بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين :
فإن الله عز وجل خالق كل شيء، وربه ومليكه وإلهه ، وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره ، (وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ, فَقَدَّرَهُ تَقدِيرًا ). فكل شيء مما سواه مخلوق مربوب، ومن خلق الله عز وجل الإنسان: (الَّذِي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ, خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ, ).
خلقه سبحانه وقدره تقديراً، فأوجده من العدم، وقدره وهيأه وخصه بخصائص، وميزه على كثير من خلقه ، وفضله تفضيلاًº ومن ذلك تهيئة الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير، واستنباط الصنائع وابتكار الأشياء المتنوعة، ومزاولة الأعمال المختلفة إلى غير ذلك مما هيئه الله في الإنسان وللإنسان من نعم عظيمة لا تعد ولا تحصى (وَإِن تَعُدٌّوا نِعمَةَ اللَّهِ لَا تُحصُوهَا ).
وفي ذلك كله آيات للسالكين وعبر للمتأملين ودلائل للمعتبرين :
وفي كل شيء له آية **** تدل على أنه واحد
ورغم ذلك فإن أعظم حقيقة يغفل عنها الكثير من الناس، مع أنها حقيقة واضحة بينة لا يزيغ عنها إلا هالكº ألا وهي الغاية التي خُلقوا من أجلها !
فماذا ترجو ممن يجهل الحكمة من خلقه، أو أنه يعلم ولكنه لا يعمل بمقتضى تلك الحكمة، فكانت مصيبته عند ذلك أعظم.
فلماذا خلقنا الله ؟
إذا رجعنا إلى كتاب الله الحكيم عرفنا أن جوابه سهل والحمد لله يسير على من يسره الله عليه يعرفه أصحاب الفطر السليمة والعقول السديدة والقلوب المبصرة
لقد خلقنا الله عز وجل لغاية واحدة : فقال عز وجل: (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ ) الذاريات (56)
خلقنا سبحانه من أجل عبادته وشكره وذكره، وأمرنا بذلك فقال: ( يَأيٌّهَا النَّاسُ اعبُدُوا ربَّكُمُ الذَِّي خَلَقَكُم وَالذِّينَ مِن قَبلكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ(21) الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرضَ فِرَاشًا وَالسَّمآءَ بِنآءً وَأنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَاَءً فَأخرَجَ بِهِ مِن الثَّمراتِ رِزقًا لّكُم فَلاَ تَجعَلُوا لَلَّهِ أندَادًا وَأنتُم تَعَلُمونَ ) البقرة (22،21)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ( الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة ) وهذا كلام عالم عارف استرشد وعقل
تأمل سـطور الكائنـات فإنـها ******** من الملأ الأعلى إليك رسـائل
وقـد خط فيها لو تأملت خطها ******** ألا كل شيء ما خلا الله باطـل
وقال تعالى: ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبٌّكُم لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ, فَاعبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, وَكِيلٌ) سورة الأنعام(102)
قال ابن القيم رحمه الله : لم يخلق الله العالم عبثا ، وأما الحق الذي هو غاية خلقها فهو غاية تراد من العباد وغاية تراد بهم فالتي تراد منهم أن يعرفوا الله تعالى وصفات كماله عز وجل وأن يعبدوه لا يشركوا به شيئا فيكون هو وحده إلههم ومعبودهم ومطاعهم ومحبوبهم ا هـ
فالغاية التي خلقنا من أجلها تنبني على أمرين :
الأول : معرفة الله بأسمائه وصفاته.
الثاني : عبادة الله وحده لا شريك له بمقتضى هذه المعرفة
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : فإن العلم بالله وأسمائه وصفاته هو أشرف العلوم على الإطلاق وهو مطلوب لنفسه مراد لذاته قال الله تعالى : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبعَ سَمَاوَاتٍ, وَمِن الأَرضِ مِثلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمرُ بَينَهُنَّ لِتَعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَد أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ, عِلمًا ) فقد أخبر سبحانه أنه خلق السموات والأرض ونزل الأمر بينهن ليعلم عباده أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فهذا العلم هو غاية الخلق المطلوبة وقال تعالى : ( فَاعلَم أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) فالعلم بوحدانيته تعالى وأنه لا إله الا هو مطلوب لذاته
وان كان لا يكتفى به وحده بل لا بد معه من عبادته وحده لا شريك له فهما أمران مطلوبان لأنفسهما أن يعرف الرب تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وأن يُعبد بموجبها ومقتضاها فكما أن عبادته مطلوبة مرادة لذاتها فكذلك العلم به ومعرفته أيضاً ا هـ
وقال تعالى: ( وَقَضَى رَبٌّكَ أَلا تَعبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَينِ إِحسَانًا إِمَّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو كِلاهُمَا فَلا تَقُل لَهُمَا أُفٍّ, وَلا تَنهَرهُمَا وَقُل لَهُمَا قَولا كَرِيمًا ) سورة الإسراء (23)
فنحن كمسلمين لا نعبد \" إِلا إِيَّاهُ \" وهذا هو التوحيد، وحقيقة دعوة الرسل الذين جاءوا جميعاً لتعليم الناس هذا المفهوم، حتى جاء دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، ولن يقبل من أحد غيره ولذلك لم يكن علينا الإيمان والعمل به فقط، ولكن الدعوة إليه كما قال عزّ وجلّ : ( قُل يَا أَهلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَةٍ, سَوَاءٍ, بَينَنَا وَبَينَكُم أَلا نَعبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشرِكَ بِهِ شَيئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعضُنَا بَعضًا أَربَابًا مِن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوا فَقُولُوا اشهَدُوا بِأَنَّا مُسلِمُونَ ) سورة آل عمران ( 64).
فكان نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رحمة للعالمينº جاء لتعليم الناس الغاية من خلقهم على الصورة الصحيحة ,ولم يكن ذلك خاصاً بقومه ومن آمن به في ذلك الوقت فحسب بل كانت دعوته عامةً للبشرية جمعاء إلى قيام الساعة.
وهكذا أمر الله سبحانه تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: ( قُل يَا أَيٌّهَا النَّاسُ إِن كُنتُم فِي شَكٍّ, مِن دِينِي فَلا أَعبُدُ الَّذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن أَعبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم وَأُمِرتُ أَن أَكُونَ مِنَ المُؤمِنِينَ ) سورة يونس (104)
والعبودية تشريف للعبد:
ومما زادنـي شـرفاً وفخرا********وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي********وأن صيرت أحمد لي نبياً
والله عز وجل شرف نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بالعبودية الكاملة وشهد له بها، ووصفه بالعبودية في موطن من أشرف المواطن ، وموقف من أجل المواقف فقال في أول سورة الإسراء (سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ لَيلًا مِن المَسجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسجِدِ الأَقصَى .. الآية ) ولم يقل بنبيه أو برسوله ولكنه قال (بِعَبدِهِ) وهكذا شرع له ولأمته في هذه الليلة أعظم ركن من أركان الإسلام وأجل عبادة يتعبد بها الإنسان وهي الصلاة
فلو فهم القائل هذا المعنى وأن البشر جميعاً بما فيهم الأنبياء عبيد لله ما قيل هذا الغلو في حق حبيبنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ******** سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي ******** إذا الكريم تجلى باسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ********ومن علومك علوم اللوح والقلم
وهذا الكلام شرك أكبر فكيف يستغاث بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وهو ميت وقد قال تعالى ( إنك ميت ) والميت لا يقدر على شيء وإنما تكون شفاعته يوم القيامة ولو كان كذلك لكان الصحابة أسبق الناس إلى هذا الأمر ولكنهم لم يفعلوه لأنه كانوا يعبدون الله ولهذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : \" من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت \"
وكثير من المسلمين يعرف من خلقه بل وحتى الكافر لو سألته من خلقك ؟
فسيجيبك \" الله \"
ولئن سألته من ربك ؟ فسيجيبك أيضاً \" الله \"، فيقرون بتوحيد الربوبية و كما قال تعالى : ( وَلَئِن سَأَلتَهُم مَن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤفَكُونَ )
ولكن يجحدون أو يجهلون توحيد الألوهية فإذا نظرت إلى فعله لوجدته لا يطابق مقتضى إقراره بربوبية الله عز وجل من عبادة وتوحيد خالص لله فهو بالله يشرك ويلحد كما يفعل المغضوب اليهود عليهم والضالين النصارى وغيرهم من أتباع الديانات المنحرفة والمبتدعة والله تعالى يقول : ( وَاعبُدُوا اللَّه وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً ) (النساء:36) .
وقد يكون الشخص مسلماً بالظاهر، يظن أنه على الحق ويزعم أنه يعلم الحكمة من خلقه وأنه يعبد الله حق عبادته، ولكنه في الحقيقة يصرف أنواع كثيرة من العبادات إلى غير الله: ( فيدعو غير الله ويقول يا عيدروس ويا عبد القادر ويا رفاعي ويا بدوي أو يدعو معه غيره فيقول بجاه فلان ومنزلة علان أشفني وارزقني ويذبح لغير الله ، وينذر لغير الله ويحلف بغير الله ويقول أنا أعبد الله وعقيدتي صحيحة وإيماني كامل بل ويظن أنه على الحق الذي أنزل من السماء فينطبق عليه قول الله تعالى في سورة الكهف : ( قُل هَل نُنَبِّئُكُم بِالأَخسَرِينَ أَعمَالًا(103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَهُم يَحسَبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعًا ) (104)
يقول الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة، فإذا عرفت أن الشرك اذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار، عرفت أن أهم ما عليك: معرفة ذلك، لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة وهي الشرك بالله الذي قال الله تعالى فيه: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) النساء (48) ا هـ
فلو عرفت البشرية الغاية الأساسية من خلقها ، وفهمتها فهماً صحيحاً مبيناًَ على الكتاب والسنة وفهم الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً والقرون الأولى المفضلة ومن سار على نهجهم من سلف الأمة لأدى ذلك إلى نتيجة واحدة وهي عبادة الله على التوحيد الذي لو امتثل امتثالاً صحيحاً انتهت مشاكل العباد، وزالت عنهم الغشاوة، وارتاحوا من التعب والنصب، وأزيل عنهم الهم والغم.
فلا أظن أن عاقل يعرف أنه خلق لعبادة الله ثم يشرك به ويدعو غيره أو يذبح لغيره.
ولا أظن أن عاقلا عرف أنه خلق لعبادة الله ثم يرتكب الحرام، فيكسب عن طريق الربا والميسر وغير ذلك من أنواع الكسب المحرم كالسرقة والتزوير والغش وأنواع المقامرة والتحايل على شرع الله.
ولا أظن عاقلاً عرف أنه خلق لعبادة الله يصيبه الحزن، أو ينال منه الهم والغم لمصيبة دنيوية من كمرض أو عاهة أو خسارة مالية أو شح يد بل حتى فقر مدقع ، أوفقد حبيب وبعد قريب وغير ذلك من مصائب الدنيا، لأنه يعلم أن (كُلٌّ مَن عَلَيهَا فَانٍ, ). فلا بقاء فيها ولا دوام ، وإنما هي دار بلاء وامتحان ، فالكيّس الفطن يتأمل ذلك ويحاسب نفسه ويتقي ربه سبحانه بفعل ما أمر وندب وترك ما نهى عنه وزجر، وهذه هي العبادة التي خلق من أجلها الخلق .
فعلى المسلم أن يحمد ربه ويشكره على أن هداه ووفقه للإسلام ، فغيره يعبد الصليب وبعضهم يعبد التماثيل والأوثان وآخرون يعبدون الشمس والقمر وأنواع من الدواب كالبقر وحتى الفئران يوجد من يعبدها ويخصص لها المعابد الفخمة إلى غير ذلك من أنواع الطواغيت.
فالحمد لله الذي أنعم علينا بالصراط المستقيم وجعلنا من عباده المؤمنين
والله أسأل أن يصلح أحوال أمتنا وأن يردنا إليه رداً جميلاً وأن يرزقنا الإخلاص ويوفقنا لما يرضيه عنا وأن يعنينا على شكره وذكره وحسن وعبادته إنه أعظم مسئول وأقرب مأمول إنه جواد كريم
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد