بسم الله الرحمن الرحيم
فإن الغايةَ التي خلقَ الله الإنسَ والجنَّ لها، وبعثَ جميعَ الرُسلِ يدعون إليها هي عبادتهº كما قال الله - تعالى -: {وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ (56)} [سورة الذاريات: 56].
قال ابن كثير - رحمه الله -: وَمَعنى الآية أنَّه- تبارك وتعالى- خَلَقَ العِبادَ ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعَهُ جازاهُ أتمَّ الجزاء، ومن عصاهُ عذَّبه أشدَّ العَذابِ وأخبرَ أَنَّهُ غَيرُ محتاجٍ, إليهم بل هم الفُقراء.
وهذه العِبادة المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والإعراض عمّا سواه، وذلك متوقف على معرفة العبد لنفسهº ومعرفته لربه، فمعرفة العبد لنفسهº وأنه مهما بلغ به الجاه والسلطان والمالº فهو عاجز ضعيف، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، كُلَّما عَلِم من نفسه ذلك تصاغرت نفسه أمامه، وذهبَ كبرياؤهُ وعظم افتقاره، وكُلَّما عَلِم عن ربه وخالِقهِ الذي خَلَقه فَسَوّاهº عَظُمَ ذلك الافتِقارُ وزاد تذللا بين يدي ربه ومولاه، وانقطع رجاؤه عمن سِواه، وكُلَّما عَلِم مِن أسمائهِ وصفاتهِ انخلعَ إجلالا لربِّهِ وتعظيماً لمقامِهِ، وهيبةً لسطوتهِ وجبروتهِ وسلطانهِ وعَلِمَ أنَّهُ بغيرِ الله لا شيء، وأنَّ أَقلَّ ما يقولُ عَن نفسهِ -متحسراً: والهفاه!! مضى العابدون والصّالحون وقُطِعَ بي.
وَعَلِمَ أَنَّهُ لن يَنفَكَّ عَن عبادتِهِ طَرفَةَ عَينٍ,، وَأَنَّهُ إِن حدثَ ذلك هَلكَ وعَطَب، وكُلَّما تبين له من آياتِ الله كَلَّما تجرَّد قَلبُهُ مِن كُلِّ حُظُوظِ النَّفسِ وأهوائِهاº كُلَّما ظَهَرَ أَثَرُ العِبادَةِ على كُلِّ ذَرَّةٍ, فيه قال - تعالى -: {قُل إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ (163)} [سورة الأنعام: 162-163].
فإنَّ لله عَلَى عِبَادِهِ عُبُودِيَّةً في جميعِ الأَماكِنِ والأَزمانِ، وعُبُودِيةً في السَّراءِ والضَّرّاءِ، وله عليهم عبودية فيما يُحبُ العبدُ ويَكره.
وأكثر الخلق قد يُعطُون العُبوديةَ في مكانٍ, دُونَ مَكان، أو زَمانٍ, دُونَ زمان، يُعطون في السَّرّاءº فإذا ابتُلُوا بالضَّرّاءِ تعطَّلوا، ويُعطُون فيما يُحبٌّونº فإذا ابتُلوا بما يَكرَهُون مَنَعُوا، ومن هنا تتفاوتُ مراتبُ العِبادº وبحسبه كانت مَنَازِلهم عند الله - تعالى -.
ولذلك يجبُ أن يكون العبدُ ممن إذا أَنعَمَ الله عَليهِ شَكر، وإذا ابتلاهُ صَبَر، وإذا أَذنَبَ استغفرَ، إِن كَانَ بأرضِ الطّاعَةِ حمدَ وشَكَرَº وَكَانَ مِعوَانا على الخيِر، وإن كان بأرضِ المعصيةِº أَمَرَ ونهى وغَضِبَ وزَجَر، فإنَّ هذه الأمور هي عُنوانَ سعادةِ العبد، وعلامةَ فلاحهِ في دنياه وأُخراه، ولا ينفك عبدٌ عنها أبداً فإن العبدَ دائمُ التقلبِ بين نِعَمٍ, ومحنٍ, وذنوب.
فالأول: نِعَمٌ من الله - تعالى -تترادف عليه فَقَيدُها الشٌّكر، وهذا لا بد فيها من الاعترافِ بها باطِنا، والتحدثِ بها ظاهرا، وتَصرِيفِها في مرضاةِ وليها ومُسدِيها ومُعطِيها، فإذا فَعَلَ ذلك فقد شَكَرَهَا مع تقصيرِهِ في شُكرها.
الثاني: مِحَنٌ مِن الله - تعالى -يَبتَلِيهِ بها فَفَرضُهُ فيها الصَّبرُ والتَّسَلِّي، والصَّبرُ: حَبسُ النَّفسِ عَن التَّسَخٌّطِ بالمقدورِ، وحَبسُ اللِّسانِ عن الشَّكوى، وحَبسُ الجوارحِ عن المعصيةِ كاللَّطمِ وشقِ الثيابِ ونتفِ الشَّعرِ ونحوه.
الثالث: ذُنُوبٌ تَتَرَادَفُ على العبدِ فَلا بُدَّ أَن يتوبَ مِنهَا، ويستغفرُ الله - عز وجل -، ولا بُدَّ أن يُحدِثَ له ذَلِكَ نَدَماً وانكساراً و ذِلَّةً، ويَرَى ذَنبَهُ أَمَامَهُ لا يَغِيبُ عَنهُ فَيُحدِثُ له افتقاراً ومَسكَنةً.
فمدارُ الصبرِ عَلَى هَذِهِ الأَركَانِ الثلاثة، فإذا قامَ به العبدُ كما ينبغي انقلبت المحنة في حَقِّهِ مِنحَة، واستحالت البلِيَّةُ عَطِيَّةً، وصارَ المكروهُ محبوباً، فإن الله - سبحانه وتعالى - لم يبتله ليهلكهº وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته له - سبحانه وتعالى -.
ولذلك ابتلى الله العباد بتنوع العبادات من واجبات ومنهياتº تخرج عن الأُلفِ والعاداتِ، ليرفع الله من سابق فيها واجتهد أعلى المنازل والدرجات.
ففيها تتفاوت مراتب العباد، وبحسب اجتهادهم كانت منازلهم عند الله - تعالى -، فالوضوء بالماء البارد في شدة الحر عبودية، والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية، ومباشرة الزوجة الحسناء التي يحبها عبودية، والنفقة عليها وعلى عياله ونفسه عبودية، وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية، ونفقته في الضراء عبوديةº ولكن فرق عظيم بين العبوديتين، فمن كان عبدا لله في الحالتين قائما بحقه في المكروه والمحبوبº فذلك الذي حقق العبودية كما يحب الله ويرضى، فإنهم في حفظه وتحت كنفه ورعايته - سبحانه -.
فلن يسير العبد إلى الله إلا بالعبادة ولن يهنأ بسعادة الدارين إلا بالعبادة، ولذلك كان التوحيد الذي خاطب الله به الأنبياءُ جميعا أقوامهم هو: توحيد العبادة - توحيد القصد والطلب - وهو اتجاه العبد بقلبه وأقواله وأفعاله لله - سبحانه وتعالى -، فالحركات والسكنات والنَّفَسُ والآهات، واللحظات والخطرات، لا بد أن تكون لله، بل يجب عليك أن تجعل فيك كل ذرة لله - سبحانه وتعالى -، فلن تقيم العبادة كاملة إلا إذا عبَّدت فيك كل جارحة وخشَّعت فيك كل خلية.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه: [اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعتُ وَبِكَ آمَنتُ وَلَكَ أَسلَمتُ خَشَعَ لَكَ سَمعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظمِي وَعَصَبِي]. (1)
فلله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر، وله عليه فيه نهي، وله فيه نعمة به، وله منفعة ولذة، فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيهº فقد أدى شكر نعمته عليه فيه، وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به، وإن عطل أمر الله ونهيه فيهº عطله الله من انتفاعه بذلك العضو وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته.
وله عليه في كل وقت من أوقاته عبودية تقدمه إليه، وتقربه منه، فإن شغل وقته بعبودية الوقت تقدم إلى ربه، وإن شغله بهوى روحه وبطالة بلا عملº تأخر عن سيره إلى الله، فالعبد لا يزال في تقدم أو تأخر، و لا وقوف في الطريق أبدا، قال - تعالى -: {لِمَن شَاءَ مِنكُم أَن يَتَقَدَّمَ أَو يَتَأَخَّرَ (37)} [سورة المدثر: 37].
فسر الخلق ومبدأه ومنتهاه يعود إلى العبادةº تأمل قول الله - تعالى -: {وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ (56)} [سورة الذاريات: 56].
فالسبب والعلة من خلق الجن والإنس هي إفراد الله بالعبادة.
دعوة الأنبياء واحدة:
ولذلك نرى أن جميع الأنبياء جاءوا بدعوةٍ, واحدةº توحيد العبادة لله - سبحانه وتعالى -، كما صحَّ عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: الأَنبِيَاءُ إِخوَةٌ لِعَلَّاتٍ, أُمَّهَاتُهُم شَتَّى وَدِينُهُم وَاحِدٌ. (2)
أي أنهم اشتركوا في الأصول واختلفوا في الفروع.
فجميع الأنبياء دعوا قومهم بدعوة توحيد العبادة بلا استثناء.
كما قال - تعالى -: {وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رَسُولٍ, إِلاَّ نُوحِي إِلَيهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعبُدُونِ (25)} [سورة الأنبياء: 25].
وكما قال - تعالى -: {وَلَقَد بَعَثنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ, رَسُولاً أَن اُعبُدُوا اللَّهَ وَاجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل: 36].
و نرى هذا واضحا في خطاب كلِّ نبي، فهذا نوح - عليه السلام - كما قال - تعالى -: {لَقَد أَرسَلنَا نُوحاً إِلَى قَومِهِ فَقَالَ يَا قَومِ اعبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ, غَيرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ, عَظِيمٍ, (59)} [سورة الأعراف: 59].
وكما قال - تعالى - على لسان هود: {وَإِلَى عَادٍ, أَخَاهُم هُوداً قَالَ يَا قَومِ اعبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ, غَيرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65)} [سورة الأعراف: 65].
وكما قال - تعالى - على لسان صالح: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُم صَالِحاً قَالَ يَا قَومِ اعبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ, غَيرُهُ} [سورة الأعراف: 73].
وكما قال - تعالى - على لسان صالح: {وَإِلَى مَديَنَ أَخَاهُم شُعَيباً قَالَ يَا قَومِ اعبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ, غَيرُهُ} [سورة الأعراف: 85].
وكذلك إبراهيم - عليه السلام -: {وَإِبرَاهِيمَ إِذ قَالَ لِقَومِهِ اعبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوثَاناً وَتَخلُقُونَ إِفكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَملِكُونَ لَكُم رِزقاً فَابتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزقَ وَاعبُدُوهُ وَاشكُرُوا لَهُ إِلَيهِ تُرجَعُونَ (17)} [سورة العنكبوت: 16- 17].
بل نرى صاحب يس يجهر بعبوديته لله - عز وجل - أمام طغاة قومه الذين خالفوا الرسل كما قال عنه - سبحانه -: {وَمَا لِي لا أَعبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ (22)} [سورة يــس: 22].
ولذلك كان لزاما على العبد أن يَقصُدَ ربه بكُلِّ حركاته وسكناته، ويوحده في كُلِّ أمرٍ, ونهي، فلا تكون عبادة إلا بصفة القصد والطلب لله - سبحانه وتعالى -، ولذلك لا يدخل العبد الإسلام إلا بعد قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، والمشاهدة هي الإخبار بما شاهد بخلاف الغيب، ولذلك قال - سبحانه - عن نفسه: {عَالِمُ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ (9)} [سورة الرعد: 9] فالشهادة هي الرؤيا الواضحة التي لا لبس فيها ولا شبهة، ويُقصد بها رؤية القلب قبل رؤية الجوارح.
فتوحيد العبادة هو توحيد القصد والطلب، هو توحيد الإلوهية، أي أنه - سبحانه - وحده الإله المعبود المحبوبº الذي لا تصلح العبادة والذل والخضوع والحب إلا له.
وقد وصف - سبحانه - صفوة خلقه من أنبياءه وملائكته بالعبادة فقال - تعالى -: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ وَمَن عِندَهُ لا يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِ وَلا يَستَحسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ لا يَفتُرُونَ (20)} [سورة الأنبياء: 19-20].
وقال - تعالى -: {وَاذكُر رَبَّكَ فِي نَفسِكَ تَضَرٌّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهرِ مِن القَولِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُن مِن الغَافِلِينَ (205)} [سورة الأعراف: 205].
وقد ذمَّ - سبحانه - المستكبرين عنها بقوله: {وَقَالَ رَبٌّكُم ادعُونِي أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [سورة غافر: 60].
و قد بين - سبحانه - أن الشيطان ليس له على عباده سبيل فقال - تعالى -: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُستَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَانٌ إِلاَّ مَن اتَّبَعَكَ مِن الغَاوِينَ (42)} [سورة الحجر: 41-42].
وقد وصف - سبحانه - عيسى الذي ادعيت فيه الإلهية والبنوةº بأنه عبد، كما قال - تعالى -: {إِن هُوَ إِلاَّ عَبدٌ أَنعَمنَا عَلَيهِ وَجَعَلنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسرَائِيلَ (59)} [سورة الزخرف: 59].
{من كتاب العبادة واجتهاد السلف للشيخ}
----------------------------------------
(1) من حديث علي، رواه مسلم (771).
(2) علّات:إخوة لأب.رواه البخاري (3443) .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
حب
-جمان
07:58:30 2021-09-08