بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله، ثم أما بعد:
إن ما أوردته أناجيل النصارى المحرفة على لسان المسيح - عليه السلام - من كونه ابن الله و أن الله حل فيه أو كون الله هو المسيح إلى غيرها من التهم والخزعبلات، أقول: إن تلك العقائد هي مما ألصق بالسيد المسيح - عليه السلام - و هو منه بريء، لمنافاته لعقيدة التوحيد التي جاء بها كغيره من الرسل، إذ يستحيل أن يصف المسيح نفسه بأوصاف الله - عز وجل - من الأزلية و الأبدية و العلم المطلق بكل شيء والوجود في كل مكان.. إلى غير ذلك من الصفات والأفعال الخاصة بالله - عز وجل -
و لو فرض جدلاً أن شيئاً من هذه الأقوال قد جاء على لسان المسيح - عليه السلام - مما يتضمن وصفه لنفسه بالبنوة والألوهية، فإن بالضرورة ليس بالمعنى الذي يقصده المسيحيون من هذه الألفاظ، فإن هذه الألفاظ قد وردت في الأسفار الكتابية بمعان أخرى ذكرها ابن تيمية في معرض رده على المسيحيين الذين يحتجون على قولهم ببنوة المسيح لله - تعالى - و ألوهيته بما ورد في أناجيلهم من النصل على ذلك.
و كذلك فعل غيره من العلماء في إبطالهم لاستشهادات النصارى على عقيدتهم الباطلة هذه من الكتاب المقدس.
لو فرض ذلك لابد وأن يؤول لفظ البنوة و الألوهية في حق المسيح بما لا يتنافى مع العقيدة الصحيحة في الله والمسيح ككونه دالاً على تكريمه و قربه من الله، أو دالاً على رئاسته الدينية و شرفه و كونه متكلماً باسمه، حاكماً بحكمه، عاملاً بوصاياه.. الخ، لاسيما إذا علمنا أن أسفار العهد القديم كانت تطلق لفظ البنوة على إسرائيل و على داود و غيرهما كما كانت تطلق لفظ الألوهية على موسى - عليه السلام - وعلى غيره من قضاة بني إسرائيل بهده المعاني، بذكر التأويلات الصحيحة لما ورد في الأناجيل من ألفاظ الأبوة والبنوة والألوهية.. الخ، ليست إذاً بنوة المسيح وألوهيته حتى لو فرضت صحة هذه النصوص بنوة و ألوهية حقيقية، بل مجازية يجب أن تؤول نصوصها بما لا يتضمن فساداً في العقيدة، ولا مخالفة للتوحيد، و لتتفق مع النصوص المحكمة في العقيدة.
زد على ذلك على فرض صحة نقله لابد وأن يفهم على ضوء بقية ما تضمنه الكتاب المقدس من خصائص البشرية للمسيح - عليه السلام - .
أما ما أسند إلى المسيح من أفعال الله - عز وجل - فهو نوع من التحريف الذي ألحقه المسيحيون بعقيدتهم التوحيدية الصحيحة، و ما داموا قد انحرفوا و ألهوا المسيح، فمن الطبيعي أن يضيفوا إليه أفعال الألوهية، وإذا كان تأليههم المسيح اعتقاد باطل، فإن إضافتهم إليه أعمال الألوهية يعد أمراً باطلاً هو الآخر، فإن مقتضى استحالة الألوهية في حق المسيح هو استحالة أفعالها في حقه كذلك.
والذي يتمعن فيما يستدلون به هنا من نصوص، يجد أنها لا تتضمن في الحقيقة وصف المسيح لنفسه بالأزلية كما يزعمون بل أقصى ما فيها تقدير الله لنبوته، و تمجيده له في قدره السابق، قبل أن يخلق الخلائق، و هذا أمر وارد في حق كل نبي من الأنبياء.
أما المعجزات: كمعجزة إحياء الموتى، فلم يفعلها المسيح باعتباره إليهاً قادراً على كل شيء، وإنما فعلها بالقدرة التي منحها الله له، و بعد أن تضرع إلى الله الذي أرسله طالباً تأييده، و ليس في هذا ما يدل على ألوهيته و لكنه يدل على نبوته، وتأييد الله له بهذه المعجزات.
أما ما يزعمونه من جلوس المسيح على يمين الرب، لدينونة الخلائق، فذلك أمر باطل، دفعهم إليه غلوهم في حق المسيح، فالله هو مالك يوم الدين، و هو المتفرد بحساب الخلائق في ذلك اليوم. و لو فرض وأن تعميد الناس إنما يكون باسمه مع اسم الله و روح القدس مما تضمنه إنجيل متى فهذا ليس على سبيل المشاركة في الألوهية، و إنما على سبيل البركة باعتباره نبي الله.
و بديهي أن عيسى - عليه السلام - لا يمكن أن يرد على لسانه إقراره لـ (توما) في وصفه له بالألوهية، و هو النبي الداعي إلى التوحيد، و سوف يجيب ربه يوم القيامة إذا سأله عن تأليه الناس له قائلاً: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي و ربكم}[المائدة/117].
و غاية القول: إن ما يستشهد به النصارى على عقيدتهم في المسيح - عليه السلام - إما أن تكون شواهد مكذوبة النسبة إلى المسيح - عليه السلام - أو محرفة في نقلها و ترجمتها، أو تكون متضمنة لألفاظ مؤولة لا ينبغي فهمها إلا في ضوء استعمال الكتب المقدسة لها، و على ضوء بقية النصوص الأخرى التي تتضمن النص على بشرية المسيح - عليه السلام - و غيره من الأنبياء.
و سوف يتضح بجلاء بطلان ما يستشهد به النصارى على عقيدتهم في المسيح بعد أن نعرض فيما يأتي إبطال ابن تيمية و غيره من العلماء لما يستدل به النصارى من أدلة أخرى غير تلك التي أوردناها و أبطلناها في هذا المقام.
يذكر ابن تيمية أن عقيدة اليهود و النصارى في شأن المسيح - عليه السلام - على طرفي نقيض. فاليهود لم يعطوا المسيح حقه الذي منحه الله إياه، فزعموا أن ولد زنا، و أنه كذاب و ساحر، و لم يؤمنوا به.
أما النصارى فقد غالوا في تعظيمه لدرجة تأليهه، فقالوا عنه: إنه الله و ابن الله، بل صار من يقول فيه القول الحق من علمائهم و عبادهم يجمعون لهم مجمعاً و يلعنونهم فيه على وجه التعصب، واتباع الهوى، و الغلو فيمن يعظمونه. الجواب الصحيح (2/88).
و يبطل ابن تيمية عقيدة النصارى هذه في بنوة المسيح لله - تعالى - و ألوهيته، و أدلتهم عليها من جهات متعددة..
فهو يبطلها بإبطال أدلتهم من الكتاب المقدس عندهم -، و كذلك بإبطال استدلالهم عليها في زعمهم بالقرآن الكريم.
تفصيل ذلك: المقصود هنا كما يقول ابن تيمية -: بيان بطلان احتجاج النصارى على أن المسيح هو الله، أو ابن الله، أو أنه كلمة الله الخالقة، و أنه ليس لهم في ظاهر القرآن ولا باطنه حجة كما ليس لهم حجة في سائر كتب الله، و إنما تمسكوا بآيات متشابهات، و تركوا المحكم، كما أخبر الله - تعالى - عنهم بقوله {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله}[آل عمران/7]. والآية -كما يقول ابن تيمية نزلت في النصارى فهم مرادون من الآية قطعاً. الجواب الصحيح (2/304).
يقول ابن تيمية: ثم يقال للنصارى في هذا المقام: أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله إلا بهذه الكتب، ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رسل الله معصومون، ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله، فصار ذلك دوراً ممتنعاً. - والدور هو: توقف الشيء على نفسه، أي يكون هو نفسه عله لنفسه، بواسطة أو بدون واسطة والدور مستحيل بالبداهة العقلية. أنظر: ضوابط المعرفة لعبد الرحمن الميداني (ص333) -. فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب، ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله، ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله، فصار ثبوت الإلهية متوقفاً على ثبوت إلهيته، و ثبوت كونهم رسل الله متوقفاً على كونهم رسل الله، فصار ذلك دوراً ممتنعاً. الجواب الصحيح (1/357).
إبطال ابن تيمية لاستدلالات النصارى على بنوة المسيح وألوهيته بالتوراة ثم بالإنجيل.
أولاً: إبطال أدلتهم من التوراة:
يستشهد النصارى على عقيدتهم ببنوة المسيح لله - تعالى - و أبوة الله له وبالتالي على ألوهية المسيح، ببعض نصوص التوراة التي تتضمن هذه الألفاظ الدالة على تلك العقائد، فقد قالوا: نحن معشر النصارى لم نسم المسيح بهذه الأسماء من ذات أنفسنا، بل الله سماه بها، و ذلك أنه قال على لسان موسى النبي في التوراة مخاطباً بني إسرائيل: أليس هو أباك و مقتنيك، هو عملك وأنشأك. سفر التثنية (32: 6). أي أن اسم الأب أو كلمة الأب قد استعملت في التوراة بالنسبة لله - عز وجل -، فلم يكونوا في نظر أنفسهم هم المبتدعين لتلك الكلمة في حق الله - عز وجل -، ولا ما تستتبعه تلك الكلمة من النبوة بالنسبة للمسيح.
و قد أجاب ابن تيمية على ذلك بقوله: إن في هذا الكلام أنه سماه أباً لغير المسيح - عليه السلام - و هذا نظير قوله لإسرائيل: أنت ابني بكري - سفر الخروج (4: 22 و 23) - و لداود: ابني و حبيبي مزمور (89: 26. 27) و قل المسيح: أبي وأبيكم يوحنا (20: 17) -، و هم يسلّمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب، لا بمعنى التولد الذي يخصون به المسيح.
ثم إن هذا الدليل الذي يستدلون به على بنوة المسيح لله - تعالى - و ألوهيته هو حجة عليهم، فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته أباً لغير المسيح، و ليس المراد بذلك إلا معنى الرب، علم أن هذا اللفظ في لغة الكتب يراد به الرب، فيجب حمله ف يحق المسيح على هذا المعنى، لأن الأصل عدم الاشتراك في الكلام، وأن استعماله في المعنى الذي خصو به المسيح إنما يثبت إذا علم أنه أريد به المعنى الذي ادعوه في المسيح، فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب لزم الدور، فإنه يعلم أنه أريد به ذلك المعنى، من حيث يثبت أنه كان يراد به في حق الله هذا المعنى، ولا يثبت ذلك حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح، فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر لم يعلم واحد منهما، فتبين أنه لا علم عندهم بأنه أريد في حق المسيح بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع.
ثم إنه لا يوجد في كتب الأنبياء و كلامهم إطلاق اسم الأب والمراد به أب اللاهوت، ولا إطلاق اسم الابن و المراد به شيء من اللاهوت، و لا كلمته ولا حياته، بل لا يوجد لفظ الابن إلا والمراد به المخلوق، فلا يكون لفظ الابن إلا لابن مخلوق، و حينئذ فيلزم من ذلك أن يكون مسم الابن في حق المسيح هو الناسوت، و هذا يبطل قولهم: إن الابن و روح القدس صفتان لله، وإن المسيح اسم اللاهوت والناسوت، فتبين أن نصوص كتب الأنبياء تبطل مذهب النصارى و تناقض أمانتهم. الجواب الصحيح (2 / 123).
ثانياً: إبطال أدلتهم من الإنجيل:
يستشهد النصارى ببعض نصوص الأناجيل التي تتضمن ألفاظاً دالة على تلك العقائد، فقالوا: عمدوا الناس باسم الأب و الابن والروح القدس. متى (28: 19).
و قد رد ابن تيمية على ذلك بقوله: هذا النص هو عمدتكم على ما تدعونه من الأقانيم الثلاثة، و ليس فيه شيء يدل على ذلك لا نصاً ولا ظاهراً، فإن لفظ الابن لم يستعمل قط في الكتب الإلهية في معنى صفة من صفات الله، ولم يسم أحد من الأنبياء علم الله ابنه، ولا سموا كلامه ابنه، و لكن عندكم أنهم سموا عبده وأو عباده ابنه أو بنيه، وإذا كان كذلك فدعواكم أن المسيح أراد بالعلم ابن الله، و كلامه دعوى في غاية الكذب على المسيح، و هو حمل للفظ على مالم يستعمله هو ولا غيره فيه لا حقيقة و لا مجازاً، فأي كذب و تحريف لكلام الأنبياء أعظم من هذا، و لو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله لسميت حياته ابناً، و قدرته ابناً، فتخصيص العلم بلفظ الابن دون الحياة خطأ ثانٍ, لو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله، فكيف إذا لم يكن كذلك... بل ظاهر هذا الكلام أن يعمدوهم باسم الأب الذي يريدون به في لغتهم الرب، والابن الذي يريدون به في لغتهم المربي، و هو هنا المسيح، و الروح القدس الذي أيد الله به المسيح من الملك والوحي وغير ذلك، و بهذا فسر هذا الكلام من فسره من أكابر علمائهم. الجواب الصحيح (2/131-134) بتلخيص.
كما و يستدل النصارى على صحة عقيدتهم في بنوة المسيح لله - عز وجل - بما يدعونه و يتأولونه كعادتهم من آيات الكتاب الحكيم، فيقولون:
1 إنه قد جاء في هذا الكتاب يقصدون القرآن الكريم الذي جاء به هذا الإنسان أي محمد - صلى الله عليه وسلم - {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه} [النساء/171]. و يقولون: و هذا يوافق قولنا: إن المسيح لاهوت و ناسوت، إذ قد شهد القرآن أنه إنسان مثلنا بالناسوت الذي أخذ من مريم، و كلمة الله و روحه المتحدة فيه، وحاشا أن تكون كلمة الله و روحه الخالقة مثلنا نحن المخلوقين، فأشار بهذا إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله الخالقة. نقلاً عن الجواب الصحيح لابن تيمية (2/279).
و قد رد ابن تيمية على استشهادهم هذا بقوله: إن دعواكم - أيها النصارى على محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت كما تزعمون أنتم فيه، هي من الكذب الواضح المعلوم، فلو ادعى اليهود على محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكذّب المسيح - عليه السلام - و يجحد رسالته، كان كدعوى النصارى عليه أنه كان يقول: أنه رب العالمين وأن اللاهوت والناسوت، و محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر فيما بلغه عن الله - عز وجل - بكفر من قال ذلك، وبما يناقض ذلك في غير موضع كقوله - تعالى - {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه و من في الأرض جميعاً}[المائدة/17].
و قوله - تعالى - {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم و قال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي و ربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار و ما للظالمين من أنصار} [المائدة/72].
و قوله - تعالى - {وقالت اليهود عزيز ابن الله و قالت النصارى المسيح بن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون}[التوبة /30].
إلى غير ذلك من أمثال هذه الآيات، فكيف يزعمون أن القرآن يثبت لاهوت المسيح و هو يكفّر صراحة كما رأينا من يثبت بنوته لله - تعالى - و ألهيته.
2 - و يقولون أيضاً في استدلالهم على ألوهية المسيح بآيات الكتاب الكريم في موضع آخر: أن الله قد سماه كذلك في هذا الكتاب خالقاً، حيث قال: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني}[المائدة/110]. و هذا مما يوافق رأينا والكلام للنصارى - واعتقادنا في السيد المسيح لذكرهº لأنه حيث قال {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله} أي بإذن اللاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت. نقلاً عن الجواب الصحيح لابن تيمية(2/ 287).
و قد أجاب شيخ الإسلام على ذلك بقوله: إن جميع ما يحتج به النصارى من هذه الآيات و غيرها هو حجة عليهم لا لهم، و ذلك من وجوه: -
الوجه الأول: أن الله لم يذكر عن المسيح خلقاً مطلقاً، ولا خلقاً عاماً، كما ذكر عن نفسه تبارك و- تعالى -، في كثير من الآيات. وأما المسيح - عليه السلام - فقال فيه: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني.. الآيات} و قال المسيح عن نفسه: {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله.. الآيات}، فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله، فكيف يكون هذا الخالق هو ذاك؟!
الوجه الثاني: أنه خلق من الطين كهيئة الطير، والمراد به: تصويره بصورة الطير، و هذا الخلق يقدر عليه عامة الناس، فإنه يمكن لأحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير، و غير الطير من الحيوانات، والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيراً بإذن الله - عز وجل - و ليس مجرد خلقه من الطين، فإن هذا أمر مشترك.
الوجه الثالث: أن الله أخبر أن المسيح إنما فعل التصوير المحرم والنفخ بإذن الله - تعالى -، و أخبر المسيح - عليه السلام - أنه فعله بإذن الله، و أخبر الله أن هذا من نعمه التي أنعم بها على المسيح - عليه السلام - كما قال تعلى {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه و جعلناه مثلاً لنبي إسرائيل}[الزخرف/59].
و قوله - تعالى - {يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد و كهلا، و إذ علمتك الكتاب و الحكمة والتوراة و الإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني و تبرئ الأكمه و الأبرص بإذني و إذ تخرج الموتى بإذني} [المائدة/110].
و هذا كله صريح في أنه ليس هو الله، إنما هو عبد الله فعل ذلك بإذن الله كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء، و صرح بأن الآذن غير المأذون له، و المعلِّم ليس هو المعلَّم، و المنعم عليه و على والدته ليس هو إياه، كما ليس هو والدته.
الوجه الرابع: إنهم قالوا: أشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت، ثم قالوا في قوله {بإذن الله} أي بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت، و هذا يبين تناقضهم و افتراءهم على القرآنº لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله، ففرق بين المسيح و بين الله، و بين أن الله هو الآذن للمسيح، و هؤلاء زعمهم أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بالناسوت المسيح هو الخالق، و هو الآذن، فجعلوا الخالق هو الآذن، و هو تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن.
الوجه الخامس: إن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن يأذن لنفسه، فإنهم يقولون: هو إله واحد، و هو الخالق، فكيف يحتاج أن يأذن لنفسه و ينعم على نفسه؟!
الوجه السادس: إن الخالق إما أن يكون الذات الموصولة بالكلام، أو الكلام الذي هو صفة للذات، فإن كان هو الكلام، فالكلام صفة لا تكون ذاتاً قائمة بنفسها خالقة، و لو لم تتحد بالناسوت، واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكناً، فكيف و هو ممتنع؟!
و إذا كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام، فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب العالمين، و عندهم هو الأب، و المسيح عندهم ليس هو الأب فلا يكون هو الخالق لكي شيء، و القرآن يبيّن أن الله هو الذي أذن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير، فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله، ولا صفة من صفاته، فليس المسيح هو الله، و لا ابن قديم أزلي لله، و لكن عبده فعل بإذنه.
الوجه السابع: قولهم فأشار بالخالق على كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذ من مريم لأنه كذا قال على لسان داود النبي: (بكلمة الله خلقت السماوات و الأرض) فيقال لهم: هذا النص عن داود حجة عليكم، كما أن التوراة والقرآن و سائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم، فإن داود - عليه السلام - قال: (بكلمة الله خلقت السماوات و الأرض) و لم يقل: إن كلمة الله هي الخالقة، كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله.
والفرق بين الخالق للسماوات والأرض و ين الكلمة التي بها خلق السماوات والأرض أمر ظاهر معروف، كالفرق بين القادر والقدرة، فإن القادر هو الخالق، و قد خلق الأشياء بقدرته، و ليست القدرة هي الخالقة.. فالله - تعالى - يخلق بقدرته و مشيئته وكلامه، و ليس صفاته هي الخالقة.
الوجه الثامن: إن قول داود - عليه السلام -: (بكلمة الله خلقت السماوات و الأرض) يوافق ما جاء في القرآن و التوراة، و غير ذلك من كتب الأنبياء، إن الله يقول للشيء {كن فيكون} و هذا في القرآن في غير موضع و في التوراة قال الله: (ليكن كذا ليكن كذا).
الوجه التاسع: قولهم: (لأنه ليس خالق إلا الله و كلمته و روحه). إن أرادوا بكلمته كلامه، و بروحه حياته فهذه من صفات الله، كعلمه و قدرته، فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنه روح الله، فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله، فقد كذب عليه، ثم يقال: هذا كلامه و حياته من صفات الله كعلمه و قدرته، وحينئذ فالخالق هو الله وحده و صفاته داخلة في مسمى اسمه، لا يحتاج أن تجعل معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن بأن الله له شريك في خلقه، فإن الله لا شريك له، و لهذا لما قال - تعالى - {الله خالق كل شيء} دخل كل ما سواه في مخلوقاته، و لم تدخل صفاته كعلمه و قدرته و مشيئته و كلامه، لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أشياء مباينة له.. وإن أرادوا بكلمة روحه المسيح، أو شيئاً اتحد بناسوت المسيح، فالمسيح - عليه السلام - كله مخلوق كسائر الرسل و الله وحده هو الخالق
الوجه العاشر: إن داود - عليه السلام - لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيحº لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت، و هو عند النصارى اسم اللاهوت والناسوت لما اتحدا، و الاتحاد فعل حادث عندهم، فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحاً، فعلم أن داود لم يرد بكلمة الله المسيح، و لكن غاية النصارى أن يقولوا: أراد الكلمة التي اتحدت فيها أي مريم بجسد المسيح لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح كما نطق به القرآن بقوله {إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا و الآخرة و من المقربين}[آل عمران/45].
فالكلمة التي ذكرها، و إنها هي التي بها خلقت السماوات والأرض ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله.
فاحتجاجهم بهذا أي بأن المسيح باعتباره كلمة الله خلق الأشياء على الكلمة الخالقة بإذنه، هذا احتجاج باطل، بل تلك الكلمة التي بها خلقت السماوات و الأرض لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم و المسيح لابد أن يدخل فيه الناسوت فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح. أنظر: الجواب الصحيح (2 /287 293).
3 - و يستشهد النصارى أيضاً على صحة بنوة المسيح لله وألويته بقوله - تعالى - {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب.. الآية}[آل عمران/59].
فقالوا: قد عنى بقوله: مثل عيسى، إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة، لأنه لم يذكر هنا اسم المسيح إنما ذكر عيسى فقط.
و كما أن آدم خلق من غير جماع ولا مباضعة، فكذلك جسد المسيح خلق من غير جماع ولا مباضعة، وكما أن جسد آدم ذاق الموت، فكذلك جسد المسيح ذاق الموت.
و قالوا كذلك: و قد يبرهن على عقيدتنا أيضاً بما ذكره القرآن عن المسيح من أن الله ألقى كلمته إلى مريم، و ذلك حسب قولنا: إن كلمة الله الأزلية الخالقة حلت في مريم و تجسدت بإنسان كامل. أنظر: الجواب الصحيح (2 / 294).
و قد أجاب ابن تيمية - رحمه الله - عن ذلك بما يأتي:
أولاً: إن قوله - تعالى - {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} كلام حق فإنه - سبحانه - خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنةº ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، و خلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، و خلق المسيح من أنثى بلا ذكر، و خلق سائر الخلق من ذكر و أنثى، و كان خلق آدم و حواء أعجب من خلق المسيح، فإن حواء خلقت من ضلع آدم، و هذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم، و خلق آدم أعجب من هذا و هذا، و هو أصل خلق حواءº فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح، فإذا كان - سبحانه - قادراً أن يخلقه من تراب، و التراب ليس جنس بدن الإنسان، أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان؟ و هو - سبحانه - خلق آدم من تراب، ثم قال له كن فكان لما نفخ فيه من روحه، فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه، و قال له كن فكان، و لم يكن آدم بما نفخ من روحه لاهوتاً وناسوتاً، بل كله ناسوت، و كذلك المسيح كله ناسوت.
وهذا كله يبين به إن المسيح عبد ليس بإله، وأنه مخلوق كما خلق آدم، و قد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يباهل من قال أنه إله، فيدعوا كل من المتباهلين أبنائه و نسائه و قريبه المخلص به ثم يبتهل هؤلاء و هؤلاء يدعون الله أن يجعل لعنته على الكاذبين، فإن كان النصارى كاذبين في قولهم: هو الله، حقت اللعنة عليهم، و إن كان من قال ليس هو الله بل عبد الله كاذباً حقت اللعنة عليه، و هذا إنصاف من صاحب يقين يعلم أنه على الحق.
و النصارى لما لم يعلموا أنهم على حق نكلوا عن المباهلة، و قد قال - تعالى - عقب ذلك {إن هذا لهو القصص الحق و ما من إله إلا الله.. الآية}[آل عمران/62]. تكذيباً للنصارى الذين يقولون: هو إله حق من إله حق، فكيف يقال: إنه أراد أن المسيح فيه لاهوت وناسوت و أن الناسوت فقد دون اللاهوت؟
و بهذا ظهر الجواب عن قولهم: أعني بقوله: عيسى إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرةº لأنه لم يذكر الناسوت هاهنا اسماً للمسيح، إنما ذكر عيسى فقط.
فإنه يقال لهم: عيسى هو المسيح بدليل قوله - تعالى - {إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه.. الآية} و قوله - تعالى - {ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل.. الآية} فأخبر أن المسيح ليس هو ابن الله و إنما هو ابن مريم، والذي هو ابن من مريم هو الناسوت، و أنه ليس إلا رسول.
ثانياً: قولهم: (و قد يبرهن أيضاً أي عقيدتهم في المسيح من أنه إله و ابن إله بما ذكره القرآن عن المسيح من أن الله ألقى كلمته الخالقة إلى مريم، و ذلك حسب قولنا نحن معشر النصارى: إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم، واتحدت بإنسان كامل). نقلاً عن الجواب الصحيح لابن تيمية (2/294).
فيقال لهم: أما قول الله في القرآن فهو حق، و لكن ضللتم في تأويله كما ضللتم في تأويل غيره من كلام الأنبياء، وما بلّغوه عن الله و ذلك أن الله - تعالى - قال: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة من اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا و الآخرة ومن المقربين، و يكلم الناس في المهد و كهلاً و من الصالحين، قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر، قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}[آل عمران/45-47].
ففي هذا الكلام وجوه تبيّن أنه مخلوق، ليس هو ما يقوله النصارى، منها: أنه قال (بكلمة منه) و قوله: (بكلمة منه) نكرة في الإثبات، يقتضي أنه كلمة من كلمات الله، ليس هو كلامه كله كما يقوله النصارى.
و منها: أنه بيّن مراده بقوله (بكلمة منه) أنه مخلوق، حيث قال {كذلك الله يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}.
و قال في الآية الأخرى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}. وقال - تعالى - أيضاً {ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد - سبحانه - إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}.
فهذه ثلاث آيات في القرآن تبيّن أنه قال له (كن) فكان، و هذا تفسير كونه (كلمة منه).
و قال (اسمه المسيح عيسى بن مريم) فأخبر أنه ابن مريم و أخبر أنه وجيهاً في الدنيا و الآخرة ومن المقربين، و هذه كلها صفة مخلوق و الله - تعالى - و كلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك. و قال - تعالى - على لسان مريم {أنى يكون لي ولد} فتبين أن المسيح الذي هو الكلمة، هو ولد مريم لا ولد الله - سبحانه وتعالى-.. فمع هذا البيان الواضح الجلي، هل يظن ظان أم مراده بقوله: (و كلمته) أنه إله خالق، أو أنه صفة لله قائمة به، وأن قوله (و روح منه) المراد به: أنه حياته، أو روح منفصلة من ذاته؟! أنظر الجواب الصحيح (2 / 299- 301) بتلخيص.
و لنا في هذا المقام كلمة:
بعد ردود ابن تيمية - رحمه الله - على النصارى فيما يستشهدون به على عقيدتهم من آيات القرآن، فإذا كانوا يستشهدون بآيات القرآن على أنها من كلام الله، أو من كلام محمد - صلى الله عليه وسلم -، ليأخذوا جملة العقيدة التي أوحى بها الله، أو العقيدة التي يعتقدها محمد - صلى الله عليه وسلم -، ليأخذوا ذلك من جميع نصوص القرآن الواردة في الموضوع، فلا يقتصرون على جملة هنا أو جملة هناك، فالتعبيرات القرآنية عن المسيح بأنه كلمة الله أو روح من الله، لابد وأن تفهم على ضوء الآيات الأخرى التي تنفي ألوهية المسيح و بنوته، و تكفر من يقول بهما، والتي تثبت براءة المسيح ممن يؤلهه أو يؤله أمه، والتي تثبت كذلك اعترافه ببشريته.
على ضوء ذلك كله لابد و أن تفسر الآيات التي وصفت المسيح بأنه كلمة الله و روح منه، و إلا فهو إيمان ببعض الكتاب و كفر بالبعض الآخر، كما هو ديدنهم. و سواء اعتبر النصارى القرآن كلام الله أو كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - فلابد من أن يأخذوا العقيدة القرآنية في المسيح من كل ما جاء في حقه من آيات. و هذا هو ما فعله شيخ الإسلام، حيث جمع في مناقشتهم بين ما يستشهدون به من آيات القرآن، و ما غضوا الطرف عنه من الآيات الأخرى، و بذلك يكون التصور الكامل للعقيدة القرآنية في المسيح، و في نفس الوقت يظهر بطلان استشهادهم على عقيدتهم الزائفة بآيات القرآن من جهة، و بطلان عقيدتهم نفسها من جهة أخرى.
شبه أخرى: -
- يحتج النصارى على اختصاص المسيح بالبنوة والألوهية دون سائر الأنبياء والرسل بأنه كلمة الله الأزلية التي انفصلت عنه واتحدت بالمسيح من دون سائر البشر، فكان ابناً بالطبع و ليس ابناً بالوضع الجواب: إنما خص المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشرº لأن سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات، بخلق الواحد من ذرية آدم من نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم ينفخ فيه الروح، و خلقوا من ماء الأبوين (الأب والأم). والمسيح - عليه السلام - لم يخلق من ماء رجل، بل ما نفخ روح القدس في أمه حبلت به، و قال الله له (كن) فكان، و لهذا شبهه الله بآدم في قوله {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} فإن آدم - عليه السلام - خلق من تراب و ماء فصار طيناً، ثم أيبس الطين، ثم قال له: (كن) فكان بشراً تاماً بنفخ الروح فيه، و لكن لم يسم كلمة اللهº لأن جسده خلق من التراب والماء، و بقي مدة طويلة يقال: أربعين سنة، فلم يكن خلق جسده إبداعياً في وقت واحد، بل خلق شيئاً فشيئاً، و خلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة، وأما المسيح - عليه السلام - فخلق جسده خلقاً إبداعياً بنفس نفخ روح القدس في أمه، قيل له: (كن) فكان له من الاختصاص بكونه خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر. أنظر الجواب الصحيح (2/166).
- يقول ابن تيمية: إن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم، و قالوا: (إنه إله تام وإنسان تام)، و ليس فيه من الإلهية شيء فما بقي - مع هذا يمتنع أن يعتقد في نظائره ما يعتقد فيه.
فلو قال القائل: إن موسى بن عمران كان هو الله، لم يكن هذا أبعد من قول النصارى فإن معجزات موسى كانت أعظم وانتصاره على عدوه أظهر و قد سماه الله في التوراة إلها لهارون و لفرعون. انظر سفر الخروج (4: 16، 7: 1). والجواب الصحيح (3/174).
ثم يقول: والمعجزات التي احتججتم بها للمسيح قد وجدت لغير المسيح، ولو قدر أن المسيح أفضل من بعض أولئك، فلا ريب أن المسيح - عليه السلام - أفضل من جمهور الأنبياء، أفضل من داود وسليمان و أصحاب النبوات الموجودة عندكم، و أفضل من الحواريين، لكن مزيد الفضل يقتضي الفضيلة في النبوة والرسالة، كفضيلة إبراهيم وموسى و محمد صلوات الله عليهم و سلامه، و ذلك لا يقتضي خروجه عن جنس الرسل، كما قال - تعالى - {ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام أنظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} و قال - تعالى - {و قال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي و ربكم أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار و ما للظالمين من أنصار}.
وجماع هذا القول: إن سائر ما يوصف به المسيح عندهم و يدّعون اختصاصه به من كونه ابناً لله و كونه مسيحاً و كون الله حل فيه، أو ظهر أو سكن أو أظهر المعجزات على يديه.. كل ذلك موجود عندهم في حق غير المسيح، فليس للمسيح اختصاص بشيء من هذه الألفاظ في كلام الأنبياء توجب أن يكون هو الله أو ابن الله بل قد عرف باتفاقهم واتفاق المسلمين أن المراد بتلك الألفاظ حلول الإيمان بالله ومعرفته، و هداه و نوره ومثاله العليّ في قلوب عباده الصالحين.
و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد