سأل أحد علماء الذميين شيخ الإسلام عن القدر فقال:
أيا علماء الدين ذمي دينكم *** تحير دلوه بأوضح حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم *** و لم يرضه منى فما وجه حيلتي
دعاني و سد الباب عني فهل إلى *** دخولي سبيل بينوا لي قضيتي
قضى بضلالي ثم قال إرض بالقضا *** فما أنا راض بالذي فيه شقوتي
فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا *** فربي لا يرضى بشؤم بليتي
فهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي *** فقد حرت دلوني على كشف حيرتي
إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة *** فهل أنا عاص في إتباع المشيئة
و هل لي إختيار أن أخالف حكمه *** فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي
فأجاب شيخ الإسلام الشيخ الإمام العالم العلامة أحمد بن تيمية مرتجلا:
الحمد الله رب العالمين...
سؤالك يا هذا سؤال معاند *** مخاصم رب العرش بارى البرية
فهذا سؤال خاصم الملأ العلا *** قديما به إبليس أصل البلية
و من يك خصما للمهيمن يرجعن *** على أم رأس هاويا في الحفيرة
ويدعى خصوم الله يوم معادهم *** إلى النار طرا معشر القدرية
سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به *** الله أو ماروا به للشريعة
وأصل ضلال الخلق من كل فرقة *** هو الخوض في فعل الإله بعلة
فإن هموا لم يفهموا حكمة له *** فصاروا على نوع من الجاهلية
فإن جميع الكون أوجب فعله *** مشيئة رب الخلق باري الخليقة
وذات إله الخلق واجبة بما لها *** من صفات واجبات قديمة
مشيئته مع علمه ثم قدرة *** لوازم ذات الله قاضي القضية
وإبداعه ما شاء من مبدعاته *** بها حكمة فيه و أنواع رحمة
ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة *** من المنكري آياته المستقيمة
بل الحق أن الحكم لله و حده *** له الخلق و الأمر الذي في الشريعة
هو الملك المحمود في كل حالة *** له الملك من غير إنتقاص بشركة
فما شاء مولانا إلا له فإنه *** يكون و مالا لا يكون بحيلة
وقدرته لا نقص فيها و حكمه يعم *** فلا تخصيص في ذي القضية أريد
بذا أن الحوادث كلها بقدرته كانت و محض المشيئة
و ما كان في كل ما قد أراده *** له الحمد حمدا يعتلى كل مدحة
فإن له في الخلق رحمته سرت *** و من حكم فوق العقول الحكيمة
أمورا يحار العقل فيها إذا أرى *** من الحكم العليا و كل عجيبة
فنؤمن أن الله عز بقدرة *** و خلق و إبرام لحكم المشيئة
فنثبت هذا كله لا لهنا *** و نثبت ما في ذاك من كل حكمة
وهذا مقام طالما عجز الأولى *** نفوه و كروا راجعين بحيرة
وتحقيق ما فيه بتبيين غوره *** و تحرير حق الحق في ذي الحقيقة
هو المطلب الأقصى لوارد بحره *** و ذا عسر في نظم هذى القصيدة
لحاجته إلى بيان محقق *** لأوصاف مولانا الإله الكريمة
وأسمائه الحسنى و أحكام دينه *** و أفعاله في كل هذي الخليقة
وهذا بحمد الله قد بان ظاهرا *** و إلهامه للخلق أفضل نعمة
وقد قيل في هذا و خط كتابه *** بيان شفاء للنفوس السقيمة
فقولك لم قد شاء مثل سؤال *** من يقول فلم قد كان في الأزلية
وذاك سؤال يبطل العقل وجهه *** و تحريمه قد جاء في كل شرعة
و في الكون تخصيص كثير يدل *** من له نوع عقل أنه بإرادة
وإصداره عن و احد بعد و احد *** أو القول بالتجويز رمية حيرة
و لا ريب في تعليق كل مسبب *** بما قبله من علة موجبية
بل الشأن في الأسباب أسباب ما ترى *** و إصدارها عن حكم محض المشيئة
وقولك لم شاء الإله هو الذي *** أزل عقول الخلق في قعر حفرة
فإن المجوس القائلين بخالق *** لنفع و رب مبدع للمضرة
سؤالهم عن علة السر أوقعت *** أوائلهم في شبهة الثنوية
و أن ملاحيد الفلاسفة الأولى *** يقولون بالفعل القديم لعلة
بغوا علة للكون بعد إنعدامه *** فلم يجدوا ذاكم فضلوا بضلة
وأن مبادي الشر في كل أمة *** ذوي ملة ميمونة نبوية
بخوضهمو في ذاكم صار شركهم *** جاء دروس البينات بفترة
ويكفيك نقضا أن ما قد سألته *** من العذر مردود لدى كل فطرة
فأنت تعيب الطاعنين جميعهم *** عليك و ترميهم بكل مذمة
وتنحل من والاك صفو مودة *** و تبغض من ناواك من كل فرقة
وحالهم في كل قول و فعلة *** كحالك يا هذا بأرجح حجة
وهبك كففت اللوم عن كل كافر *** و كل غوي خارج عن محجة
فيلزمك الإعراض عن كل ظالم *** على الناس في نفس مال وحرمة
و لا تغضبن يوما على سافك دما *** و لا سارق مالا لصاحب فاقة
ولا شاتم عرضا مصونا و إن علا *** و لا ناكح فرجا على وجه غية
ولا قاطع للناس نهج سبيلهم *** و لا مفسد في الأرض في كل و جهة
ولا شاهد بالزور إفكا و فرية *** و لا قاذف للمحصنات بزنية
ولا مهلك للحرث و النسل عامدا *** و لا حاكم للعالمين برشوة
وكف لسان اللوم عن كل مفسد *** و لا تأخدن ذا جرمة بعقوبة
و سهل سبيل الكاذبين تعمدا *** على ربهم من كل جاء بفرية
وإن قصدوا إضلاك من يستجيبهم *** بروم فساد النوع ثم الرياسة
و جادل عن الملعون فرعون إذ طغى *** فأغرق في أليم إنتقاما بغضبة
وكل كفور مشرك بإلهه *** و آخر طاغ كافر بنبوة
كعاد و نمروذ و قوم لصالح *** و قوم لنوح ثم أصحاب الأئكة
وخاصم لموسى ثم سائر من أتى *** من الأنبياء محييا للشريعة
على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا *** و نالوا من المعاصي بليغ العقوبة
و إلا فكل الخلق في كل لفظة *** و لحظة عين أو تحرك شعرة
وبطشة كف أو تخطى قديمة *** و كل حراك بل و كل سكينة
همو تحت أقدار الإله و حكمه *** كما أنت فيما قد أتيت بحجة
وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل *** فعال ردى طردا لهذي المقيسة
فهل يمكن رفع الملام جميعه *** عن الناس طرا عند كل قبيحة
و ترك عقوبات الذين قد إعتدوا *** و ترك الورى الإنصاف بين الرعية
فلا تضمنن نفس و مال بمثله *** و لا يعقبن عاد بمثل الجريمة
و هل في عقول الناس أو في طباعهم *** قبول لقول النذل ما وجه حيلتي
و يكفيك ما بجسم نقضا بن آدم *** صبي و مجنون و كل بهيمة
من الألم المقضي في غير حيلة *** و فيما يشاء الله أكمل حكمة
إذا كان في هذا له حكمة *** فما يظن بخلق الفعل ثم العقوبة
وكيف و من هذا عذاب مولد *** عن الفعل فعل العبد عند الطبيعة
كآكل سم أوجب الموت أكله *** وكل بتقدير لرب البرية
فكفرك يا هذا كسم أكلته *** و تعذيب نار مثل جرعة غصة
ألست ترى في هذا الدار من جنى *** يعاقب إما بالقضا أو بشرعة
ولا عذر للجاني بتقدير خالق *** كذلك في الأخرى بلا مثنوية
و تقدير رب الخلق للذنب موجب *** لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبة
و ما كان من جنس المتاب لرفعه *** عواقب أفعال العباد الخبيثة
كخير به تمحى الذنوب و دعوة *** تجاب من الجاني و رب شفاعة
وقول حليف الشر إني مقدر علي *** كقول الذئب هذي طبيعتي
وتقديره للفعل يجلب نقمة *** كتقديره الأشياء طرا بعلة
فهل ينفعن عذر الملوم بأنه *** كذا طبعه أم هل يقال لعثرة
أم الذم و التعذيب أوكد للذي *** طبيعته فعل الشرور الشنيعة
فإن كنت ترجوا أن تجاب بما عسى *** ينجيك من نار الإله العظيمة
فدونك رب الخلق فاقصده ضارعا *** مريدا لأن يهديك نحو الحقيقة
و ذلل قياد النفس للحق و اسمعن *** و لا تعرضن عن فكرة مستقيمة
و ما بان من حق فلا تتركنه *** و لا تعص من يدعو لأقوم شرعة
ودع دين ذا العادات لا تتبعنه *** و عج عن سبيل الأمة الغضبية
و من ضل عن حق فلا تقفونه *** و زن ما عليه الناس بالمعدلية
هنالك تبدو طالعات من الهدى *** تبشر من قد جاء بالحنيفية
بملة إبراهيم ذاك إمامنا *** و دين رسول الله خير البرية
فلا يقبل الرحمن دينا سوى الذي *** به جاءت الرسل الكرام السجية
وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي *** حوى كل خير في عموم الرسالة
وأخبر عن رب العباد بأن من غدا *** عنه في الأخرى بأقبح خيبة
فهذي دلالات العباد لحائر *** و أما هداه فهو فعل الربوبة
و فقد الهدى عند الورى لا يفيد من غدا *** عنه بل يجزى بلا وجه حجة
و حجة محتج بتقدير ربه *** تزيد عذابا كإحتجاج مريضة
و أما رضانا بالقضاء فإنما *** أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة
كسقم و فقر ثم ذل و غربة *** و ما كان من مؤذ بدون جريمة
فأما الأفاعيل التي كرهت لنا *** فلا ترتضى مسخوطة لمشيئة
وقد قال قوم من أولى العلم لا رضا *** بفعل المعاصي و الذنوب الكبيرة
وقال فريق نرتضي بقضائه *** ولا نرتضي المقضي أقبح خصلة
وقال فريق نرتضي بإضافة *** إليه و ما فينا فنلقى بسخطة
كما أنها للرب خلق و أنها *** لمخلوقة ليست كفعل الغريزة
فنرضى من الوجه الذي هو خلقه *** ونسخط من وجه إكتساب الخطيئة
ومعصية العبد المكلف تركه *** لما أمر المولى و إن بمشيئة
فإن إله الخلق حق مقاله *** بأن العباد في جحيم و جنة
كما أنهم في هذه الدار هكذا *** بل البهم في الآلام أيضا و نعمة
وحكمته العليا إقتضت ما إقتضت *** من الفروق بعلم ثم أيد و رحمة
يسوق أولى التعذيب بالسبب *** الذي يقدره نحو العذاب بعزة
و يهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم *** بأعمال صدق في رجاء و خشية
وأمر إله الخلق بين ما به *** يسوق أولى التنعيم نحو السعادة
فمن كان من أهل السعادة أثرت *** أوامره فيه بتيسير صنعة
ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل *** بأمر و لا نهي بتقدير شقوة
ولا مخرج للعبد عما به قضى *** ولكنه مختار حسن و سوأة
فليس بمجبور عديم الإرادة *** و لكنه شاء بخلق الإرادة
و من أعجب الأشياء خلق مشيئة *** بها صار مختار الهدى بالضلالة
فقولك هل إختار تركا لحكمة *** كقولك هل إختار ترك المشيئة
وإختار أن لا إختار فعل ضلالة *** و لو نلت هذا الترك فزت بتوبة
وذا ممكن لكنه متوقف على *** ما يشاء الله من ذي المشيئة