نشر الفضيلة في بيان معنى الوسيلة ( 2 – 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 



المبحث الثالث: الوسيلة عند أهل الأهواء:

إن القرآن الكريم لا يشك أحد من المسلمين في بلاغته وبيانه وإعجازه وتواتر نقله، وأنه كلام الله - تعالى- نزل به الروح الأمين على نبينا محمد - صلى الله علي وسلم - ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، ولكن الخلل والخطل حصل في فهمه وتأويل معناه، وتحريف كلمه، ولي عنق دلالاته إلى معان ومقاصد باطلة، قد يكون من أسبابها في بعض الأحيان الاعتقاد قبل الاستدلال، وهذه هي طريقة المبتدعين في التعامل مع آيات رب العالمين، والعوام يأخذون بمثل هذا القول المخالف لقول الله لعموم الجهل، ومن المشتغلين بالعلم من يتأول لهم بأن هذا من التوسل بهم ([1]).

وبرهان ذلك ما يلي:

- يقول القاضي أحمد بن عثمان مطير: \".. وهم إذا توسلوا إلى الله – تعالى- بالأعمال الصالحة، والذوات الصالحة التي هي أفضل من الأعمال الصالحةº فإنما يفعلون ذلك اقتداء برسولهم، أو امتثالاً لأمر ربهم في قوله - عز وجل -: \"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة\" الآية من سورة المائدة([2]).

- يقول الشيخ محمد رشيد رضا: \"وقد حدث في القرون الوسطى التوسل بالأشخاص الأنبياء والصالحين المتقين أي تسميتهم وسائل إلى الله – تعالى-، والإقسام على الله بهم، وطلب قضاء الحاجات ودفع الضر وجلب النفع منهم عند قبورهم، أو في حال البعد عنها، وشاع هذا أو كثر حتى صار كثير من الناس يدعون أصحاب القبور في حاجاتهم مع الله – تعالى-، أو يدعونهم من دون الله... ([3])

- ويقول أبو عبد الله علوي اليمني: \"التوسل هو التوجه إلى الله في الدعاء بجاه النبي أو عبد صالح، مثال: \"اللهم بجاه نبيك - صلى الله عليه وسلم - اغفر لي ذنبي، واستر لي عيبي\" والتوسل جائز بل مستحب بالأنبياء والأولياء وسواء كانوا أحياء أو أموات، وهذا هو مذهب السلف...\" ([4]).

وقوله: \" وهذا هو مذهب السلف\" محض افتراء عليهم لا أثر له لمخالفته للإجماع الذي نقله الإمام ابن كثير - يرحمه الله تعالى - حيث قال بعد نقله عن السلف تفسير (الوسيلة) بالقربة والتقرب إلى الله - تعالى – بطاعته، والعمل بما يرضيه قال: \"وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه\" وقال الشيخ محمد رشيد رضا: \"ولم يؤثر عن صحابي ولا تابعي، ولا أحد من علماء السلف أو عامتهم أن الوسيلة إلى الله – تعالى- تبتغي بغير ما شرعه الله للناس من الإيمان والعمل، ومنه الدعاء إلا كلمة رويت عن الإمام مالك لم تصح عنه بل صح عنه ما ينافيها\"([5]).

- وقال الإمام السيد محمود الألوسي: \".. واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين، وجعلهم وسيلة بين الله – تعالى- وبين العباد، والقسم على الله – تعالى- بهم بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا، ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله – تعالى- الصالحين: يا فلان ادع الله – تعالى- ليرزقني كذا وكذا، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور\" أو \"فاستغيثوا بأهل القبور\"، وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل، وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق، وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حياً، وأما إذا كان المطلوب منه ميتاً أو غائباً فلا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف\"([6]).

- وقال زين العابدين العلوي الحسيني: \"التوسل بأحباب الله هو جعلهم واسطة إلى الله – تعالى- في قضاء الحوائج لما ثبت لهم عنده – تعالى- من القدر والجاه، مع العلم بأنهم عبيد ومخلوقون لله، ولكن الله قد جعلهم مظاهر لكل خير وبركة ومفاتيح لكل رحمة... ([7]) ثم قال في ص 54: \"وأما أدلة الكتاب عليه فقوله تعالى: \"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة\" فهذا أمر من الله – تعالى- بابتغاء الوسيلة، وهي كل ما جعله الله سبباً للزلفى عنده، ووصلة إلى قضاء الحوائج منه\".

- يقول العلامة الشنقيطي: \"... وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة اتباع الجهال المدعين للتصوف من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه أنه تخبط في الجهل والعمى مبين، وتلاعب بكتاب الله – تعالى-، واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار كما صرح به – تعالى- في قوله تعالى عنهم: \"ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى\"، وقوله: \"ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون\" فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رضاء الله وجنته ورحمته هي اتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل...\" ([8]).

- وقال الشيخ عبد القادر بن شيبة الحمد: \"والمراد بالوسيلة في قوله تعالى: \"وابتغوا إليه الوسيلة\" هو المعنى الأول والثاني من معاني الوسيلة أي اطلبوا منه - عز وجل –حوائجكم، ولا تطلبوها من غيره، وأديموا التقرب إليه، أما اتخاذ الأشخاص وسائط بين الله - عز وجل - وبين عباده فإنه من سمات المشركين الذين عبدوا غير الله، واتخذوا أولياء وسائط وشفعاء على الله وكفرهم حيث يقول تبارك وتعالى: \"ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار\"([9]).

- وقال محمد علوي المالكي: \"الوسيلة كل ما جعله الله سبباً في الزلفى عنده، ووصلة إلى قضاء الحوائج منه، والمدار فيها على أن يكون للوسيلة قدر وحرمة عند المتوسل إليه\"([10]).

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ تعليقاً على هذا الكلام: \"فقوله: (والمدار فيها...) مجمل يمكن تفسيره على أحد وجهين:

الأول: أن يدخل في ذلك ذوات الأنبياء والصالحين باعتبار أن لهم من المنزلة والزلفى عند الله ما يجل عن الوصف. فإذا كان هذا معيناً فإن الله - سبحانه وتعالى- لم يجعل ذوات الأنبياء والصالحين أو جاههم أو حرمتهم وسيلة إليه، ولا سبباً للزلفى لديه، وإنما جعل الوسيلة إليه هو اتباعهم، وتصديق ما أخبروا به.

الثاني: أن تكون الوسائل من الأعمال ونحوها مشروعة، لم تتبع فيها سبل المبتدعة، وإنما اتبع فيها السنة، وهذا حق...\" ([11]).

أخي القارئ: لعلك تتعجب من خلط هؤلاء واضطرابهم، ولبسهم الحق بالباطل في تفسير معنى (الوسيلة) وحتى يزول هذا العجب اعرف السبب في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: \"فإن كثيراً من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب\"([12]).

المبحث الرابع: نتائج هامة:

وفي آخر هذا البحث المتواضع نحب أن نتحف القارئ الكريم بعناوين سريعة هي نتيجة هذا البحث وخلاصته وهي كالآتي:

1- الوسيلة كالوصيلة: وفَعَلَ وَسَلَ قريب من فَعَلَ وَصَلَ.

2- طلب الوسيلة يكون بالعبادات والطاعات، وأصل الوسيلة الطريق التي تقرب إلى الشيء وتوصل إليه وهي العمل الصالح بإجماع العلماء.

3- ما يزعمه كثير من المتصوفة من أن الوسيلة في الآية هي أن تجعل الشيخ بينك وبين الله واسطة تخبط في الجهل والعمى وضلال مبين، وتلاعب بكتاب الله.

4- مجامع التكليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما: ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله: \"اتقوا الله\"، والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات وإليه الإشارة بقوله: \"وابتغوا إليه الوسيلة\".

5- لم يؤثر عن صحابي ولا تابعي ولا أحد من علماء السلف أو عامتهم أن الوسيلة إلى الله تعالى تبتغي بغير ما شرعه الله للناس من الإيمان والعمل ومنه الدعاء.

6- من أسباب قبول الاعتقادات الباطلة لدى العوام عموم الجهل، وتأويل بعض المشتغلين بالعلم للنصوص.

7- كون شخص غيرك- ولو كان صالحاً- يكون وسيلة وقرب لك إلى الله - تعالى - وإن لم يدع لك؟ هذا شيء لا يدل عليه كتاب ولا سنة ولا عقل.

8- استدلال بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين، وجعلهم وسيلة، والقسم على الله بهم كل هذا بعيد عن الحق بمراحل.

9- في تفسيراتهم للتوسل أنه التوجه إلى الله في الدعاء بجاه النبي، أو عبد صالح، وأن هذا هو مذهب السلف على حد قولهم.

10- التوسل بالذوات الصالحة أفضل من التوسل بالأعمال الصالحة على حد زعمهم.

11- سبب اضطراب أهل الخرافة في هذا الباب هو الإجمال والاشتراك في لفظ الوسيلة.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين!!

والحمد لله رب العالمين،،،

________________________________

[1] - تفسير المنار (6/371).

[2] - صواعق الأدلة والبراهين على مشروعية التوسل إلى الله بالأنبياء والصالحين ص (6).

[3] - تفسير المنار (6/371).

[4] - انتبه دينك في خطر ص (50).

[5] - تفسير المنار (6/371).

[6] - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (3/124-125) باختصار.

[7] - الأجوبة الغالية في عقيدة الفرقة الناجية ص (52).

[8] - أضواء البيان (2/86-88).

[9] - تهذيب التفسير وتجريد التأويل مما ألحق به من الأباطيل ودرئ الأقاويل (4/157-159).

[10] - مفاهيم يجب أن تصحح للمالكي ص (45) نقلاً عن \"هذه مفاهيمنا\".

[11] - هذه مفاهيمنا ص (11-12).

[12] - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص (79).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply