يا أصحاب الهموم توكلوا على الحي القيوم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 




قالَ التهامي - رحمه الله - يُصوِّر حالَ الدنيا المُتقلِّبة بأهلِها:

طُبِعَت على كَدَرٍ, وأنتَ تُريدُها *** صَفواً مِن الأقذاءِ والأكدارِ!

وصدقَ - رحمه الله - فما مِن عبدٍ, إلا تمرٌّ عليه في حياتِه مَصاعِبُ وتنالُ منه فِتَنٌ ومَصائبُ، لا يُستثنَى من ذلك أحدٌ مِن العالمين مهما كان حاله، وعظمت أموالُه، وعزَّ سلطانُه، وكثرت عِيالُه.

وقد قرَّرَ القرآنُ هذه الحقيقةَ فقال الله - جلَّ جلالُه -: (ولَنَبلُونَّكم بشيءٍ, مِن الخوفِ والجوعِ ونقصٍ, من الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ وبَشِّر الصابرين الذين إذا أصابَتهم مُصيبةٌ قالوا إنَّا للهِ وإنا إليه راجعون)[1] وقال - تبارك وتعالى -: (الم أحسب الناسُ أن يُترَكوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتَنون ولقد فتنَّا الذين مِن قبلِهم فَلَيعلَمَنَّ اللهُ الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين). [2]



وصلَّى اللهُ على نبيِّ الله يعقوبº فإنه ما لاذ بأحدٍ, حينما أصابَتهُ النوائبُ وتوالت عليه المصائبُ إلا الله - عز وجل -! فقد ذكر المفسِّرون هذا المعنى عند الكلام عن حال يعقوب - عليه السلام - حينما غاب عنه ولداه بعد فقدانِ يوسف - عليه السلام -: (وتولَّى عنهم وقال يا أسفا على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم)[3] قال ابن كثير - رحمه الله -: \"أي أعرَضَ عن بَنِيهº وقال مُتذكِّراً حُزنَ يوسف القديم الأوّل: (يا أسفا على يوسف)º جَدَّدَ له حُزنُ الابنَينِ الحُزنَ الدّفين\"![4] وقال السعديّ - رحمه الله -: \"أي ظهر منه ما كَمَنَ مِن الهمِّ القديمِ والشوقِ المُقيم\"![5]



فقد أناب يعقوب - عليه السلام - إلى مولاه، ولم يَشكُ حالَه إلى سِواه، بَل تَوكَّلَ على اللهº وهذا يُبيِّنُ المعانيَ التربوية للتوكٌّلِ والإنابةِ والرَّجاءِ وصدقِ الالتجاءº كما قال صاحبُ الظلال في تفسير قولِ يعقوب - عليه السلام -: (إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون)[6]: \"في هذه الكلمات يتجلّى الشعور بالألُوهيّة في هذا القلبِ الموصولº كما تتجلّى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر ولألائها الباهر... وهذه قيمةُ الإيمانِ باللهِ ومعرفتِه - سبحانه - هذا اللونَ من المعرفة: معرفة التجلّي والشهود، ومُلابسة قُدرتِه وقَدَرِه، ومُلامسة رحمتِه ورِعايتِه، وإدراك شأن الألوهيّة مع العبيد الصالحينº إنّ هذه الكلمات(وأعلم من الله ما لا تعلمون) تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها وتعرض مذاقاً يعرفه من ذاق مثلهº فيدرك ماذا تعني هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب\"![7]



ولكننا في صراعِنا اليومي مع الحياةِ قد نغفلُ عن هذه المعانيº فنتعلَّق مِن حيث لا ندري بالعبادِ ونَجري لاهِثين وراءَ الأسبابº وننسى مُسبِّبَ الأسبابِ وربَّ العباد الذي عنده خزائنُ السماوات والأرض، يده سحَّاء الليل والنهار، الذي تفيض رحمته على عباده ولا تغيض.



ولكن سرعان ما تُسَدٌّ الأبوابُ التي نَلِجُها مُتوكِّلين على مُجرَّدِ الأسباب، وندخلُها مُعلِّقين رَجاءَنا بالعبادِº فيخيب الرجاءُ إلا في الله وتنقطعُ السٌّبُلُ إلا إلى اللهº (أمَّن يُجيب المضطرَّ إذا دعاه). فيعود إلينا اليقينُ الجازمُ وليس الخبرُ كالمعاينة بأنه لا ناصرَ إلا الله (وما النصرُ إلا من عند الله العزيز الحكيم)، فهو القادرُ على قضاء الحوائج وتيسير الأسباب، (ذلكم اللهُ ربٌّكم له المُلكُ والذين يدعون من دونِه ما يملكون من قِطمير). [8]



فالمُعِينُ والراحمُ على الحقيقةِ هو اللهº فهو أرحمُ بالعبد من أمِّه وأبيه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - حين أخذت تلك المرأةُ من السبيِ صبيّاً فألزقته ببطنِها فأرضعته: (لَلَّهُ أرحمُ بعبادِه مِن هذه بولدِها)![9] وهو العزيز الحكيم السميع العليم، كما قال الله - عز وجل - في معرضِ الأمرِ بالتوكٌّلِ عليه وحدَه: (وتوكَّل على العزيزِ الرحيمِ الذي يراك حين تقومُ وتقلٌّبَه في الساجِدين إنه هو السميعُ العليم). [10] ف\"التوكل هو اعتمادُ القلبِ على الله - تعالى - في جلبِ المنافع ودفعِ المضارِّ مع ثقتِه به، وحسنِ ظنِّه بحصولِ مطلوبِهº فإنه عزيزٌ رحيم، بعزَّتِه يقدر على إيصالِ الخيرِ ودفعِ الشر عن عبدِه، وبرحمتِه به يفعل ذلك\". [11].



فالمتوكلُ على اللهِ وحدَه يستحضرُ على الدوامِ أنَّه لا يفتح أبوابَ الرحمةِ إلا الله، فهو وحده تبارك وتعالى الذي يَضرٌّ وينفعُ، ولا ينالُ العبدُ نعمةً ورزقاً إلا من عند الله، كما قال - عز وجل -: (ما يفتح الله للناسِ من رحمةٍ, فلا ممسكَ لها وما يُمسِك فلا مُرسِلَ له مِن بعدِه وهو العزيز الحكيم يا أيها الناسُ اذكروا نعمةَ الله عليكم هل مِن خالقٍ, غير الله يرزقكم مِن السماءِ والأرضِ لا إله إلا هو فأنَّى تُؤفَكون). [12]



يا مَن ألوذُ به فيما أؤمِّلُه *** ومَن أعوذُ به ممَّن أحاذِرُهُ



لا يجبر الناس عظما أنت كاسِرُهُ *** ولا يَهِيضُون[13] عظماً أنتَ جابِرُهُ

وحينما تُعَمِّرُ هذه المعاني قلوبَناº فلا تتعلقُ بما عند الناسِ، ولا تطمعُ فيما بين أيديهم، بل تتوجَّه إلى الله ربِّ العباد وخالقِ الأسباب وفاطرِ السماوات والأرضِ الذي يقول للشيء: كنº فيكون، حينئذٍ, يبدو المَخرجُ ويأتي الفَرَجُ ويصيرُ العسرُ يُسراً من حيث لا يحتسب العبدُ وتتنزَّلُ عليه الرحمةُ فيستقبل نسيمَها العليل، ويتفيَّأ ظلَّها الظليلº فيحمد اللهَ وحدَه ويشعر بحلاوة العبودية ولذة الطاعة وأُنسِ القُربِ من الله بعد أن تحرَّرَ القلبُ من قيودِ الأسباب.



ذلك أنَّ التوجهَ الصحيحَ لله ربِّ العالمين يتحققُ عند اشتدادِ الهمِّ والغمِّº لا سيما في أيامِ المصائبِ وساعات الكربِ والضيقِ، حينما يُفقَد الرفيق ولا ينفعُ الصديقº فالعبدُ إذا أصابَه الضٌّرٌّ وانسدَّت أمامَه السٌّبلُº أظهرَ الذٌّلَّ والفقرَ، وأقبلَ على الله بقلبٍ, مُنكسِرٍ, يدعوه رَغَباً ورَهَباً، ويُقبل عليه مُحتاجاً مضطرّاً، ثخينَ الدمعِ حزينَ القلبِ، خاشعاً متضرِّعاً، ويقوم بين يدي ربِّه رافعاً حاجتَه متبرِّئاً من حَولِه وقُوَّتِِهº فإذا رأى اللهُ صِدقَ التجائه وحقيقةَ إنابتِه وحرارةَ دعائهº فرَّجَ كربَه وعجَّلَ نجاتَه، كما قال - تعالى -: (وإذا مسَّ الإنسانَ ضرُّ دعا ربَّه مُنيباً إليه ثم إذا خَوَّلَه نعمةً منه نسيَ ما كان يدعو إليه من قبلُ)،[14] (قل من يُنجِّيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخُفيةً لئن أنجانا لنكوننَّ من الشاكرين قُل اللهُ ينجِّيكم منها ومن كلِّ كربٍ, ثم أنتم تشركون). [15] (قل أرأيتكم إن أتاكم عذابُ الله أو أتتكم الساعة أغيرَ اللهِ تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تُشركون). [16]



ورحم الله البخاري فقد أخرج في كتاب (الأذان) باب (إذا بكى الإمام في الصلاة) قولَ عبد الله بن شداد: (سمعتُ نشيجَ عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ (إنما أشكو بثِّي وحزني إلى الله). [17]



ولله در صاحب الظلال حيث قال: \"مِن رحمةِ الله أن تحس برحمة اللهº فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك ولكنَّ شعورك بوجودِها هو الرحمة، ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة، وثقتك بها وتوقعها في كل أمرٍ, هو الرحمة... ورحمة الله لا تعز على طالبٍ, في أي مكانٍ, ولا في أيِّ حالٍ,º وجدَها إبراهيمُ - عليه السلام - في النار، ووجدها يوسف - عليه السلام - في الجُبِّ كما وجدها في السجن، ووجدها يونس - عليه السلام - في بطن الحوت في ظلماتٍ, ثلاث، ووجدها موسى - عليه السلام - في اليمِّ وهو طفلٌ مُجرَّدٌ من كل قوةٍ, ومن كلِّ حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدوُّ له متربِّصٌ به ويبحث عنه، ووجدها أصحابُ الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدٌّورº فقال بعضُهم لبعضٍ,: (فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربٌّكم من رحمته)، ووجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبُه في الغار والقومُ يتبعونهما ويقصون الآثار، ووجدها كلٌّ من آوى إليها يأساً من كلِّ من سواهاº مُنقطعاً مِن كلِّ شُبهةٍ, في قوةٍ,، وعن كلِّ مَظِنَّةٍ, في رحمةٍ,، قاصداً بابَ اللهِ وحدَه دون الأبواب\"![18]



فثِقُوا بربِّكم يا أهلَ الهُمومِ والغُموم، والجَأوا إلى اللهº فلا يُرجَى أحدٌ سِواهº (أمَّن يُجيب المضطرَّ إذا دعاه)! فهو ربٌّ العالَمين الذي بيده خزائنُ السموات والأرض، وهو أرحمُ الراحِمين وأكرمُ الأكرمين الذي يَقضِي الدَّينَ عن المَدِينِين ويُفرِّجُ كربَ المَكروبين ويُنفِّسُ همَّ المهمُومِين. وهو اللطيفُ بعبادِه، العليمُ بحوائجِهم، الخبيرُ بمصالحِهم، وهو أرحمُ بهم من آبائهم وأمهاتِهمº (ومَن يتوكَّل على اللهِ فهو حسبُه إنَّ اللهَ بالغُ أمرِهِ قد جعلَ اللهُ لكلِّ شيءٍ, قدراً). [19] \"وإذا كان الأمرُ في كفالةِ الغنيِّ القويِّ العزيز الرحيمº فهو أقربُ إلى العبدِ من كلِّ شيءٍ,\". [20] فهو المُستَعانُ وعليه التكلان.



____________________

[1] البقرة 155 - 156.

[2] العنكبوت 1 - 3.

[3] يوسف 84.

[4] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/633.

[5] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان ص 404.

[6] يوسف 86.

[7] في ظلال القرآن لسيّد قطب - رحمه الله - 13/2016.

[8] فاطر 13.

[9] رواه البخاري ومسلم.

[10] الشعراء 217 - 220.

[11] تيسير الكريم الرحمن ص 599.

[12] فاطر 2 - 3.

[13] قال ابن فارس: \"الهاء والياء والضاد: كلمةٌ واحدةٌ تدل على كسرِ شيءٍ,، وما أشبهه، يقال: هاضَ عظمه: كسره بعد الجبر.. \" معجم مقاييس اللغة لابن فارس 6/24.

[14] الزمر 8.

[15] الأنعام 63 - 64.

[16] الأنعام 40 - 41.

[17] فتح الباري بشرح صحيح البخاري. لابن حجر 2/441.

[18] في ظلال القرآن 22/2923.

[19] الطلاق 3.

[20] تيسير الكريم الرحمن ص 871.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply