بسم الله الرحمن الرحيم
يَـقــصُـر بعض الناس مفهوم العبادة على الركوع والسجود فحسب.
وهي في الحقيقة أعم من ذلك وأشمل بكثير، فقد عرّفها شيخ الإسلام بقوله: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والآمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله، وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له التي خلق الخلق لها كما قال - تعالى -: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وبها أُرسل جميع الرسل. انتهى كلامه - رحمه الله -.
ومن هنا يتبيّن أن العبادة تشمل الصلاة بما فيها الركوع والسجود وتشمل الذبح والنذر والدعاء والطواف بل تشمل الطاعة والخضوع والاتباع في التشريع – كما سيأتي –.
ومن بين العبوديات الخفيّة التي قد تعـزب عن بعض الأذهان:
عبودية الهوى:
عبودية الشهوات:
عبودية الطاعة والخضوع:
----------
فعبودية الهوى كذلك سماها الله - عز وجل - حيث قال: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه)؟
وقال جل جلاله: (أفرأيت من أتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم)
قال الحسن - رحمه الله -: هو المنافق لا يهـوى شيئا إلا رَكِبَه.
وقال قتادة: هو الذي كلما هوى شيئا رَكِبَه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجـزه عن ذلك ورع ولا تقوى. اهـ.
فليس الأمر اتّباعاً لشريعة الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بل هو اتّباع لما وافق الهـوى.
فتلك عبادة الهوى (إن يتّبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس).
ومثل هذا اتّباع ما وافق رغبات النفس من الفتاوى، لا أنه يبحث عن الحق ولا أنها تطلب الحق وتنشده.
----------
وأما عبودية الشهوات:
فقد قال - عليه الصلاة والسلام -: تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض.
وفي رواية قال: تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش. رواه البخاري.
وهذا من باب الدعاء على من كان كذلك.
من كان يُوالي لشهوته ويُعادي عليها... إن أًُعطيَ رضي... وإن لم يُعطَ سخط.
يرضى لرضا الدينار والدرهم، ويسخط لسخطهما!!
يرضى للفراش الوثير واللباس الفاخر، ويسخط ويتسخّط خشونة العيش!
أو ترضى (هي) لرضا الذهب والفضة ووجودهما، وتسخط لفقدهما!!
فهذا دعاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من كان كذلك بأنه لا يُوفّق، بل يُصاب بالانتكاسة وتنقلّب عليه الأمور حتى لو أُصيب بشوكة فلا يستطيع إنتقاشها وإخراجها.
وذكر الدينار والدرهم والخميصة والقطيفة لا يُراد به الحصر بقدر ما يُراد به ذكر أمثلة لما يتهافت عليه الناس، والتي هي مما حُبِّب للناس كما في قوله - تعالى -: (زُيّن للناس حُبٌّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث) ثم قال – سبحانه - (ذلك متاع الحياة الدنيا).
فشهوات البطن قد تكون معبودة من دون الله.
وشهوات الفرج قد تكون كذلك.
والشهوة الخفية: شهوات المناصب!
وخذ على سبيل المثال ذلك المُدخِّن الذي يستأسر وينقاد ذليلاً لسيجارة!!
بل ربما تنازل عن كرامته في سبيل الحصول على سيجارة... وإن كان صبيا فربما تنازل – عياذاً بالله – عن عرضه لأجل سيجارة لعينة!
ومُدمن الخمر، ومُتعاطي المخدّرات مستعد لأن يُضحي بكل ما يملك حتى يُضحّي بمتاع بيته بل يتنازل عن عِرضِه في سبيل الحصول عليها...
فانظر – عافاك الله – كيف أصبح عبداً ذليلاً لشهوة بطنه التي ربما قتَلَته.
ولذا قال - عليه الصلاة والسلام -: من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن. رواه ابن حبان وغيره وهو حديث صحيح.
وانظر – حماك الله – إلى ذلك الذي ينحني خاضعا ذليلا تحت قدمي عاهرة فاجرة، حتى سجد أحدهم تحت قدميها فما رفع رأسه – عياذاً بالله من سوء الخاتمة – فإن من عاش على شيء مات عليه.
قال ابن القيم - رحمه الله - معلقا على قول الشاعر الخبيث:
وصلك أشهى إلى فؤادي..... من رحمة الخالق الجليل (نعوذ بالله)
قال - رحمه الله -: ولا ريب أن هذا العشق من أعظم الشرك وكثير من العشاق يصرح بأنه لم يبق في قلبه موضع لغير معشوقه البتة، بل قد ملك معشوقه عليه قلبه كله فصار عبدا مخلصا من كل وجه لمعشوقه، فقد رضي هذا من عبودية الخالق جل جلاله بعبودية المخلوق مثله، فإن العبودية هي كمال الحب والخضوع، وهذا قد استغرق قوة حبه وخضوعه وذلِّه لمعشوقه، فقد أعطاه حقيقة العبودية.
وذاك عبد الأطباق الفضائية (الدشوش) لا يستغني عنها وليس عنده استعداد أن يتنازل عن النظر إلى وجوه وعورات المومسات البغايا.
وهذه أمثلة لا يُراد بها الحصر.
----------
وأما عبودية الطاعة والخضوع:
فأوضح دليل عليها قصة عدي بن حاتم وقد دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال عدي قلت: يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم! قال: أجل، ولكن يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه، فتلك عبادتهم لهم.
وقال حذيفة: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم أطاعوهم في المعاصي.
فيا أخيّ الحبيب قف مع نفسك وفتّش عن تلك العبوديات الخفية.
ويا أخيّتي المسلمة قفي مع نفسك وسائليها وفتّشي فيها.
علما أنني لم أرد الحصر فيما ضربته من أمثلة لكنها إشارات لذوي وذوات الألباب.
----------
أخيراً:
لا تكن عبداً لغير الله، فهو سبحانه أهل الثناء والمجد، وهو أهل التقوى والمغفرة، ولا أحد غيره يستحق أن يُصرف له شيء من العبودية، ولذا قال موسى جوابا لفرعون (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) والمعنى إن كنت أنت يا فرعون الذي فعلت ذلك فأنت تستحق أن تُعبد وأنت يا فرعون توقن في قرارة نفسك أنك لست الذي تفعل ذلك كلّه.
وقد كان السلف والعلماء من بعدهم يُربٌّون تلاميذهم على عدم التّعلّق بمتاع الحياة الدنيا، وأن لا يكون المسلم عبداً لشهوة أيّـاً كانت.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد