بسم الله الرحمن الرحيم
في وقفتنا الأخيرة مع قوله - تعالى -: {وَلَو فَتَحنَا عَلَيهِم بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلٌّوا فِيهِ يَعرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَت أَبصَارُنَا بَل نَحنُ قَومٌ مَسحُورُونَ}(الحجر: 15) نقف عند وجه آخر من وجوه الإعجاز العلمي في هذه الآية الكريمة، وذلك هو قوله - تعالى -: {...لَقَالُوا إنما سُكِّرت أبصارنا... } ووجه ذلك أن القول بتسكير الأبصار، وظلمة الكون الشاملة إنما تتم وتكون بمجرد العروج في السماء لفترة قصيرة، ثم تظل الظلمة سائدة إلى نهاية الكون.
وقد أثبت العلم اليوم هذا بدقة شديدة، وبيان ذلك أننا إذا حسبنا النسبة المئوية لسمك طبقة النهار وهي (200كم) إلى المسافة بين الأرض والشمس، وهي (150 مليون كم) لكان حاصل النسبة هو 1.750ألف تقريبًا، فإذا نسبنا الحاصل إلى نصف قطر الجزء المدرك من الكون لتبين أنه لا يساوي شيئًا ألبتة، ومن هنا تتضح روعة التشبيه القرآني في قوله - تعالى -: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيلُ نَسلَخُ مِنهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُظلِمُونَ} (يـس: 37) حيث شبه انحسار طبقة النهار البالغة الرقة بسلخ جلد الذبيحة الرقيق عن كامل بدنها، الأمر الذي يؤكد أن الظلام هو الأصل في الكون، وأن النهار ظاهرة عارضة رقيقة لا تظهر إلا في الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض، وفي نصفها المواجه للشمس في دورة الأرض حول نفسها أمام ذلك النجم، وبتلك الدورة ينسلخ النهار تدريجيًّا من ظلمة كلٍ, من ليل الأرض وحلكة السماء، كما ينسلخ جلد الذبيحة من جسمها.
وما يؤكد دوام ظلمة السماء ما قرره القرآن في مقام آخر، وهو قوله - تعالى -: {أَأَنتُم أَشَدٌّ خَلقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغطَشَ لَيلَهَا وَأَخرَجَ ضُحَاهَا}(النازعـات: 27-29) فالضمير في قوله - سبحانه -: {وَأَغطَشَ لَيلَهَا} يعود إلى السماء، والمعنى أن الله - تعالى -قد جعل ليل السماء حالك السواد من شدة إظلامه، فهو دائم الإظلام، سواء اتصل بظلمة ليل الأرض أو انفصل عنها بتلك الطبقة الرقيقة التي يعمها نور النهار، فيصفه ربنا - سبحانه - بقوله: {وَأَخرَجَ ضُحَاهَا} أي: أظهر ضوء شمس السماء لإحساس المشاهدين لها من سكان الأرض بالنور والدفء معًا في نهار الأرض.
ويؤكد هذا المعنى قَسَمَ الحقّ - سبحانه - بالنهار، إذ يجلي الشمس، أي: يكشفها ويوضحها، فيقول: {وَالشَّمسِ وَضُحَاهَا * وَالقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا * وَاللَّيلِ إِذَا يَغشَاهَا}(الشمس: 1-4) أي أن النهار هو الذي يجعل الشمس واضحة جلية لمن يراها من سكان الأرض. وهذه لمحة أخرى من لمحات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، تقرر أن ضوء الشمس لا يُرى إلا على هيئة النور في نهار الأرض، وأن الكون خارج نطاق الأرض ظلام دامس، وأن هذا النطاق النهاري لابد أن به من الصفات ما يعينه على إظهار وتجلية ضوء الشمس لأحياء الأرض.
وبعد: فهذه بعض وجوه الإعجاز العلمي الذي تضمنته هاتان الآيتان الكريمتان، ولا شك أن فيهما من الإعجاز وفي غيرهما من الآيات ما لم يكشفه العلم بعدُ، مما يؤكد ويؤيد إعجاز هذا القرآن {وإنه لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ}(الشعراء: 192) وأنه {لا يَأتِيهِ البَاطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَلا مِن خَلفِهِ تَنزِيلٌ مِن حَكِيمٍ, حَمِيدٍ,}(فصلت: 42) وأنه المعجزة الباقية أبد الدهر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد