سر دخول الكاف على لفظ (المَثل) بفتح الميم والثاء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 





سر دخول الكاف على لفظ المَثل، بفتح الميم والثاء في قوله - تعالى -: \"مَثَلُهُم كَمَثَلِ الَّذِي استَوقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حَولَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم وَتَرَكَهُم فِي ظُلُمَاتٍ, لا يُبصِرُونَ * صُمُّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لا يَرجِعُونَ\" [البقرة: 17- 18].

لقد ثبت بما ذكرناه في مقالنا السابق: (من أسرار الإعجاز البياني في القرآن الكريم - سر دخول الكاف على لفظ المثل بكسر الميم) أن المِثل، بكسر الميم، هو لفظٌ يدل على المساواة بين شيئين متفقين في الجنس، في تمام الحقيقة والماهية، وأن المَثل، بفتحتين، هو لفظٌ يدل على المساواة بين شيئين متفقين في الجنس، في تمام الصفات الخارجة عن الحقيقة والماهية، وبينا الفرقَ بين المماثلة، والمساواة من جهة، والفرقَ بينها، وبين المناظرة والمشابهة من جهة أخرى، ثم تحدثنا عن سر دخول الكاف على لفظ المِثل، في قوله - تعالى -: \" لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ\"[الشورى: 11].

وفي هذا المقال سنتحدث عن سر دخل الكاف على لفظ المَثل، بفتحتين، في نحو قوله - تعالى -في حق المنافقين: \"مَثَلُهُم كَمَثَلِ الَّذِي استَوقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حَولَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم وَتَرَكَهُم فِي ظُلُمَاتٍ, لا يُبصِرُونَ * صُمُّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لَا يَرجِعُونَ\" [البقرة: 17- 18] وهو أول تشبيه تمثيلي ورد في القرآن الكريم، وقد ضلَّ النحاة والمفسرون في تأويله- عن غير قصد منهم- ضلالاً كبيرًا، كما ضلوا في تأويل قوله - تعالى -: \"لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ\"[الشورى: 11].

فنقول بعون الله وتعليمه: لمَّا بيَّن الله - تعالى -حقيقة أحوال المنافقين ومواقفهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، والقرآن الكريم، وكشف عن مكنون صدورهم، وفضح نفاقهم، وكذبهم، وخداعهم، في الآيات، التي سبقت هاتين الآيتين من سورة البقرة، أراد الله - تعالى -أن يكشفَ عن تلك الأحوال والمواقف كشفًا تامًّا، ويبرزَها في معرض المحسوس المشاهدº فأتبعها - سبحانه - بضرب هذا المثل، والمثل الذي بعده، زيادة في التوضيح والتقرير، ومبالغة في البيان، فقال جل جلاله: \"مَثَلُهُم كَمَثَلِ الَّذِي استَوقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حَولَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم وَتَرَكَهُم فِي ظُلُمَاتٍ, لا يُبصِرُونَ* صُمُّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لَا يَرجِعُونَ* أَو كَصَيِّبٍ, مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعدٌ وَبَرقٌ يَجعَلُونَ أَصَابِعَهُم فِي آَذَانِهِم مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِينَ* يَكَادُ البَرقُ يَخطَفُ أَبصَارَهُم كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَشَوا فِيهِ وَإِذَا أَظلَمَ عَلَيهِم قَامُوا وَلَو شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمعِهِم وَأَبصَارِهِم إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ\" [البقرة: 17- 20]. وهما- كما قال البيضاوي- مثلان لكلِّ من آتاه الله ضربًا من الهدى، فأضاعه، ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد، فبقي متحيِّرًا متحسِّرًا، ويدخل في عمومه هؤلاء المنافقونº فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق، باستبطان الكفر وإظهاره، حين خلوا إلى شياطينهم: \"وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوا إِلَى شَيَاطِينِهِم قَالُوا إِنَّا مَعَكُم إِنَّمَا نَحنُ مُستَهزِئُونَ* اللَّهُ يَستَهزِئُ بِهِم وَيَمُدٌّهُم فِي طُغيَانِهِم يَعمَهُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ اشتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُم وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ\" [البقرة: 14- 16].

فهؤلاء المنافقون الذين، استحبوا العمى على النور، واشترَوا الضلالة بالهدى، بعدما تبين لهم الحق: مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا..أو كصيِّب من السماء.وجمهور المفسرين على أن المثل الأول مضروب لطائفة من المنافقينº وهم الذين آمنوا ثم كفروا، وأن المثل الثاني مضروب لطائفة أخرى غير الأولىº وهم الذين لم يزالوا على نفاقهم مترددين بين الإيمان والكفر.وعلى هذا القول كثير من المعاصرينº ومنهم الشيخ حسن حبنكة الميداني، ونصٌّ قوله في ذلك: ” في هذا النص مثلان ضربهما الله لمجموع المنافقين، ولدى تحليلهما بنظراتٍ, ثاقباتٍ,، يتبين لنا أنهما يدلان على أن المنافقين صِنفان، وأن كلَّ مثل منهما يُلقي الضَّوءَ على صنف من صنفَي المنافقين.

فالمثل الأول منهما: تضمَّن تشبيهًا لحالة الصنف الأشد من صنفي المنافقينº وهو الصنف الذي مرَدَ على النفاق، بعد رؤيته أضواءَ هداية القرآن، وسماعه إنذارات عذاب الله للكافرين. ولما مرَدَ على النفاق ملتزمًا الثبات في موقع الكفر، طمس الله بصيرته بقانونه القدري.



والمثل الثاني منهما: تضمَّن تشبيهًا لحالة الصنف الثاني المذبذب، الذي ما زال مترددًا محتارًا بين الإيمان والكفر، وهو إلى الثبات في موقف الكفر أقرب. فهذا لم يطمس الله بصيرته إمهالاً له، وليمنحه آخر نقطة في كأس بصيرته، ولو شاء الله لطمس بصيرته، حكمًا عليه بالجانب الغالب الأرجح من واقعهº لكنه - سبحانه - لم يشأ ذلك رحمة به.

وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك حين زعم أن المثلين مضروبين لليهود، وليس للمنافقين. وهذا، وذاك خلاف للظاهر، الذي يشير بوضوح لا لبس فيه إلى أن الكلام موجه للمنافقين، وأن هؤلاء المنافقين هم صنف واحد، لا صنفان، وفي حقهم يقول الله - تعالى -: \"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِاليَومِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخدَعُونَ إلآ أَنفُسَهُم وَمَا يَشعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكذِبُونَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُم لا تُفسِدُوا فِي الأرضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحنُ مُصلِحُونَ* ألآ إِنَّهُم هُمُ المُفسِدُونَ وَلَكِن لا يَشعُرُونَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُم آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤمِنُ كَمَا آَمَنَ السٌّفَهَاءُ ألا إِنَّهُم هُمُ السٌّفَهَاءُ وَلَكِن لا يَعلَمُونَ* وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوا إِلَى شَيَاطِينِهِم قَالُوا إِنَّا مَعَكُم إِنَّمَا نَحنُ مُستَهزِئُونَ* اللَّهُ يَستَهزِئُ بِهِم وَيَمُدٌّهُم فِي طُغيَانِهِم يَعمَهُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ اشتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُم وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ\"[البقرة: 8-16].

فقوله - تعالى -في هذه الآيات الكريمة في حق المنافقين، ليس على درجة من التعقيد، أو الغموض، حتى يحتاج إلى نظراتٍ, ثاقباتٍ, تحلله إلى صنفين من الناسº لأنه يتحدث عن طائفة واحدة منهمº هي طائفة المنافقين. هذه الطائفة، التي أظهرت الإيمان، وأبطنت الكفر، ضرب الله - تعالى -لها مثلين، في حالتين مختلفتين. ولهذا جاء بـ(أو)، التي يثبت بها أحد الأمرين، للدلالة على أن مثلهم هذا، أو هذا، فقال - تعالى -: \"مَثَلُهُم كَمَثَلِ الَّذِي استَوقَدَ نَارًا... أَو كَصَيِّبٍ, مِنَ السَّمَاءِ... \"الخ.

وإلى هذا ذهب ابن قيِّم الجَوزيَّة، فقال في ذلك ما نصٌّه: ” أما قوله: \"أَو كَصَيِّبٍ, مِنَ السَّمَاءِ\" فإنه - تعالى -، ذكر مَثلين مضروبيـــن للمنافقين، في حالتين مختلفتينº فهم لا يخلون، من إحدى الحالتين. فـ(أو) على بابها، من الدلالة على أحد المعنيين \".

و(الصَيِّب)، في المشهور، هو المطر الشديد، الذي يَصُوب من السماء. أي: ينزل منها بسرعة. وهو مثل للقرآن الكريم، كما أن الذي استوقد نارًا- في التمثيل الأول- مثل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

والمثل الأول يصور أحوال هؤلاء المنافقين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنين. والمثل الثاني يصَوِّر أحوالهم مع القرآن الكريم، ومواقفهم منه. والأول هو موضوع حديثنا في هذا المقال.

\"مَثَلُهُم كَمَثَلِ الَّذِي استَوقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حَولَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم وَتَرَكَهُم فِي ظُلُمَاتٍ, لا يُبصِرُونَ * صُمُّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لا يَرجِعُونَ\".

فـهؤلاء المنافقون، فيما عُلِم من أحوالهم، وصفاتهم السابقة: (مَثلٌ)، والذي استوقد نارًا، فيما ذُكر معه من أشياء: (مثلٌ) آخر. وما بين المثلين تشابه، لا تطابق- كما يُقال- ولهذا صحَّ أن يكون كل واحد منهما طرفـًا، في تشبيه واحد، أداته الكاف0 ولو لم يكن في الكلام هذه الكاف، لكان بين المثلين تماثلٌ في تمام الأحوال والصفاتº لأن التقدير- حينئذ- يكون: مَثلهم مَثلُ الذي استوقد نارًا. ولكن وجود

الكاف حصَّن المعنى من هذا التأويل، الذي ذهب إليه جمهور النحاة والمفسرين.

وننظر فيما بين المثلين من وجه شبه:

فنرى أولاً- في المشبه- وهم هؤلاء المنافقون- كانوا في زمرة الكافرين، ثم إنهم أعلنوا إيمانهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، واتخذوا هذا الإيمان جُنـَّة يتقون بها يد المؤمنين، إذا هي علَت على الكافرين، وأنزلتهم على حكمهم، وذريعة يتوصَّلون بها إلى ما قد يفيءُ الله على المؤمنين من خير! فكان أن فضح الله نفاقهم، وجاءت آياته، تنزع عنهم هذا الثوب، الذي ستروا به هذا النفاق، فأصبحوا عُراة، لا يستطيعون أن يظهروا في الناسº إلا كما تظهر الحيَّات برءوسها من وراء أحجارها!

ونرى ثانيًا- في المشبه به- وهو هذا الذي استوقد نارًا- هذا الإنسان، كان واحدًا في جماعة، في ليل شديد الظلمة، فاستوقد نارًا، عله يهتدي بضوئها، ويهدي بها معه جماعته. ولما اجتمع القوم على الضوء، الذي بدَّد ظلام الليل الحالك من حولهم، حجز الله - تعالى -النور، عن طائفة مخصوصة منهم، فلم يرَوا ما حولهم، ولم يعرفوا وجه الطريق الذي يسلكون، فركبتهم الحَيرة، وقيَّدهم العمى والضلال!

ونقرأ الآية الكريمة: \"مَثَلُهُم كَمَثَلِ الَّذِي استَوقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حَولَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم وَتَرَكَهُم فِي ظُلُمَاتٍ, لا يُبصِرُونَ \"، فنجد لمحة، من لمحات الإعجاز البياني، في هذا التخالف بين أجزاء الصورة، في المشبه بهº حيث كان الظاهر أن يقال: \"ذهب الله بنوره، وتُركَ في ظلمات لا يُبصِر). أو يقال: \"مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا، فلما أضاءت ما حولهم)- كما قرأ بذلك ابن السٌّمَيقع. ولكن جاءت الآية الكريمة على خلاف هذا الظاهر، وتلك القراءة، التي قال فيها الألوسي: ” وهي قراءة مشكلة جدًّا “.

وللنحاة والمفسرين، في تفسير ذلك والتعليل له، أقوالٌº أشهرُها: أن(الذي)- هنا- مفرد في اللفظ، ومعناه على الجمع. فالمعنى: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا. ولذلك قال الله - تعالى -: \"ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم)º فحمل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع. والتقدير: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا، فلما أضاءت ما حولهم، ذهب الله بنورهم.

وقيل: إنما وُحِّد(الذي) و(استوقد) و(ما حوله)º لأن المستوقد كان واحدًا من جماعة، تولَّى الإيقاد لهمº فلما ذهب الضوءُ، رجع عليهم جميعًا.. وقيل غير ذلك. ولكن هذا- كما يقول عبد الكريم الخطيب في كتابه: تفسير القرآن للقرآن-” يفسد المعنىº حيث يَقضي بهذا الحكم على مستوقد النار، فيذهب بنوره، الذي رفعه لهداية الناسº وحيث يقع هذا الحكم على غير المنافقين، من طالبي الهدى عنده.. والصورة، التي رسمتها الآية الكريمة، تأخذ المنافقين وحدهم بجرمهم، فتحرمهم الإفادة من هذا النور، الذي يملأ الوجود من حولهم، ثم لا تحرم المهتدين ما أفادوا من هدى“.

ولو تأملنا الآية، وجدنا أن هذا(الذي استوقد نارًا) كان واحدًا في جماعة معه، استدعى لهم الإيقاد. أي: طلبه، وسعى في تحصيله. فلما أوقِدت له النار، وأضاءت ما حوله، واجتمع الناس على ضوئها، ذهب الله بنور طائفة مخصوصة منهم. كذلك كان شأن المنافقين وحالهم، مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبعوث هدًى ورحمة للعالمين.. كذبٌ ونفاق، وخداعٌ واستهزاء، فكان أن وقعوا في ضلالتهم، التي اشتروها بالهدى، وخبطوا في مستنقع الحيرة، التي أدهشتهم. ولهذا ذمَّهم الله - تعالى -بأنهم دخلوا في الإيمان ثم خرجوا منه بقوله: \"إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ\"[المنافقون: 1]..

وبذلك يكون الغرض من هذا التمثيل: تشبيه حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحال الذي استوقد نارًا، وتشبيه حال المنافقين معه بحال طائفة مخصوصة، ذهب الله - تعالى -بنورهم. فحذف من المشبه ما أثبت نظيره في المشبه به، وحذف من المشبه به ما أثبت نظيره في المشبه. وهذا من ألطف أنواع البديع، وأبدعها. وقلَّ من تنبَّه له، أو نبَّه عليه، من أهل فنِّ البلاغة- كما قال السيوطي في (الإتقان). وقد ذكره الزركشي في(البرهان)، ولم يسمِّه هذا الاسم، بل سماه: (الحذف المقابلي)، ثم نقل عن الأندلسي قوله في شرح(البديعية): ” من أنواع البديع: (الاحتباك)º وهو نوع عزيز، وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأولº كقوله - تعالى -: \"وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنعِقُ بِمَا لا يَسمَعُ إلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمُّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لا يَعقِلُونَ\"[البقرة: 171].

التقدير: ومثل الأنبياء، والكفار كمثل الذي يَنعِق، والذي يُنعَق به. فحذف من الأول (الأنبياء)، لدلالة(الذي ينعق) عليه، ومن الثاني(الذي ينعَق به)، لدلالة (الذين كفروا) عليه “.

وبهذا الفهم لمعنى مثل الذين كفروا، ومثل المنافقين، يكون قوله - تعالى -: \"الَّذِي استَوقَدَ نَارًا\" مثلاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكون قوله - تعالى -: \"ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم\" مثلاً للمنافقين، كما ذكرنا.

وتمثيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمستوقد النار، جاء صريحًا، في قوله - عليه الصلاة والسلام -: ” إنما مثلي، ومثل أمتي، كمثل رجل استوقد نارًا، فجعلت الدوابٌّ، وهذه الفراش، يقعن فيها. فأنا آخذٌ بحِجزكم، وأنتم تُقحَمون فيها “.

وفي رواية أخرى: ” إنما مثلي ومثل الناس، كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش، وهذه الدواب، التي تقع في النار، يقعن فيها. فجعل ينزعهن، ويغلبنه، فيقتحمن فيها. فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيها “ (صحيح مسـلم: 4/1789، وصحيح البخاري: 5/2379)0

ومع وضوح معنى هذا المثل وإشراقه، وإقامة الدليل عليه فقد ذهب المرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي إلى القول: ” معنى استوقد: طلب أن توقد، وما دام هو الطالب، كان عليه أن يحترم طلبهº ولكنه لما نافق، ذهب الله بنوره “0 ثم كرَّر هذا القول بصيغة الجمع، فقال: ” كان المفروض أن يحترموا نتيجة ما طلبوهº ولكنهمº لفساد في طباعهم، وفساد في أذواقهم، لم يحترموا طلبهمº فكان أن ذهب الله بنورهم “.. وعلى هذا الرأي جمهور القدماء، والمعاصرين.

وهذا وهمٌ منهم جميعًا- رحمهم الله - نشأ من عدم التدبٌّرº فوقعوا فيما لا ينبغي أن يقعوا فيه.. ألا ترى كيف حكموا بالنفاق، وإذهاب النور، على هذا المستوقد الذي أضاء بناره الوجود؟ وكيف يكون مَن هذا شأنُه منافقـًا، ثم يُؤخَذ بجرم المنافقين؟ !!

وليس غريبًا بعد هذا الذي ذكرناه أن نسمع كثيرًا من الذين يجادلون في آيات الله بغير علم، ودراية، يقول: إن في هذا الذي ذكرناه مخالفة لما قاله السلف، ولما يقوله الخلف، فيتهمنا بالخروج على الإجماع، أو غير ذلك من التهم، التي لا تصدر إلا عن جاهل بأسرار البيان في كلام العرب، والقرآن.

وفي قوله - تعالى -: \"ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم\" لمحة أخرى، من لمحات الإعجاز البيانيº حيث كان الظاهر أن يقال- كما قرأ اليمانيٌّ: (أذهب الله نورَهم). أو يقال: (ذهب الله بنارهم، أو بضوئهم). ولكنَّ الله - تعالى -، لم يقل هذا، ولا ذاكº وإنما قال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم\"، فأسند الذهاب إليه - سبحانه - حقيقة، لا

مجازًا، واختار النور، على النار وضوئها.

أما إسناد الذهاب إليه - سبحانه - فللدِّلالة على المبالغة. ولذلك عُدِّيَ الفعل بالباء، دون الهمزة، لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك. وبيان ذلك: أنه إذا قيل: ذهب الشيءُ يذهَب، فمعناه: مضى إلى رجعة، أو غير رجعة. فمن الأول قوله - تعالى -: \"إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهدِينِ\"[الصافات: 99]0 ومن

الثاني قوله - تعالى -: \"فَلَمَّا ذَهَبَ عَن إِبرَاهِيمَ الرَّوعُ\"[هود: 74]0 وقوله - تعالى -: \"فلا تَذهَب نَفسُكَ عَلَيهِم حَسَرَاتٍ,\"[فاطر: 8] كناية عن الموت0

وإذا قيل: أذهبَ فلانٌ الشيءَ يُذهبُه، فمعناه: أزاله من الوجود. ومنه قوله - تعالى -: \"إِن يَشَأ يُذهِبكُم وَيَأتِ بِخَلقٍ, جَدِيدٍ,\"[إبراهيم: 19].

فإذا قيل: ذهبَ فلانٌ بالشيء، يُفهَمُ منه: أنه استصحبه معه، وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولىº وكأنه التصق به التصاقًا، وليس كذلك: أذهبهº ومنه قوله - تعالى -: \"فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجمَعُوا أَن يَجعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ\" [يوسف: 15]

قال الألوسي: ” فالباء والهمزة، وإن اشتركا في معنى التعدية، فلا يبعد أن ينظر صاحب المعاني إلى معنى(الهمزة، والباء) الأصليين- أعني: الإزالة، والمصاحبة والإلصاق. ففي الآية لطفٌ لا يُنكَر“.

ومن قبله قال الزمخشريٌّ: ” والفرق بين(أذهبه)، و(ذهب به): أن معنى أذهبه: أزاله، وجعله ذاهبًا. ويقال: ذهب به، إذا استصحبه، ومضى بهº فهو أبلغ من الإذهاب“.

فثبت بذلك: أنَّ(ذهب بالشيء) أبلغ من(أذهب الشيءَ)، وأصلهما جميعًا: الذهاب، الذي هو المُضِيٌّ، وكلاهما متعدٍّ, إلى المفعول: الأول بنفسه، والثاني بوساطة الباء.

وأما اختياره النور على النار وضوئها فلأنه المراد من استيقاد النارº إذ هو أعظم منافعها، ولكونه الأنسب بحال المنافقين، الذين حُرموا الانتفاع، والإضاءة بما جاء من عند الله، ممَّا سمَّاه: نورًا، في قوله - تعالى -: \"قَد جَاءَكُم مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ\"[المائدة: 15]º فكأنَّ الله عزَّ شأنه أمسك عنهم النور،

وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمِّه - سبحانه - ضوءًا، أو نارًاº لتتأتَّى هذه الإشارة.

والنار جَوهرٌ، لطيفٌ، نيِّرٌ، ومن أخصِّ أوصافها: الإحراقُ والإضاءةُ. يقال: ضاءت النار، وأضاءت، وأضاءها غيرُها. وما انتشر منها يسمى: ضوءًا. والفرق بينه، وبين النور: أن الضوء ما يكون للشيء لذاته، كما للشمس. والنور ما يكون من غيره، كما للقمر. ومصداق ذلك قوله - تعالى -: \"هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا\"[يونس: 5]

هذا، وقد اشتهر في العرف، أن الضوء ينتشر من المضيء إلى مقابلاته، فيجعلها مستضيئة. ولهذا قال - تعالى -: \"فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حَولَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم\"، فأضاف النور إلى المنافقين، الذين اجتمعوا على ضوء هذه النار، مع المجتمعين.

ولو قيل: ذهب الله بضوئهم، لأفاد أن لهؤلاء المنافقين ضوءًا، كما أن للنار والشمس ضوءًا. وهذا باطلº لأنهم مستضيئون، لا مضيئون. وما انعكس عليهم من ضوء النار، نتيجة استضاءتهم به، هو نورهم، الذي أمسكه الله - تعالى -عنهم، وحرمهم من الانتفاع به.

ولو قيل: ذهب الله بنارهم، لفُهم منه أن النار هي نارهم، وأنهم هم الذين أوقدوها. وهذا خلاف المراد. وقيل: لم يقل: ذهب الله بنارهمº لأن النار فيها الإحراق، والنور. فذهب الله - تعالى -بما ينفعهم، وأبقى لهم ما يضرهم.. وكذلك حال المنافقين: ذهب نفاقهم بنور إيمانهم، وأبقى لهم حرارة الكفر والشكوك والشبهات، تغلي في قلوبهم.

وقوله - تعالى -: \"وَتَرَكَهُم فِي ظُلُمَاتٍ, لا يُبصِرُونَ\" عطفٌ على قوله: \"ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم\"، ويُستفاد منه التأكيد والتقريرº لانتفاء النور عنهم وانطماسه بالكليَّة، تِبعًا لما فيه، من ذكر الظلمة، المنافية للنورº لأنها تسدٌّ البصر، وتمنع الرؤية، وإيرادِ ما يدل على أنها ظلمة، لا يتراءى فيها شبحانº وهو قوله - تعالى -: \"لا يُبصِرُونَ\".

وفي قوله - تعالى -: \"وَتَرَكَهُم\" إشارة إلى عدم المبالاة بهمº لما فيه، من معنى الطرح للمتروك. وفي جمع، الظلمة، وتنكيرها\"ظُلُمَاتٍ,\" ما يفيد أنها ظلمات ركب بعضها في بعض. وفي نفي الفعل\"يُبصِرُونَ\"، بـ\" لا\"، دلالة على طول النفي، وامتداده، واستحالة وقوع المنفي بها أبدًا. وفي إطلاق فعل الإبصار: \"يُبصِرُونَ\"، دون تقييده بمفعول محدد، دلالة على أنهم في عمًى تام، لا يبصرون شيئًا. ولهذا أتبعه بقوله - تعالى -: \"صُمُّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لا يَرجِعُونَ\".

ومن اللطائف أن(الظلمة)º حيثما وقعت في القرآن، وقعت مجموعة0 و(النور)º حيثما وقع، وقع مفردًا. ولعل السبب هو أن الظلمة، و إن قلَّت، تستكثر، والنور، وإن كثُر، يُستقلّ ما لم يضرَّ. وأيضًا فكثيرًا ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان. والقليل من الكفر كثيرٌ، والكثير من الإيمان قليلٌº فلا ينبغي الركونُ إلى قليل من ذاك، ولا الاكتفاء بكثير من هذا.

وفي هذا تأكيد على أن الظلمات المذكورة هي ظلمة واحدة، لا متعددة. ولكنها لشدتها، استعير لها صيغة الجمع مبالغة. والدليل على ذلك قراءة اليماني: \"وَتَرَكَهُم فِي ظُلُمَةٍ, لا يُبصِرُونَ\"، على التوحيد.

أما قوله - تعالى -: \"صُمُّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لا يَرجِعُونَ\" فهو من تتمَّة التمثيل. والفاء للدلالة على أن اتصافهم بالأحكام السابقة سببٌ لتحيٌّرهم، واحتباسهم. والمراد: أن حواسهم كانت سليمةº ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق آذانَهم، وأبوا أن تنطق به ألسنتهم، وأن يتلمَّحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس بأبصارهم، وُصفوا بما وُصِفوا به، من الصمم والبكم والعمى.. فهم في ظلمات بعضها فوق بعض، لا يخرجون منها أبدًا- نعوذ بالله من شرها. ولهذا حكم عليهم - سبحانه وتعالى - بعدم الرجوع، بقوله جل شأنه: \"فَهُم لا يَرجِعُونَ\". كما حكم عليهم بعدم الإبصار بقوله - تعالى -: \"لا يُبصِرُونَ\".

وقال - تعالى -في مثل الذين كفروا: \"صم بكم عمي فَهُم لا يَعقِلُونَ\"، فسلب العقل عنهمº لأنهم لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان. وقال - سبحانه - في مَثل المنافقين: \"صم بكم عمي فهم لا يرجعون\"، فسلب الرجوع عنهمº لأنهم آمنوا، ثم كفروا، فلم يرجعوا إلى الهدى بعد أن باعوه بالضلالة. أو: عن الضلالة بعد أن اشترَوها بالهدى. أو: إلى حيث ابتدءوا منه. والكل محتملº لأن المراد، بنفي الفعل: مطلق الفعل، دون قيد. وظاهر المعنى يقتضي أن يكون ترتيب هذه الصفات هكذا: (عميٌ، بكمٌ، صمُّ)º ولكن جاء ترتيبها، على وفق حال المُمَثـَّل له، خلافًا للظاهرº لأنه يسمع أولا دعوة الحقِّ، ثم يجيب ويعترف، ثم يتأمَّل ويتبصَّر. هذا هو مثل المنافقين، الذين لم يصحبهم نور الإيمان في الدنيا. بل خرجوا منه وفارقوه، بعد أن استضاءوا به. وقد قال بذلك غير واحد من السلف في صفة هؤلاء المنافقين، الذين أبصروا ثم عموا، وعرفوا ثم أنكروا، وآمنوا ثم كفروا. كذلك قال قتادة ومجاهد: ضرب المثل، لإقبالهم على المؤمنين، وسماعهم ما جاء به الرسول، وذهاب نورهم.

فتأمل أسرار كلام الله - تعالى -في أمثاله، واشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد. فـ\" تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرقَانَ عَلَى عَبدِهِ لِيَكُونَ لِلعَالَمِينَ نَذِيرًا\" و\"الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبدِهِ الكِتَابَ وَلَم يَجعَل لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأسًا شَدِيدًا مِن لَدُنهُ وَيُبَشِّرَ المُؤمِنِينَ الَّذِينَ يَعمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُم أَجرًا حَسَنًا ما كثين فيه أبدًا\"، حمدًا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، والصلاة والسلام على نبيه محمد بن عبد الله، أعرب الناس لسانًا، وأفصح من نطق بالضاد بيانًا، وعلى آله، وأ صحابه الغر الميامين إلى يوم الدين!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply