نار المحبة


بسم الله الرحمن الرحيم

 



الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:

تضطرم نار المحبة في قلوب قد هامت بمن تحب حتى ملأ عليها سمعها وبصرها وجميع حياتهاº فلا يقربون إلا من قربه محبوبهم، وأشد الناس إلى قلوبهم بغضاً هو كل من أبغضه محبوبهم.

لقد تجلت في محبوب هؤلاء القوم كل صفات الكمال والجلال والجمال التي سبت قلوب العارفين المخبتين الأواهين المنيبينº فأقبلوا على سيدهم ومولاهم إقبال العطاشى إلى معنى الحياة الحقيقيº في نعيم عجيب يطيب بالقرب من الرحيم الرحمن، الذي شغفت به القلوب الموحدة فراحت تبذل لأجل مرضاته المهج والأموال والغالي والنفيس.

الله - جل جلاله - أعظم مطلوب، وأكرم محبوب، وأعدل مرغوب، له كمال الكبرياء والعظمة والخيلاء، له القوة والسلطان، وبيده تصريف أمور الإنس والجان، كمال في الذات، وكمال في الأسماء والصفات، أحق من عبد، وأكرم من رجي، وأرأف من ملك، العزيز فلا عزة فوق عزته، والقاهر فلا قاهر فوق قهره، يعلم السر وأخفى، والسامع لكل خبيئة ونجوى \" الرحمن هل تعلم له سميا \"، لانظير له ولا مثيل له، ولا ند له ولا ضد له \" ليس كمثله شيء وهو السميع البصير \".

هذا الرب العظيم تهفو له القلوب، وتصمد إليه المخلوقات في جميع حوائجها فيقضيها لهم فلا ينقص عطائه من بحر جوده شيئاً \" يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم جاؤوني في صعيد واحد فسألونيº فأعطيت كل واحد منكم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا وضع في اليم\".

نار الحب لله اضطرمت في قلوب أوليائه حتى أحرقت بوهجها كل شيء أمامها، فنار المحبة لله تحرق بشواظها بنيان المحاب الدنيوية الزائفة، وتحرق بلظاها أركان الشرك البائسة، بل إن نار جهنم التي أعدها الله لغلاظ القلوب من المجرمين المتهوكين في حمأة المعاصيº هذه النار تخاف من نار المحبة التي في قلوب المحبين حيث يقول الجنيد - رحمه الله -: قالت النار: يا رب لو لم أطعك هل كنت تعذبني بشيء أشد مني؟ قال: نعم كنت أسلط عليك ناري الكبرى. قالت: وهل نار أعظم مني وأشد؟ قال: نعم، نار محبتي أسكنتها قلوب أوليائي.

نعم إنها نار محبة الله - عز وجل - التي أيقظت قلوب عباده الصالحين، فجعلوا من أجسادهم خلايا نحل تتحرك في كل اتجاه طلباً لمرضاة الله – عز وجل - من جميع الأبواب، فلم يبق باب من أبواب الخير إلا طرقوه طلباً لمرضاة مولاهم، وطمعاً في القرب من محبوبهم، ففي باب الفرائض لهم القدح المعلى، وفي باب النوافل هم عنوان مفاتحه، وصولجان ملكه، لهم في دياجير الظلم أزيز كأزيز المرجل، في عتمات الظلمة تضيء وجوههم بنور تلك الدموع التي تترقرق على خدودهم حباً لله وشوقاً للقاء الله، وخضوعاً بين يدي الله، وإخباتاً لله رب العالمين، يقول بعض العارفين: \" أليس عجباً أن أكون حياً بين أظهركم، وفي قلبي من الاشتياق إلى ربي مثل شعل النار التي لا تنطفئ\".

أولئك قوم الله وليهم، لا هم لهم في سواه، فقد شغلهم همهم بالله – عز وجل - عن كل هم، لم تغرهم المناصب، لم تكن الدنيا في أنظارهم إلا كمثل الهبائة أو هي دون ذلك، و والله الذي لا إله غيره لو لم يكن في هذه الدنيا ما فيها من ذكر الله وعبادته وما فيها من الصلاة والزكاة والحج والصوم وسائر أنواع الملذات من العبادات في هذه الدنياº أقول والله لولا كل ذلك لما طابت لهم الدنيا يوماً واحداً يقول أحد السلف: \" لولا ثلاث ما وددنا البقاء في هذه الدنيا: صيام الهواجر، ومزاحمة العلماء بالركب، ومجالسة إخوان لنا ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر \" وكل ما ذكر مما سبق هو مما يعين على محبة الله وعلى القرب من الله الذي جعلوه كل همهم، وجعلوا معه كل مدع لحب الله وهو عنه مشغول جعلوه كاذباً في همه لأن واقعه يكذب دعواهº ولذلك قال بعضهم: \" من أخبرك أن الله وليه وله همة في غيره فلا تصدقه \"، وكان داوود الطائي يقول في جوف الليل: همك عطل علي الهموم، وحال بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك أوبق مني الملذات، وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك يا كريم\".

لقد عرف هؤلاء القوم معنى كلمة التوحيد التي قادتهم إلى هذا الحب العظيم لله - تبارك وتعالى - فقادهم ذلك الحب وذلك الفهم إلى العمل وفق ما يرضى المحبوب الأجل، ولهذا كان حقاً على الله - عز وجل - أن يدخل كل من قال لا إله إلا الله صادقاً من قلبه جنة عرضها السماوات والأرض، لأنها حركتهم إلى العمل، ودفعهم حب الله - عز وجل - وصدقهم في ذلك إلى أن يبادروا بالاجتهاد طلباً لعفو الرحيم الرحمن والكريم المنان، وذلك لأن \" من صدق في قول لا إله إلا الله لم يحب سواه، ولم يرج إلا إياه، ولم يخش أحداً إلا الله، ولم يتوكل إلا على الله، ولم يبق له بقية من آثار نفسه وهواه، ومع هذا فلا تظنوا أن المحب مطالب بالعصمة, وإنما هو مطالب كلما زل أن يتلافى تلك الوصمة\" كما قال ابن رجب - رحمه الله -.

قال الشعبي - رحمه الله - \" إذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب \" ومعنى هذا الكلام ليس العصمة وإنما معناه أن الله له عناية بمن يحبه، فكلما كبا أو زل في هوة الهوى أخذ الله بيده، ومنَّ عليه بالتذكر والأوبة، وأرشده بفضله إلى طريق التوبة والعودة.

فاللهم اجعلنا ممن أحببته وأخذت بيده إلى طريق التوبة، يا خير من دعي، ويا أبر من ابتغي، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply