بسم الله الرحمن الرحيم
إذا كانت آيات الكتاب العزيز قد تضافرت على وجوب إخلاص الدعاء لله – سبحانه -، والتوجه إليه وحده رغبة ورهبة، فقد جاءت السنة المطهرة بتأكيد ذلك المعنى وتشديد النكير على كل من يجعل لله ندّا، يتوجه إليه في دعائه، ويطلب منه ما لا يقدر عليه غيره، ومن ذلك الحديث المشهور عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: \"يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، طويت الصحف وجفَّت الأقلام\".
وفي الصحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم؟ فقال: \"أن تجعل لله ندّا وهو خلقك\". ومعنى الند: المساوي الذي يُجعل له من الحق في الدعاء والعبادة مثل ما لله - عز وجل -.
وقد جاء في حديث آخر: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"إنه من لم يسأل الله يغضب عليه\". {\"صحيح الترمذي\" (ح2686}).
وعلى الجملة: فالدعاء من أعظم العبادات القولية والقلبية التي يجب إخلاصها لله جل ذكره، وهذا أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام، بل ومن كل دين بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، ولكن الشياطين تلبس على الناس في هذه العبادة، وتزين لهم أن يتخذوا فيها الوسائط والشفعاء التي تقربهم من الله زلفى وترفع إليهم أدعيتهم وحوائجهم، ومن جملة تلبيسه عليهم في هذا الباب أن يقول لهم: إنكم قد أسرفتم على أنفسكم في ارتكاب الذنوب والمعاصي التي أبعدتكم عن الله - عز وجل - وجعلت بينكم وبينه حجابًا غليظًا فلا يعقل أن تفتح لكم أبواب السماء، ولا أن يستجاب لكم دعاء حتى تتوسلوا إلى الله فيه ببعض الصالحين من عباده، وبذلك صرفهم عن ابتغاء الوسيلة إلى الله بما شرعه هو وجعله وسيلة مقبولة عنده، لا ابتداع وسائل لم يأذن بها ولم ينزل بها من سلطان، وينكشف ذلك التلبيس بأنه إذا كان اتخاذ الوسائط مانعًا من إجابة الدعاء كان الشرك أولى بذلك، ولهذا أنكر الله على المشركين قولهم: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى {الزمر: 3} قولاً من عند أنفسهم بلا حجة ولا دليل.
وأما ما يشغب به القبوريون في هذا الباب من آثار فلا يصح منها شيء، اللهم إلا حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما وقوله: \"اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك الآن بعم نبينا فاسقنا. فيسقون\"، على أن الحديث حجة عليهم لا لهم، فإن عمر - رضي الله عنه - لم يتوسل بذات العباس وشخصه، وإنما توسل بدعائه، فإن التوسل بالذوات لو كان جائزًا لما عدل عمر ومن معه من المهاجرين والأنصار عن التوسل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بالعباس، لأن ذات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل قطعًا من ذات العباس، وذاته مِّيتًا كذاته حيّا، ولكن عمر أدرك أن ما كان يملكه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الدعاء حال حياته في الاستسقاء وغيره قد بطل بموته، فقدَّم ألصق الناس رحمًا به وهو عمه صنو أبيه لينوب عنه في هذا المقام، وقد حفظ من دعاء العباس يومئذ قوله: \"اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع إلا بتوبة، وهذه نواصينا إليك بالذنوب، وأيدينا إليك بالتوبة\".
ولا أطيل الكلام في هذا الموضوع أكثر من ذلك، فإن الحق فيه أظهر من أن يخفى، ومن أراد الوقوف على جلية الأمر فيه فليرجع إلى ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وغيره من علماء السنة الذين بسطوا القول في هذه المسألة، غير أني سأنقل هنا - تتميمًا للفائدة - ملخصًا لما جاء في رسالة \"زيارة القبور\" لابن تيمية من أحكام تتعلق بذلك الأمر، عسى أن يعتبر بها أولئك الذين يروجون لهذه الضلالة فيفيئوا إلى الحق والهدى ويتركوا سبيل اللجاج والعناد.
قال - رحمه الله -: \"وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله - تعالى - مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم، أو وفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله وما به من بلاء الدنيا والآخرة وانتصاره على عدوه وهداية قلبه وغفران ذنبه أو دخول الجنة أو نجاته من النار أو أن يتعلم العلم والقرآن أو أن يصلح قلبه ويحسن خلقه ويزكي نفسه وأمثال ذلك فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من الله ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبي ولا شيخ سواء كان حيّا أو ميتًا اغفر ذنبي، ولا انصرني على عدوي، ولا اشف مريضي ولا عافني أو عاف أهلي أو دابتي، وما أشبه ذلك، ومن سأل ذلك مخلوقًا كائنًا من كان فهو مشرك به.
وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح أو يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات:
أحدها: أن يسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو مرض دوابه، أو يقضي دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله - عز وجل -، فهذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل.
وإن قال: أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمورº لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم، وكذلك أخبر الله عن المشركين قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى {الزمر: 3}، ثم يقال لهذا المشرك: أنت إذا دعوت غير الله فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على عطاء سؤلك وأرحم بك فهذا جهل وضلال وكفر، وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم، فلم عدلت عن سؤاله إلى غيره؟
وإن قلت: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته، فهذا هو القسم الثاني وهو أن لا تطلب منه الفعل ولا تدعوه ولكن تطلب أن يدعو لك فهذا مشروع في الحي، أما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا ولا اسأل لنا ربك.
وأما القسم الثالث وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عندك، أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك، افعل بي كذا وكذا فهذا يفعله كثير من الناس، لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء.
وبعد فهل آن لهذه الأمة أن تتخلص من أوحال تلك الوثنية المدمرة التي تتمثل في تلك الأقوال والأفعال المنكرة التي يرتكبها الناس عند أضرحة المشايخ من الاستغاثة بها، وطلب الحاجات منها، وتقبيل الأرض عندها، ووضع الخد عليها، والتزامها، وغير ذلك مما رجع بنا إلى جاهلية شر من الجاهلية الأولى، إنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد