حقيقة التوكل


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله بعد:

 

فإن من أبرز مظاهر غربة هذا الدين، والتي لا تخفى على كل ذي عين، انتشار الجهل بشكل مذهل مخيف في أوساط الأمة، ليشمل قطاعاً عريضاً من أبنائها، فقل من يسلم منه حتى وإن حمل أعلى الشهادات، وتبوأ أكبر المناصب، والجهل الذي أعنيه هو الجهل بأصول الدين وأسس العقيدة فضلاً عن فروع الشريعة وأحكامها، ولقد نتج من ذلكم الجهل المطبق المخيف، خلل في عقائد كثير من الناس وتصوراتهم، ووقعوا في خلط عجيب، وتخبط مريب، وتكاسلوا عن فهم التوحيد رغم أهميته وجلائه ووضوحه، وإن شئت أن تتأكد مما أقول، فسل أحدهم عن المعنى الحقيقي لكلمة الإخلاص لا إله إلا الله؟ أو عن شروطها ونواقضها؟ أو سله عن حقيقة التوكل على الله أو عن معنى الخوف والرجاء أو غيرها من العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله - تعالى -؟ ستجد أن الكثيرين متخبطون في إجاباتهم، حيارى في ردودهم، رغم أن هذه الأمور المهمة لا يسوغ جهلها من عامة الناس، فضلاً عن مثقفيهم وخاصتهم، فالخطأ في فهم هذه القضايا قد يفضي إلى الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر، ومن هنا كان لزاماً تجلية هذه الأمور وتوضيحها، نصحاً للأمة ومعذرة إلى الله، واقتداءً بالأنبياء والمرسلين البادئين أقوامهم بقضايا التوحيد وأصول العقيدة.

 

ألا وإن من أهم القضايا التي يقع فيها الخلط والاضطراب: قضية التوكل.

فقد كثر المتوكلون على الملوك والأمراء والوجهاء والوزراء في قضاء حوائجهم، وكثر المتوكلون على الأطباء في شفاء مرضاهم، كما كثر المتوكلون على الموتى والأولياء في تلبية مطالبهم ورغباتهم، كما يحصل من عباد القبور في طول العالم الإسلامي وعرضه، فما حقيقة التوكل؟ وما معناه؟ وما أهميته وما ثمرته؟

هذا ما سنتناوله في هذه الرسالة والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

حقيقة التوكل هي: الاعتماد المطلق على الله - تعالى -في جميع الأمور من جلب المنافع ودفع المضار.

والتوكل عبادة عظيمة لا يجوز صرفها لغير الله الواحد القهار، فالمؤمن الصادق الموقن يتوكل على الله وحده في كل ما يأتي ويذر، فيتوكل عليه - سبحانه - في طلب الرزق والنصرة، وفي طلب الشفاء والعافية، وفي دفع السوء والضر، ويعتقد جازماً أنه لا رازق إلا الله، ولا معطي ولا مانع سوى الله، وأنه - سبحانه - الخالق المتصرف المدبر مالك الملك رب العالمين، وقد أمر الحق جل جلاله وتقدست أسماؤه بإخلاص التوكل عليه - سبحانه -، وصدق اللجأ إليه في أكثر من موضع من كتابه العزيز، فمن ذلك قوله - سبحانه -: ((وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)) (الأحزاب: من الآية48).

وقوله: ((وَتَوَكَّل عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)) (الفرقان: من الآية58).

وقوله: ((فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ)) (النمل: 79).

بل إن الله - تعالى -جعل التوكل شرطاً لصحة الإيمان فقال - سبحانه -: ((وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ)) (المائدة: من الآية23).

وقال الحكيم موسى - عليه السلام -: ((فَعَلَيهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُسلِمِينَ)) (يونس: من الآية84).

 

نماذج من توكل الأنبياء:

لقد عرض القرآن الكريم نماذج عظيمة مذهلة لتوكل الأنبياء المعظمين، والرسل المكرمين، عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وهم يواجهون أقوامهم السائرين في غيهم، التائهين في ضلالهم وفجورهم، فهذا هود - عليه الصلاة والسلام - نذر نفسه للرسالة التي حمل إياها، والأمانة التي كلف بها، فانبرى لقومه داعياً ناصحاً، ومحذراً لهم ومشفقاً، فما وجد منهم غير الكفر والفجور والسخرية، والسب الغليظ، بل إنهم ليزعمون أن آلهتهم وأوثانهم قد أصابته بشيء من عقابها، وأذاقته لعنة من لعناتها: ((قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئتَنَا بِبَيِّنَةٍ, وَمَا نَحنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَولِكَ وَمَا نَحنُ لَكَ بِمُؤمِنِينَ * إِن نَقُولُ إِلَّا اعتَرَاكَ بَعضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ,)) (هود: 53، 54).

وهنا يصرخ بهم هود صرخته المدوية، صرخة المؤمن الواثق بربه، المتوكل عليه - سبحانه -، الساخر من حمقهم وغفلتهم، المتحدي لهم ولأوثانهم أجمعين: ((قَالَ إِنِّي أُشهِدُ اللَّهَ وَاشهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشرِكُونَ. مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَا مِن دَابَّةٍ, إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ, مُستَقِيمٍ,)) (هود: 56، 55).

وأما إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فقد وقف أمام عناد أبيه وقومه، وقفة المؤمن الواثق المطمئن، فأخذ يحاج قومه باللين والرفق والحجة والبرهان، فما وجد إلا رؤوساً غادرتها عقولها، وقلوباً تمكن منها الشرك أيما تمكن، وتعلق أولئك الوثنيون بأصنامهم وأمجادهم التي تهاوت واحداً واحدا تحت مطارق إبراهيم، لا شلت يمينه، عندها أجمع المشركون أمرهم، ومكروا مكرهم، وأوقدوا ناراً عظيمة، جمعوا حطبها شهراً، وأشعلوا فتيلها دهراً، وحملوا الخليل على المنجنيق مقيداً، ليقذفوه من بعيد، واجتمع الملأ ينظرون، والناس يشتمون، فلما أيقن إبراهيم من إلقاءه في النار، ما أصابه الجزع، ولا اعتراه خوف، وإنما قال كلمته العظيمة: حسبي الله ونعم الوكيل، كلمة لا يقولها إلا المؤمنون، ولا يلهج بها إلا المتوكلون الصادقون، فلما توكل على الله كفاه ولما صدق مع الله أنقذه ونجاه ((قُلنَا يَا نَارُ كُونِي بَرداً وَسَلاماً عَلَى إِبرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيداً فَجَعَلنَاهُمُ الأَخسَرِينَ)) (الأنبياء: 69، 70).

وأما إمام المتوكلين وقائد الغر المحجلين محمد - عليه الصلاة والسلام - فسيرته ملأى بأعاجيب من توكله، وعظيم يقينه بالله - تعالى -، فقد خرج مهاجراً مع أبي بكر - رضي الله عنه -، فدخلا الغار مختبئين وحام المشركون حول باب الغار، ووقفوا على بابه تكاد قلوبهم تميز من الغيظ على محمد وصاحبه، فخشي الصديق - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُمس بأذى فقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: بكل هدوء واطمئنان، وبلغة المتوكل على ربه، المعتمد على مولاه: ((لا تحزن إن الله معنا)) (1)

وفي حمراء الأسد، جمع المشركون جموعهم، وحشدوا حشودهم لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فخرج - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بكل شجاعة واقتدار، وبكل عزيمة وإصدار، لمواجهة الجموع المتربصة، والجنود المكتظة المزدحمة، متوكلين على الله وحده، طالبين المدد منه - سبحانه -: ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَاناً وَقَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ. فَانقَلَبُوا بِنِعمَةٍ, مِنَ اللَّهِ وَفَضلٍ, لَم يَمسَسهُم سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضلٍ, عَظِيمٍ,)) (آل عمران: 173، 174).

قال ابن عباس - رضي الله عنه -: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم - عليه السلام - حين ألقي في النار، وقالها محمد - عليه السلام - حين قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم.

 

الجمع بين التوكل وفعل الأسباب:

التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب، بل إن الأخذ بها من صدق التوكل، وصحة الدين، وسلامة المعتقد، وقوة اليقين، لكن البلاء كل البلاء، والشر كل الشر، هو الاعتماد على الأسباب وحدها، ونسيان المسبب وهو الله - سبحانه -، فالاعتماد على الأسباب وحدها خلل في الدين، وترك الأخذ بالأسباب خلل في العقل، وأنا أضرب لذلك مثالاً:

فالذي يريد الأولاد والذرية لا بد له من فعل الأسباب من الزواج والنكاح، ثم التوكل على الله بعد ذلك في حصول الولد، ولا يعتمد على السبب في حصول مقصوده، فإن ذلك نقص في دينه، وخلل في عقيدته وإيمانه، وأما الذي يريد الأولاد والذرية، ثم يجلس في بيته متكئاً، من غير زواج ولا نكاح، فلا نتردد في جنونه وحمقه وغفلته وسذاجته، وكذلك المزارع في مزرعته، لا بد أن يصلح تربتها، ويبذر البذر الجيد في وقته، ثم يتعهد مزرعته بالسقي والرعاية، وبعد ذلك يتوكل على الله - تعالى -في نماء الأشجار، وحصد الحبوب والثمار، أما إن تركها صحراء قاحلة، وجرداء متصدعة، لم يهتم بحرثها ولا زرعها، وجلس في بيته وقال: إني متوكل على الله، فهو أجهل من حمار أهله، سفيه أرعن، أحمق مغفل. والتوكل على الله لا ينافي بذل الأسباب، في طلب المعيشة، وتحصيل الرزق، فالكسل والخمول لا مكان له في حياتنا، فنحن أمة البذل والعطاء، والجهد والعمل، لم نعهد السماء تمطر ذهباً ولا فضة، ويوم أن تكاسلنا وتواكلنا، أصبحنا عالة على الأمم، تصنع لنا غذائنا، وتنسج لنا لباسنا، وتسوقنا بها إلى الهاوية، وقومنا لا يشعرون، وإمام المتوكلين - صلى الله عليه وسلم -مع عظيم توكله، وصدق يقينه بالله - تعالى ، كان يأخذ بالأسباب، ولا يعتمد عليها وحدها، بل يعتمد على الله الواحد الأحد، فقد كان في حروبه الطويلة، لا يخوض معركة حتى يعد لها عدتها، ويهيئ لها أسبابها، ثم يرفع يديه إلى السماء: ((اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)) (2)

 

أقسام التوكل:

ينقسم التوكل إلى أربعة أقسام، فانتبه لها جيداً حتى لا تزل قدمك.

القسم الأول: فهو التوكل على الله - تعالى -في جميع الأمور، من جلب المنافع، ودفع الضار، وهذا القسم هو شرط من شروط الإيمان وصحته.

القسم الثاني: فهو التوكل على المخلوقين في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله - تعالى -، كإنزال المطر، أو شفاء المرضى، أو تحقيق النصر، أو غير ذلك مما هو من خصائص الربوبية، فهذا شرك أكبر، يستوجب الخلود في النار أبد الآباد والعياذ بالله.

القسم الثالث: التوكل على المخلوقين كالأمراء والسلاطين والوجهاء والمسؤولين فيما أقدرهم الله عليه من دفع الأذى ونحوه، وهذا شرك أصغر، ينافي كمال التوحيد، وينقص درجته لأنه اعتماد على الأشخاص والمخلوقين، إذ أن التوكل الخاص يجب أن يكون على الله وحده لا شريك له.

القسم الرابع: فهو توكيل إنسان للقيام ببعض المعاملات نيابة عنك، من بيع وشراء ونحو ذلك، فهذا أمر جائز، ولكن الأولى أن لا تقول: توكلت على فلان، وإنما وكلت فلاناً في قضاء حاجتي كذا وكذاº لأن المسلم يظل في جميع الأموار، معتمداً على الله وحده، متوكلاً عليه -سبحانه-

 

الحاجة إلى التوكل على الله تعالى:

أخي الكريم: إننا بحاجة جد ماسة، إلى العناية بهذا الأصل العظيم، وهذه العبادة المهملة المضيعة - أعني التوكل على الله - تعالى - فالتوكل عليه - سبحانه -، كفيل بتصحيح أوضاعنا، وانتشالنا من تخلفنا وجمودنا، وتحقيق النصر على أعدائنا وخصومنا فالله - تعالى –يقول: ((وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُه)) (الطلاق: 3).

والتوكل على الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، تحتاجه الأمة كلها على كافة المستويات، من القمة إلى القاع.

-       فالحاكم المسلم: محتاج إلى صدق التوكل على الله - تعالى -، وهو يواجه التحديات المحيطة من كل جانب، والأخطار المحدقة من كل اتجاه، وهو محتاج إلى صدق التوكل على الله، وهو يواجه الكفرة والأعداء بكل مكرهم وخبثهم وكيدهم، وبكل تخويفهم وتهديدهم، ومحتاج إلى صدق التوكل على الله وهو يواجه المرجفين في الأرض، والمنافقين المندسين في الصفوف، يزينون الباطل ويلمعونه، ويمكرون المكر الخبيث، ويحتاج إلى التوكل على الله - تعالى -في محاربة أعداء الإسلام، وجحافل الكفر والبغي، فإن النصر إنما ينزل من السماء بصدق التوكل، وحرارة الدعاء لا بكثرة عدد ولا عدة ((وَيَومَ حُنَينٍ, إِذ أَعجَبَتكُم كَثرَتُكُم فَلَم تُغنِ عَنكُم شَيئاً وَضَاقَت عَلَيكُمُ الأَرضُ بِمَا رَحُبَت ثُمَّ وَلَّيتُم مُدبِرِينَ)) (التوبة: من الآية25).

-       والتوكل على الله يحتاجه العالم الرباني: حين يُحتاج إلى كلمته العادلة الفاصلة في مجريات الأمور والأحداث، وعند حلول الفتن والنكبات، ويحتاج إلى التوكل على الله حين تشرأب أعناق الأمة منتظرة فتاويه في دقائق الأمور وعظمائها، فيقول كلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم.

-       والداعية المسلم: محتاج إلى التوكل على الله - تعالى -، أياً كان موقعه، مدرساً كان أو موظفاً، خطيباً أو مسؤولاً، فالدعوة طريق شاق طويل، تحتاج إلى صدق اللجأ إلى الله، وحسن التوكل عليه - سبحانه -، فالمتربصون بالدعوة كثر لا كثرهم الله، والواقفون في طريقها متوافرون في كل مكان وزمان.

-       والتوكل على الله - تعالى -يحتاجه رجل الحسبة، وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقطع دابر الفساد غير هياب ولا وجل، معتمداً على الله وحده، طالباً العون والتوفيق منه - سبحانه -، متبراً من حوله وقوة نفسه.

وبالجملة فالتوكل يحتاجه كل من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً.

والله أعلم....

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

-----------------------

[1] رواه البخاري (3615) ومسلم (2009) من حديث أبي بكر - رضي الله عنه -.

 

[2] رواه مسلم (1742) من حديث ابن أبي أوفى - رضي الله عنه -.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply