أما بعد. فإن شهادة أن محمدًا رسول الله معناها تجريد لمتابعة له ومقتضى ذلك محبته ومحبته تقتضي أن يكون هواك تبعًا لما جاء به فتقدم طاعته واتباع سنته على رأيك وهواك ويكون حبك له أعظم من حبك لغيره من الخلق فوالله لا تؤمن حتى يكون رسول الله أحب إليك من نفسك ومن ولدك ووالدك والناس أجمعين، ومحبته يجب أن تولد في صدرك الهيبة له والإجلال لشخصه والإجلال لسنته وإلا فقل لي بربك أيحب رسول الله من لا يجلّ سنته ولا يوقر شخصه ولا يحفظ له في صدره المهابة والإجلال، أيحبه من كان هذا شأنه.
كلا والله لقد كان أصحاب رسول الله من شدة محبتهم لسيدنا رسول الله وعظم هيبته في صدورهم لا يجرؤن على رفع أبصارهم في وجهه مهابة وإجلالاً له ولا يجرؤن على سؤاله إلا نادرًا مهابة وإجلالاً له ولذلك كانوا يفرحون ويستبشرون إذا قدم الأعراب على رسول الله لأنهم كانوا أجرأ على سؤاله ولقد أدب الله - عز وجل - عباده مع نبيه ومصطفاه فأمر عباده بتوقير النبي وإجلاله فأمرهم ألا يرفعوا أصواتهم عنده، لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته، أمرهم أن يغضوا أصواتهم عند رسول الله، وأمرهم ألا ينادوه من وراء الحجرات وأمرهم ألا ينادوه باسمه المجرد، بل ينادونه بوصف الرسالة أو النبوة توقيرًا له كل ذلك وغيره من مقتضيات توقيره وإجلاله الذي أمرنا به ربنا - عز وجل -، وكيف لا نجله كيف لا نعظم شخصه ونسجل سنته ونحفظ له هذه المهابة والإجلال في صدورنا وهو أكرم الخلق عند الله - عز وجل - قد خصه بأعظم مكانة وأجل رسالة وأنزل عليه أعظم كتاب وأوحى إليه بأكمل شريعة ثم اختصه بعد ذلك من التكريم بما لم يحظ به مخلوق قبله ولا بعده فعرج به إليه حتى التقى به رسول الله، السبعة الطباق وأدناه ربه إليه وقربه إليه - عز وجل - فوصل سيدنا محمد إلى مكانة لم يصل إليها أحد قط حتى القوى الأمين جبريل - عليه السلام -.
ولذلك كان التابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام المرضيون كانوا إذا ذكر النبي أو ذكرت سنته تغشاهم محبته وتحضرهم محبته هذا الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، هذه المدينة النبوية في عهد التابعين، كان إذا حضر مجلس الحديث حديث رسول الله يتطيب ويتزين، ويحضر مجلس الحديث بأبهى حلة.
وكان إذا ذكر النبي يتغير وجهه وينحني من مهابة رسول الله حتى يصعب ذلك على جلسائه فقيل له يومًا في ذلك، أي أنكر عليه بعض جلسائه هذه الحال فذكر الإمام مالك - رحمه الله - عن حال شيوخه من التابعين أعجب من ذلك في مهابتهم لرسول الله وإجلالهم لذكره فقال الإمام مالك: لو رأيتم ما رأيت ما أنكرتم علىّ ما ترون، لقد رأيت محمد بن المنكدر سيد القراء - وهو شيخ من شيوخ مالك من التابعين - لا نكاد نسأله عن حديث من حديث رسول الله إلا بكى حتى نرحمه، ولقد رأيت جعفر بن محمد - يقول مالك - رحمه الله - وكان كثير الدعابة والتبسم إذا ذُكر النبي يتغير لونه وتذهب عنه دعابته وتبسمه وذلك من إجلاله - رحمه الله - لرسول الله.
يقول مالك ولقد رأيت عبد الرحمن بن القاسم إذا ذُكر النبي عنده اصفر لونه وجف لسانه من هيبة رسول الله.
ولقد رأيت الزهري - والحافظ الزهري من أعظم أئمة المسلمين وأعلمهم بسنة رسول الله إمام عظيم من أئمة الحديث من التابعين وكان من شيوخ مالك - يقول مالك: ولقد رأيت الزهري وإنه لمن أهنأ الناس وأقربهم إذا ذكر رسول الله فكأنه ما عرفك ولا عرفته أي مما تحضره من مهابة رسول الله فكأنه ما عرف الحاضرين عندهم ولا عرفهم ويقول مالك ولقد رأيت عامر بن عبد الله بن الزبير وكان إذا ذُكر عنده رسول الله بكى حتى يرحمه جلساؤه.
هكذا كان سلفكم أيها المؤمنون محبة للنبي وإجلالاً له وإجلالاً لسنته ولحديثه وهذا من عظم تجريدهم المتابعة لرسول الله ومن كمال إيمانهم بنبوته ورسالته.
فيا أيها الناس إذا ذكر سيدنا رسول الله فاستحضروا محبته في نفوسكم وإذا ذُكرت سنته فاستحضروا هيبته في نفوسكم، استحضروا هيبته في صدوركم يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم والله غفور رحيم [الحجرات: 1-5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا فاستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد