــق ورزقـهم على وجود الرسل أصلاً، بل قد يخلق الله ذلك بما شاء من الأسباب بواسطة الملائكة أو غــيــرهم، وقد يكون لبعض البشر في ذلك من الأسباب ما هو معروف في البشر، وأما كون ذلك لا يـكـــــون إلا بواسطة البشر، أو أن أحداً من البشر يتولى ذلك كله، ونحو ذلك، فهذا كله باطل)(33).

رابعاً: الردّ عند التنازع لا يكون إلا لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم-:

ذكر ابن تيمية قول الله (تعالى): ((يَا أَيٌّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُـــوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ, فَرُدٌّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُم تُؤمِنُونَ بـِاللَّهِ وَالـيَـــــومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَاًوِيلاً)) [النساء: 59]، ثم قال: (فأمر الله المؤمنين عند التــنــازع بالرد إلى الله والرسول، ولو كان للناس معصوم غير الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمرهم بالرد إليه، فدل القرآن على أنه لا معصوم إلا الرسول -صلى الله عليه وسلم-)(34). وقال في مـوضــــــع آخر: (فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول، فمن أثبت شخصاً معصوماً غير الرسول-صلى الله عليه وسلم-، أوجب ردّ ما تنازعوا فيه إليه، لأنه لا يقول عنده إلا الحق كالرسول-صلى الله عليه وسلم-، وهذا خلاف القرآن)(35).

خامساً: مقالة أهل السنة في العصمة:

ذكر ابن تـيـمـيـة بأن أهل السنة: (متفقون على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله (تعالى)، وهذا هـو مقصود الرسالة، فإن الرسول هو الذي يبلغ عن الله أمره ونهيه وخبره، وهم معصومون في تـبـلـيغ الرسالة باتفاق المسلمين، بحيث لا يجوز أن يستقرّ في ذلك شيء من الخطأ)(36).

ولهذا فإن الرسول -صلـى الله عليه وسلم-: (معـصـومٌ في التبليغ بالاتفاق، والعصمة المتفق عليها: أنه لا يُقر على خطأ في التبليغ بالإجماع)(37).

فالرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المعصوم: (الذي لا ريب في عصمته، وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى صــراط العزيز الحميد، الذي فرق بين الحق والباطل، والهدى والـضــلال، والـغـي والــرشــــاد، والنور والظلمة، وأهل السعادة وأهل الشقاوة..)(38).

من أجل ذلك فإن أهل الحديث: (جعلوا الرسول الذي بعثه الله إلى الخلق هو إمــامــهــم المعصوم، عنه يأخذون دينهم، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شــرعــه، وكل قول يخالف قوله فهو مردود عندهم ـ وإن كان الذي قاله من خيار المسلمين وأعلمهم ـ وهو مـأجــور فيه على اجتهاده، لكنهم لا يُعارضون قول الله وقول رسوله بشيء أصلاً: لا نقل نُقل عن غيره، ولا رأي رآه غيره.

ومن سواه من أهل العلم فإنما هم وسائط في التبليغ عنه: إما للفظ حديثه، وإما لمعناه، فقوم بلغوا ما سمعوا منه من قرآن وحديث، وقوم تفقهوا في ذلك وعرفوا معناه، وما تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول)(39).

سادساً: لا عصمة لأحدٍ, بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم-:

قال ابن تيـمـية: (والقاعدة الكلية في هذا ألا نعتقد أن أحداً معصوم بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ)(40).

سابعاً: العصمة لمجموع الأمة:

قال ابن تيمية: (والله (تعالى) قد ضمن العصمة للأمة، فمن تمام العصمة أن يجعل عدداً من العلماء إن أخـطــــأ الواحد منهم في شيء كان الآخر قد أصاب فيه، حتى لا يضيع الحق، ولهذا: لما كان في قــول بـعـضـهــم من الخطأ في مسائل، كبعض المسائل التي أوردها، كان الصواب في قول الآخر، فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلاً)(41).

وقال أيضاً: (..فلهذا لم يجتمع قط أهل الحديث على خلاف قوله في كلمة واحدة، والحق لا يخرج عنهم قط، وكل ما اجتـمـعوا عليه فهو مما جاء به الرسول، وكل من خالفهم من خارجي ورافضي ومعتزلي وجهمي وغـيرهم من أهل البدع، فإنما يُخالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل من خالف مذاهبـهم في الشرائع العملية كان مخالفاً للسنة الثابتة..) (42).

وقال أيضاً في بيان الواجب على المسلم:( ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر لشخص انتصاراً مطلقاً عــامــاً، إلا لــرســـول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا لطائفة انتصاراً مطلقاًعاماً، إلا للصحابة (رضي الله عـنـهـم أجمعين)º فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه ـ دون أصحاب غــيـره ـ حيث داروا، فإذا أجمعوا لم يُجمعوا على خطأ قط، بخلاف أصحاب عالم من العلماء، فإنهم قد يجمعون على خطأ، بل كل قولٍ, قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ، فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مُسلّماً إلى عالم واحدٍ, وأصحابه، ولو كان كذلك لـكـان ذلك الـشـخــص نظيراً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم..)(43).

ثامناً: طاعة الأئمة والولاة في المعروف لا في المعاصي:

قال ابن تيمية: (.. النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومـيـن، الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس، لا بطاعة معدوم ولا مـجـهـول، ولا مــن ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلاً، كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاجتماع والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقاً، بل أمر بطاعتهم في طاعة الله دون معصيته، وهذا يُبيّن أن الأئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة الله لـيـســـوا معصومين..)(44).

وذكــر أيـضـــاً أن أهل السنة: (لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طــاعـته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة، فلا يُجوّزون طاعته في معصية الله وإن كان إمـامــــاً عــادلاً، وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعـوه ـ مثل: أن يأمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الـزكـــاة، والصدق، والعدل، والحج، والجهاد في سبيل الله ـ فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله، والـكــافــــر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله، ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بـها، كما أنه إذا تكلم بحق لم يَجُز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قــالـــه فاسق، فأهل السنة لا يُطيعون ولاة الأمور مطلقاً، إنما يطيعونهم في ضـمـن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كـمــا قال (تعالى): ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم)) [النساء: 59] فأمر بطاعة الله مطلقاً، وأمر بطاعة الرسول لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله: ((مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء: 80]، وجعل طاعة أولي الأمر داخلة في ذلك، فقال: ((وأُولِي الأَمرِ مِنكُم))، ولـم يــذكــر لهم طاعة ثالثة، لأن ولي الأمر لا يُطاع طاعة مطلقة، إنما يُطاع في المعروف)(45).



الهوامش:

(*) طـبــع طـبـعــــة علمية محققة، مراجعة على ثلاثة عشر مصدراً خطيّاً، بالإضافة إلى مراجعته على طــبـعـــة بولاق، وعلى كتاب (منهاج الكرامة) لابن المطهر، المطبوع في إيران عام 1880م، وظهرت هذه الطبعة في تسعة مجلدات كبار، خصص التاسع منها للفهارس، ونشرته جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض.

(1) (4/127) و(5/461).

(2) انظر: (4/131) و(8/10).

(3) (1/99). وانظر: (3/484)

(4) انظر: (1/169).

(5) موسى بن جعفر قد يُلحق بالقسم الثالث.

(6) انظر: (2/243،244).

(7) (6/387).

(8) انظر: (1/113،114) و(1/44-46).

(9) انظر: (1/69) و(5/164،165).

(10) (1/69).

(11) (1/74).

(12) (1/106).

(13) (4/104).

(14) (1/481،482).

(15)(1/474).

(16) (2/34).

(17) (2/462) و(5/164).

(18) (1/482) و(5/176).

(19) (5/165).

(20) انظر (1/89،90) و (6/442).

(21) انظر: (3/369-484) و(4/17،18).

(22) (4/16،17).

(23) (1/69).

(24) (2/464-467). وانظر: (4/54،55)

(25) (3/488،489).

(26) (1/100).

(27) (1/121،122).

(28) أخرجه: البخاري (1/91) (2/88 و102،103)، ومسلم (1/376،377).

(29) (1/474-476).

(30) (3/490).

(31) (6/190،191)، وانظر: (4/182).

(32) (6/368).

(33) (1/97).

(34) (3/381).

(35) (6/190).

(36) (1/470،471)، وانظر: (2/396).

(37) (2/410).

(38) (6/417)، وانظر: (6/384).

(39) (5/165،166).

(40) (6/196)، وانظر: (4/310).

(41) (3/408،409).

(42) (5/166،167).

(43) (5/262)، وانظر: (6/409 و461).

(44) (1/115، 116).

(45) (3/387)، وانظر: (1/82 و84،85) .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply