القصيدة التائية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

سأل أحد علماء الذميين شيخ الإسلام عن القدر فقال:




أيا علماء الدين ذمي دينكم *** تحير دلوه بأوضح حجة



إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم *** و لم يرضه منى فما وجه حيلتي



دعاني و سد الباب عني فهل إلى *** دخولي سبيل بينوا لي قضيتي



قضى بضلالي ثم قال إرض بالقضا *** فما أنا راض بالذي فيه شقوتي



فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا *** فربي لا يرضى بشؤم بليتي



فهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي *** فقد حرت دلوني على كشف حيرتي



إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة *** فهل أنا عاص في إتباع المشيئة



و هل لي إختيار أن أخالف حكمه *** فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي





فأجاب شيخ الإسلام الشيخ الإمام العالم العلامة أحمد بن تيمية مرتجلا:



الحمد الله رب العالمين...



سؤالك يا هذا سؤال معاند *** مخاصم رب العرش بارى البرية



فهذا سؤال خاصم الملأ العلا *** قديما به إبليس أصل البلية



و من يك خصما للمهيمن يرجعن *** على أم رأس هاويا في الحفيرة



ويدعى خصوم الله يوم معادهم *** إلى النار طرا معشر القدرية



سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به *** الله أو ماروا به للشريعة



وأصل ضلال الخلق من كل فرقة *** هو الخوض في فعل الإله بعلة



فإن هموا لم يفهموا حكمة له *** فصاروا على نوع من الجاهلية



فإن جميع الكون أوجب فعله *** مشيئة رب الخلق باري الخليقة



وذات إله الخلق واجبة بما لها *** من صفات واجبات قديمة



مشيئته مع علمه ثم قدرة *** لوازم ذات الله قاضي القضية



وإبداعه ما شاء من مبدعاته *** بها حكمة فيه و أنواع رحمة



ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة *** من المنكري آياته المستقيمة



بل الحق أن الحكم لله و حده *** له الخلق و الأمر الذي في الشريعة



هو الملك المحمود في كل حالة *** له الملك من غير إنتقاص بشركة



فما شاء مولانا إلا له فإنه *** يكون و مالا لا يكون بحيلة



وقدرته لا نقص فيها و حكمه يعم *** فلا تخصيص في ذي القضية أريد



بذا أن الحوادث كلها بقدرته كانت و محض المشيئة



و ما كان في كل ما قد أراده *** له الحمد حمدا يعتلى كل مدحة



فإن له في الخلق رحمته سرت *** و من حكم فوق العقول الحكيمة



أمورا يحار العقل فيها إذا أرى *** من الحكم العليا و كل عجيبة



فنؤمن أن الله عز بقدرة *** و خلق و إبرام لحكم المشيئة



فنثبت هذا كله لا لهنا *** و نثبت ما في ذاك من كل حكمة



وهذا مقام طالما عجز الأولى *** نفوه و كروا راجعين بحيرة



وتحقيق ما فيه بتبيين غوره *** و تحرير حق الحق في ذي الحقيقة



هو المطلب الأقصى لوارد بحره *** و ذا عسر في نظم هذى القصيدة



لحاجته إلى بيان محقق *** لأوصاف مولانا الإله الكريمة



وأسمائه الحسنى و أحكام دينه *** و أفعاله في كل هذي الخليقة



وهذا بحمد الله قد بان ظاهرا *** و إلهامه للخلق أفضل نعمة



وقد قيل في هذا و خط كتابه *** بيان شفاء للنفوس السقيمة



فقولك لم قد شاء مثل سؤال *** من يقول فلم قد كان في الأزلية



وذاك سؤال يبطل العقل وجهه *** و تحريمه قد جاء في كل شرعة



و في الكون تخصيص كثير يدل *** من له نوع عقل أنه بإرادة



وإصداره عن و احد بعد و احد *** أو القول بالتجويز رمية حيرة



و لا ريب في تعليق كل مسبب *** بما قبله من علة موجبية



بل الشأن في الأسباب أسباب ما ترى *** و إصدارها عن حكم محض المشيئة



وقولك لم شاء الإله هو الذي *** أزل عقول الخلق في قعر حفرة



فإن المجوس القائلين بخالق *** لنفع و رب مبدع للمضرة



سؤالهم عن علة السر أوقعت *** أوائلهم في شبهة الثنوية



و أن ملاحيد الفلاسفة الأولى *** يقولون بالفعل القديم لعلة



بغوا علة للكون بعد إنعدامه *** فلم يجدوا ذاكم فضلوا بضلة



وأن مبادي الشر في كل أمة *** ذوي ملة ميمونة نبوية



بخوضهمو في ذاكم صار شركهم *** جاء دروس البينات بفترة



ويكفيك نقضا أن ما قد سألته *** من العذر مردود لدى كل فطرة



فأنت تعيب الطاعنين جميعهم *** عليك و ترميهم بكل مذمة



وتنحل من والاك صفو مودة *** و تبغض من ناواك من كل فرقة



وحالهم في كل قول و فعلة *** كحالك يا هذا بأرجح حجة



وهبك كففت اللوم عن كل كافر *** و كل غوي خارج عن محجة



فيلزمك الإعراض عن كل ظالم *** على الناس في نفس مال وحرمة



و لا تغضبن يوما على سافك دما *** و لا سارق مالا لصاحب فاقة



ولا شاتم عرضا مصونا و إن علا *** و لا ناكح فرجا على وجه غية



ولا قاطع للناس نهج سبيلهم *** و لا مفسد في الأرض في كل و جهة



ولا شاهد بالزور إفكا و فرية *** و لا قاذف للمحصنات بزنية



ولا مهلك للحرث و النسل عامدا *** و لا حاكم للعالمين برشوة



وكف لسان اللوم عن كل مفسد *** و لا تأخدن ذا جرمة بعقوبة



و سهل سبيل الكاذبين تعمدا *** على ربهم من كل جاء بفرية



وإن قصدوا إضلاك من يستجيبهم *** بروم فساد النوع ثم الرياسة



و جادل عن الملعون فرعون إذ طغى *** فأغرق في أليم إنتقاما بغضبة



وكل كفور مشرك بإلهه *** و آخر طاغ كافر بنبوة



كعاد و نمروذ و قوم لصالح *** و قوم لنوح ثم أصحاب الأئكة



وخاصم لموسى ثم سائر من أتى *** من الأنبياء محييا للشريعة



على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا *** و نالوا من المعاصي بليغ العقوبة



و إلا فكل الخلق في كل لفظة *** و لحظة عين أو تحرك شعرة



وبطشة كف أو تخطى قديمة *** و كل حراك بل و كل سكينة



همو تحت أقدار الإله و حكمه *** كما أنت فيما قد أتيت بحجة



وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل *** فعال ردى طردا لهذي المقيسة



فهل يمكن رفع الملام جميعه *** عن الناس طرا عند كل قبيحة



و ترك عقوبات الذين قد إعتدوا *** و ترك الورى الإنصاف بين الرعية



فلا تضمنن نفس و مال بمثله *** و لا يعقبن عاد بمثل الجريمة



و هل في عقول الناس أو في طباعهم *** قبول لقول النذل ما وجه حيلتي



و يكفيك ما بجسم نقضا بن آدم *** صبي و مجنون و كل بهيمة



من الألم المقضي في غير حيلة *** و فيما يشاء الله أكمل حكمة



إذا كان في هذا له حكمة *** فما يظن بخلق الفعل ثم العقوبة



وكيف و من هذا عذاب مولد *** عن الفعل فعل العبد عند الطبيعة



كآكل سم أوجب الموت أكله *** وكل بتقدير لرب البرية



فكفرك يا هذا كسم أكلته *** و تعذيب نار مثل جرعة غصة



ألست ترى في هذا الدار من جنى *** يعاقب إما بالقضا أو بشرعة



ولا عذر للجاني بتقدير خالق *** كذلك في الأخرى بلا مثنوية



و تقدير رب الخلق للذنب موجب *** لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبة



و ما كان من جنس المتاب لرفعه *** عواقب أفعال العباد الخبيثة



كخير به تمحى الذنوب و دعوة *** تجاب من الجاني و رب شفاعة



وقول حليف الشر إني مقدر علي *** كقول الذئب هذي طبيعتي



وتقديره للفعل يجلب نقمة *** كتقديره الأشياء طرا بعلة



فهل ينفعن عذر الملوم بأنه *** كذا طبعه أم هل يقال لعثرة



أم الذم و التعذيب أوكد للذي *** طبيعته فعل الشرور الشنيعة



فإن كنت ترجوا أن تجاب بما عسى *** ينجيك من نار الإله العظيمة



فدونك رب الخلق فاقصده ضارعا *** مريدا لأن يهديك نحو الحقيقة



و ذلل قياد النفس للحق و اسمعن *** و لا تعرضن عن فكرة مستقيمة



و ما بان من حق فلا تتركنه *** و لا تعص من يدعو لأقوم شرعة



ودع دين ذا العادات لا تتبعنه *** و عج عن سبيل الأمة الغضبية



و من ضل عن حق فلا تقفونه *** و زن ما عليه الناس بالمعدلية



هنالك تبدو طالعات من الهدى *** تبشر من قد جاء بالحنيفية



بملة إبراهيم ذاك إمامنا *** و دين رسول الله خير البرية



فلا يقبل الرحمن دينا سوى الذي *** به جاءت الرسل الكرام السجية



وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي *** حوى كل خير في عموم الرسالة



وأخبر عن رب العباد بأن من غدا *** عنه في الأخرى بأقبح خيبة



فهذي دلالات العباد لحائر *** و أما هداه فهو فعل الربوبة



و فقد الهدى عند الورى لا يفيد من غدا *** عنه بل يجزى بلا وجه حجة



و حجة محتج بتقدير ربه *** تزيد عذابا كإحتجاج مريضة



و أما رضانا بالقضاء فإنما *** أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة



كسقم و فقر ثم ذل و غربة *** و ما كان من مؤذ بدون جريمة



فأما الأفاعيل التي كرهت لنا *** فلا ترتضى مسخوطة لمشيئة



وقد قال قوم من أولى العلم لا رضا *** بفعل المعاصي و الذنوب الكبيرة



وقال فريق نرتضي بقضائه *** ولا نرتضي المقضي أقبح خصلة



وقال فريق نرتضي بإضافة *** إليه و ما فينا فنلقى بسخطة



كما أنها للرب خلق و أنها *** لمخلوقة ليست كفعل الغريزة



فنرضى من الوجه الذي هو خلقه *** ونسخط من وجه إكتساب الخطيئة



ومعصية العبد المكلف تركه *** لما أمر المولى و إن بمشيئة



فإن إله الخلق حق مقاله *** بأن العباد في جحيم و جنة



كما أنهم في هذه الدار هكذا *** بل البهم في الآلام أيضا و نعمة



وحكمته العليا إقتضت ما إقتضت *** من الفروق بعلم ثم أيد و رحمة



يسوق أولى التعذيب بالسبب *** الذي يقدره نحو العذاب بعزة



و يهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم *** بأعمال صدق في رجاء و خشية



وأمر إله الخلق بين ما به *** يسوق أولى التنعيم نحو السعادة



فمن كان من أهل السعادة أثرت *** أوامره فيه بتيسير صنعة



ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل *** بأمر و لا نهي بتقدير شقوة



ولا مخرج للعبد عما به قضى *** ولكنه مختار حسن و سوأة



فليس بمجبور عديم الإرادة *** و لكنه شاء بخلق الإرادة



و من أعجب الأشياء خلق مشيئة *** بها صار مختار الهدى بالضلالة



فقولك هل إختار تركا لحكمة *** كقولك هل إختار ترك المشيئة



وإختار أن لا إختار فعل ضلالة *** و لو نلت هذا الترك فزت بتوبة



وذا ممكن لكنه متوقف على *** ما يشاء الله من ذي المشيئة

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply