بسم الله الرحمن الرحيم
الأمور التي عصم منها الأنبياء:-
(أ) الكفر: فالرسل بلا شك أنهم معصومون من الوقوع في الكفر والشرك، وقد نقل الجرجاني إجماع الأمة على عصمة الأنبياء من الكفر والشرك قبل النبوة وبعدهاº حيث قال: \"وأما الكفر فأجمعت الأمة على عصمتهم منه قبل النبوة وبعدها، ولا خلاف لأحد منهم في ذلك[1] \"، وقال الرازي:\" واجتمعت الأمة على أن الأنبياء معصومون من الكفر والبدعة[2] \"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:\" ففي الجملة كل ما يقدح في نبوتهم وتبليغهم عن الله - تعالى - فهم متفقون على تنزيههم عنه[3] \"، ولا شك أن الكفر من أعظم القوادح في نبوة الأنبياء، بل هو أصل القوادح، وقال الآمدي: \" فما كان منها كفراً فلا نعرف خلافاً بين أهل الشرائع في عصمتهم عنه[4] \".
ولم يخالف في هذا الإجماع إلا من لا يعتد بخلافهم، وهم أربع طوائف هي:-
1- الأزارقة: فرقة من فرق الخوارج، وقد نقل عنهم أنهم قالوا: بجواز بعثة نبي علم الله أنه يكفر بعد نبوته. (انظر الإحكام في أصول الأحكام 1/128)، والمواقف للاريجي 358-359.
2- الفضيلية: وهم من فرق الخوارج أيضاً، ويقولون بجواز الكفر على الأنبياء من جهة كونهم يعتقدون جواز صدور الذنوب عن الأنبياء، وكل ذنب هو كفر على حسب اعتقادهم، فمن هذا الباب جوزوا صدور الكفر عنهم.(انظر عصمة الأنبياء للرازي ص 18)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/128.
3- الرافضـة: فقد جوزوا على الأنبياء إظهار الكفر على سبيل التقية عند خوف الهلاك، بل نقل عنهم أنهم أوجبوه، وعللوا ذلك بأنه إذا كان إظهار الإسلام يؤدي إلى القتل كان إلقاء النفس في التهلكة وهو حرام لقوله تعالى: (( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكـة[5] ))، وإذا صار إظهار الإسلام حراماً كان إظهار الكفر واجباً. انظر عصمة الأنبياء للرازي ص 18.
4- ذكـر ابن حزم في كتابه الفصل 4/102 أنه رأى في كتاب أبي جعفر السمناني قاضي الموصل صاحب الباقلاني أنه كان يقول: كل ذنب دق أو جل فإنه جائز على الرسل، حاشا الكذب في التبليغ فقط. قال: (وجائز عليهم أن يكفروا).
وكيف يقع الأنبياء في الكفر والمعلوم من سيرتهم أنهم كانوا حرباً على الكفر والشرك على اختلاف صوره وأشكاله وألونه، فلم يدعوا طريقاً أو سبيلاً لهـدم الشرك والكفر إلا سلكوه مستخدمين في ذلك كل طاقاتهم وجهودهم.
فقد نزه الله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من كل ضلال وغواية وكفر، ونفى ذلك عنه قال تعالى: (( ما ضل صاحبكم وما غوى[6] ))، فهذه شهادة للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه راشد تابع للحق ليس بضال ولا غاوٍ,، بل هو في غاية من الاستقامة والاعتدال والسداد والهداية، أما قوله تعالى: (( ووجدك ضالاً فهـدى ))، ومثله (( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان[7] ))، وقوله: (( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبل لمن الغافلين[8] ))، وهذه النصوص وغيرها يتوهم بعضهم أنها تدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان في ضلال وكفر قبل النبوة، وأنه كان من الغافلين، والغفلة تشمل الغفلة عن الإيمان – زعموا -.
والجواب على هذه النصوص والتوجيه الذي يرفع عنها هذا الوهم أن نقول: أن قوله تعالى ((ولا الإيمان)) أي ما يجب الإيمان به من الفرائض والأحكام الشرعية التفصيلية، فالمنفي هو الإيمان التفصيلي لا الإجمالي: وهذا هو ما ذكره علماء التفسير، قال ابن كثير: ((ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان)) أي على التفصيل الذي شرع لك في القرآن[9] ، وقال الشوكاني: ومعنى الإيمان أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف تفاصيل الشرائع، ولا يهتدي إلى معالمها، وخص الإيمان لأنه رأسها وأساسها[10] ، وأما قوله ((ووجدك ضالاً فهدى))الضحى [7]º فقد قال القرطبي في تفسيره: فأما الشرك فلا يظن به[11]، والمعنى الصحيح لهذه الآية تحمل على عدة وجوه تدل جميعها على تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يقع في الشرك أو الكفر قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - وبعدها من باب الأولى، ومن هذه الوجوه:
1. أن يكون الضلال هنا بمعنى الغفلة كما في قوله تعالى (( لا يضل ربي ولا ينسى[12])) ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: ((وإن كنت من قبله لمن الغافلين[13])) فيكون المعنى ووجدك غافلاً عما يراد بك في أمر النبوة[14].
2. وقال بعضهم أن معنى ((ضالاً)) لم تدرِ ما القرآن والشرائع؟ أي وجدك ضالاً عن شريعتك التي أوحاها إليك لا تعرف قبل الوحي فهداك إليهـا[15].
3. وقال بعضهم معنى الآيـة أي وجدك الله في قوم ضُلال فهداهم الله بك[16].
4. وقيل الضلال بمعنى الطلب أي وجدك طالباً للقبلة فهداك إليهـا كما في قوله تعالى ((قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها[17]))
وأما قوله تعالى: ((وإن كنت من قبله لمن الغافلين )) فليس المقصود الغفلة عن الإيمان والوقوع في الشرك، وإنما المقصود الغفلة عن قصة يوسف مع أبيه وإخوته كما يدل السياق على ذلك، وهذه القصة وأمثلها لا تعلم إلا من الوحي، وبهذا لا يلحقه نقص بسبب هذه الغفلة، كما قال القرطبي: أي من الغافلين عما عرفناكه [18]، وقال الشوكاني: (والمعنى أنك من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عن هذه القصة[19]).
ومن تلك النصوص المشكلـة أيضاً في هذا الباب ما رواه عثمان بن أبي شيبة بسنده عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين من خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: (اذهب بنا حتى نقوم خلفه، فقال الآخر: كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام الأصنام!! فلم يعد بعد ذلك يشهد مع المشركين مشاهدهم[20]).
والجـواب على هذا الحديث من وجـوه:
أولاً: هذا الحديث من حيث السند ضعيف، فقد قال الدار قطني:\" يقال أن عثمان ابن أبي شيبة وهم في إسناده، وغيره يرويه جرير عن سفيان بن عبد الله بن محمد بن زياد بن جدير مرسلاً وهو الصواب[21] \" ويتلخص من كلامه أنه ذكر علتين: الأولى: أن الحديث مرسل، وليس متصلاً.
الثانيـة: جعله لسفيان الثوري مكان سفيان بن عبد الله وهذا وهم في السند، فسفيان بن عبد الله مجهول، وأما سفيان الثوري فهو ثقة، وفي السند أيضاً عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف عند القوم[22].
ثانياً: هذا الحديث أيضاً ضعيف متناً حيث أنه يخالف ما عرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأدلة صحيحة صريحة من أنه لم يكن على شيء مما كان عليه أهل مكة من الشرك، وذلك منذ ولادته إلى أن بعثه الله رسولاً إليهم، والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
1- حديث أنس في مسلم حيث جاء فيه: ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حـظ الشيطان منك!! ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده في مكانه..[23]) الحديث.
وهو يدل دلالة صريحة أن جبريل أخرج حظ الشيطان منه - صلى الله عليه وسلم - فلا يقدر الشيطان على إغوائه، فهو منزه عن الشرك منذ صغره - صلى الله عليه وسلم -.
2- وفي حديث زيد بن حارثة - رضي الله عنه - قال: كان صنم من نحاس يقال له\" أساف أو نائلة \" يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تمسه، فقال زيد: فطفت، فقلت في نفسي لأمسـه حتى انظر ما يكون فمسحته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألم تنه؟ قال زيد: فوالذي هو أكرمـه، وأنزل عليه الكتابº ما استلم صنماً حتى أكرمه الله بالذي أكرمه، وأنزل عليه[24].
وهذا نص صريح أيضاً في بعده - صلى الله عليه وسلم - عن الأوثان التي كان عليها المشركين، بل نهيه لزيد يؤكد نفرته - صلى الله عليه وسلم - عن الأوثان والأصنام.
3- وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: حدثتني أم أيمن قالت: كان ببوانة صنم يحضره قريش يوماً في السنة، وكان أبو طالب يحضره مع قومه، وكان يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحضر ذلك العيد مع قومه، فيأبى حتى رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، وجعلن يقلن: يا محمد: ما تريد أن تحضر لقومك عيداً، ولا تكثر لهم جمعاً، فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع إلينا مرعوباً فزعاً، فقلن عماته: ما دهاك؟ قال: (إني أخشى أن يكون بي لمم)، فقلن: ما كان الله يبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت؟ قال: (إني رأيت كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك يا محمد لا تمسه، فما عاد إلى عيد لهم حتى تُنُبئ[25] ).
4. كما عصم - صلى الله عليه وسلم - من الحلف بأسماء تلك الأصنام التي كان يعبدها قومه، ويحلفون بها تعظيماً لها، حيث قال بحيرى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا غلام أسألك باللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسالك عنه؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تسألني باللات والعزى شيئاً، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئاً قـط[26]).
فهذه الأحاديث الصحيحة تعارض ما جاء في حديث جابر الذي فيه قول الملك: (كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام الأصنام)، فإنه حديث ضعيف كما سبق، فلا يقوى لمعارضة ما ذكرنا من الأحاديث الصحيحة.
والنصوص التي تدل على تنزه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأوثان وبعده عنها كثيرة، فقد جمعها من ألَّف في دلائل النبوة مثل: البيهقي، حيث عقد باباً في الدلائل بعنوان: (باب ما جاء في حفظ الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - في شبيبته عن أقذار الجاهلية ومعائبها لما يريد به من كرامته برسالته حتى يبعث رسولاً )، وكذلك الحافظ أبو نعيم عقد أيضاً في كتابه الدلائل فصلاً بعنوان: (ذكر ما خصه الله - عز وجل - به من العصمة، وحماه من التدين بدين الجاهلية...)، وأورد تحت هذا العنوان العديد من الأحاديث والشواهد في هذا الشأن، وكذلك الحافظ السيوطي في الخصائص الكبرى حيث قال: باب اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بحفظ الله إياه في شبابه عما كان عليه أهل الجاهلية) وللبحث بقية.
________________________
[1] - شرح المواقف 134.
[2] - عصمة الأنبياء 18.
[3] - منهاج السنة 1/130.
[4] - الأحكام في (أصول الأحكام) 1/128.
[5] - البقـرة ، الآيـة : 195.
[6] - النجـم ، آيـة : 2.
[7] - الشورى ، آيـة : 52.
[8] - يـوسـف، آية : 3.
[9] - ابن كثير 4/122.
[10] - فتح القدير 4/530.
[11] - تفسير القرطبي 20/99.
[12] - طـه ، الآيـة : 52.
[13] - يوسف ، الآيـة : 3.
[14] - تفسير القرطبي 2/96 ، وفتح القدير 5/458.
[15] تفسير ابن كثير 5/ 523 ، والقرطبي 20 /96-97.
[16] - تفسير القرطبي 20/97 ، فتح القدير 5/458.
[17] - البقرة ، الآيـة: 144.
[18] - تفسير القرطبي 9/120.
[19] - فتح القدير 3/4.
[20] - أخرجه ابن عدي في الكامل 4/447 والخطيب في تاريخ بغداد 11/286 وأبو يعلى الموصلي في مسنده والعقيلي في الضعفاء وابن الجوزي في العلل المتناهية 1/166. والبيهقي في دلائل النبوة 2/35 وأورده الذهبي في الميزان 3/35. وأورده ابن حجر في لسان الميزان 3/53 وأورده ابن كثير في التاريخ 2/288 وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى.
[21] - العلل المتناهية 1/167.
[22] - المصـدر السابق.
[23] - مسلم كتاب الإيمان باب الإسراء برسول الله –صلى الله عليه وسلم- ص1/101-102.
[24] - أخرجه الحاكم في المستدرك 3/216-217 وقال حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة ص 145 وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة 2/34 وأورده ابن كثير في البداية والنهاية 2/288 وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى 1/151-152.
[25] - أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة ص 144 وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى 1/151 وعزاه لابن سعد وأبي نعيم وابن عساكر .
[26] - أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة ص 125-128 وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة 2/26 وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى 1/142 وعزاه للبيهقي .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد