بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع النبيين والمرسلين،.. أما بعد: فإن الله - سبحانه وتعالى - بعث رسله الكرام معرفين به، ودعاة إلى توحيده وإخلاص العبادة له، كما قال- تعالى - : {وَلَقَد بَعَثنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ, رَسُولًا أَنِ اُعبُدُوا اللَّهَ وَاجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[1].
فأبان الله - سبحانه - في هذه الآية الكريمة أنه بعث في كل أمة من الناس رسولاً يدعوهم إلى أن يعبدوا الله وحده ويجتنبوا عبادة الطاغوت.
والعبادة هي التوحيد، لأن الخصومة بين الرسل وأممهم في ذلكº لأن المشركين يعبدون الله - سبحانه - ويعبدون معه غيره، فبعث الله الرسل تأمرهم بعبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، كما قال - تعالى -: {وَإِذ قَالَ إِبرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَومِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهدِينِ}[2] الآية.
أخبر - سبحانه - عن خليله إبراهيم أنه تبرأ من معبودات قومه، إلا الله وحده، وهو معنى قوله: {إِلا الَّذِي فَطَرَنِي}، فدل ذلك على أنهم يعبدون الله، ويعبدون غيره، فلهذا تبرأ من معبوداتهم كلها سوى الذي فطره، وهو الله وحده، فإنه - سبحانه - هو المستحق للعبادة لكونه خالق الجميع ورازقهم.
ومعنى فطرني: أي خلقني على غير مثال سبق، ومن كان بهذه المثابة فهو المستحق أن يعبد دون كل ما سواه، وقال - تعالى -: {وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رَسُولٍ, إِلا نُوحِي إِلَيهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعبُدُونِ}[3]، فبين - عز وجل - أنه أوحى إلى جميع الرسل قبل خاتمهم نبينا محمدٍ, - صلى الله عليه وسلم - أنه لا إله غيره يستحق العبادة، وأنه أمرهم بعبادته وحده.
فدل ذلك على أن جميع الآلهة المعبودة من دونه من أنبياء وأولياء وأصنام وأشجار وجن وملائكة، وغير ذلك، كلها معبودة بالباطل.
ومما يوضح هذا المعنى قوله - تعالى -: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقٌّ وَأَنَّ مَا يَدعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ}[4]، وقوله - عز وجل - عن المشركين لما دعاهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ}[5]، وقوله - سبحانه -: {إِنَّهُم كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُم لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَستَكبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ, مَجنُونٍ,}[6]، فدل ذلك على أنهم عرفوا أن كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله تبطل ما هم عليه من الشرك وتدل على أن آلهتهم باطلة.
فعلم بذلك أن لا إله إلا الله تقتضي إخلاص العبادة لله وحده، وتدل على أنه - سبحانه - المعبود بالحق، ولولا ذلك لم يستكبروا عن قولها، ولم يقولوا إنها تقتضي إبطال الآلهة جميعها.
وهذا مما خفي على أكثر الخلق، حتى ظنوا أن من قال: لا إله إلا الله فهو مسلم معصوم الدم والمال، ولو صرف الكثير من العبادة لغير الله، كالدعاء والخوف والرجاء والتوكل والذبح والنذر وغير ذلك. وهذا هو الواقع من عباد القبور، فإنهم يقولون: لا إله إلا الله، وهم مع ذلك يلجؤون إلى أصحاب القبور ممن يسمونهم بالأولياء، فيسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والنصر على الأعداء، تارةً عند قبورهم، وتارةً مع البعد عنهم.
وقد يفعلون ذلك مع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومع غيره من الأنبياء، وقد يلجؤون في حاجاتهم إلى الجن فيستغيثون بهم، ويذبحون لهم، يرجون نفعهم والشفاء لمرضاهم، والدفاع عن أنفسهم وزروعهم وغير ذلك.
وكل هذه الأمور معلومةً مشهورة، لا تخفى على من اتصل بعباد القبور، ورأى ما هم عليه من الشرك الصريح، والكفر البواح. فأرسل الله الرسل جميعهم، تنكر هذا الشرك، وتحذر منه، وتدعو إلى عبادة الله وحده، كما سبق ذلك في الآيات الكريمات.
وقد أمرهم الله - سبحانه وتعالى -، أن يعرفوا الناس بربهم وخالقهم ورازقهم، وأن يذكروا لهم أسماءه الحسنى، وصفاته العلا، الدالة على كمال عظمته وقدرته، وعلمه وإحسانه إلى عباده ورحمته إياهم، وأنه - سبحانه - هو النافع الضار، المدبر لجميع شئون خلقه، الخبير بأحوالهم، فلا يليق أن يعبدوا غيره، أو يسألوا حاجاتهم من سواه، لأنه - سبحانه - هو القادر على كل شيء المحيط علمه بكل شيء، وما سواه فقير إليه، كما قال - عز وجل -: {وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنهُم مِن رِزقٍ, وَمَا أُرِيدُ أَن يُطعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ}[7]، وقال - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ}[8]، إلى قوله - سبحانه -: {فَلا تَجعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُم تَعلَمُونَ}[9]، وقال - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيٌّ الحَمِيدُ * إِن يَشَأ يُذهِبكُم وَيَأتِ بِخَلقٍ, جَدِيدٍ, * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ,}[10]، وأخبر عن المرسلين عليهم الصلاة والسلام أنهم بلغوا أممهم عظمة الله - سبحانه -، وقدرته على كل شيء، وعلمه بكل شيء، وأنه - سبحانه - هو الذي يسمع الدعاء، ويجيب المضطر، وأنه النافع الضار، وأن يخبروهم عن معبوداتهم أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع دعاء الداعي ولا تجيبه، كما أخبروهم عن أصنامهم أنها لا تكلمهم، ولا تهديهم سبيلا، ولا تملك لهم ضراً ولا نفعاً، وكل ذلك مما يوجب إخلاصهم لله في العبادة، وتوبتهم إليه، وطلب حاجاتهم منه، وتصديق أنبيائه والتزام شريعته، كما قال - تعالى -عن نوح - عليه الصلاة والسلام - أنه قال لقومه: {استَغفِرُوا رَبَّكُم إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرسِلِ السَّمَاءَ عَلَيكُم مِدرَارًا * وَيُمدِدكُم بِأَموَالٍ, وَبَنِينَ وَيَجعَل لَكُم جَنَّاتٍ, وَيَجعَل لَكُم أَنهَارًا}[11]، وقال عن هود - عليه الصلاة والسلام - أنه قال لقومه: {أَتَبنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ, آيَةً تَعبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُم تَخلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشتُم بَطَشتُم جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنعَامٍ, وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ, وَعُيُونٍ, * إِنِّي أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ, عَظِيمٍ,}[12]، وقال عن نبيه صالح - عليه الصلاة والسلام - إنه قال لقومه: {أَتُترَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ, وَعُيُونٍ, * وَزُرُوعٍ, وَنَخلٍ, طَلعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمرَ المُسرِفِينَ * الَّذِينَ يفسدون فِي الأَرضِ وَلا يُصلِحُونَ}[13] الآيات، وقال عن خليله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -: {وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ إِبرَاهِيمَ * إِذ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومِهِ مَا تَعبُدُونَ * قَالُوا نَعبُدُ أَصنَامًا فَنَظَلٌّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَل يَسمَعُونَكُم إِذ تَدعُونَ * أَو يَنفَعُونَكُم أَو يَضُرٌّونَ * قَالُوا بَل وَجَدنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفعَلُونَ}[14] إلى قوله: {إِلا مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ,}[15].
وقال في قصة بني إسرائيل وعبادتهم العجل: {وَاتَّخَذَ قَومُ مُوسَى مِن بَعدِهِ مِن حُلِيِّهِم عِجلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَم يَرَوا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُم وَلا يَهدِيهِم سَبِيلًا}[16] الآيات. وقال في سورة طه في القصة نفسها: {أَفَلا يَرَونَ أَلا يَرجِعُ إِلَيهِم قَولًا وَلا يَملِكُ لَهُم ضَرًّا وَلا نَفعًا}[17]، والمعنى: أين ذهبت عقول هؤلاء حتى عبدوا صورة عجل، لا يرد إليهم قولاً، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً. فعلم بذلك أن الله - سبحانه - هو الضار النافع الذي يسمع الدعاء، ويجيب المضطر إذا دعاه، ويتكلم إذا شاء، وأن هذه الصفات من صفات الكمال التي يجب أن يكون المعبود بحق موصوفاً بها، بخلاف الأصنام ونحوها فإنها لا تسمع ولا تنفع ولا تضر ولا تجيب من دعاها، ولا ترجع إليه قولاً، ولا تهديه سبيلاً.
فكيف يجوز أن تعبد مع الملك الحق السميع المجيب، النافع الضار، العالم بكل شيء، والقادر على كل شيء لا إله غيره، ولا رب سواه. والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكلها ترشد إلى أن الله - سبحانه - موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص والعيب، وذلك مما يوجب توحيده وإخلاص العبادة له - سبحانه - وتوجيه القلوب إليه، والتوكل عليه في جميع الأمور دون كل ما سواه، لكونه الخلاق الرزاق المالك لكل شيء، المدبر لجميع الأمور، فلا يجوز أن يعبد معه غيره.
وقد أخبر الله - سبحانه - عن أنبيائه: نوح وهود، وصالح وشعيب: أنهم قالوا لقومهم: {اعبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ, غَيرُهُ}[18]، كما أخبر عن جميع المرسلين أنهم قالوا لأممهم ذلك كما سبقت الآيات في ذلك.
وقال - تعالى -: {وَإِبرَاهِيمَ إِذ قَالَ لِقَومِهِ اعبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ * إِنَّمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوثَانًا وَتَخلُقُونَ إِفكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَملِكُونَ لَكُم رِزقًا فَابتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزقَ وَاعبُدُوهُ وَاشكُرُوا لَهُ إِلَيهِ ترجعون}[19]، وقال - تعالى -في سورة الصافات: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبرَاهِيمَ * إِذ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ, * إِذ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومِهِ مَاذَا تَعبُدُونَ * أَئِفكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنٌّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ}[20]، وقال - سبحانه - في سورة مريم عن إبراهيم الخليل نفسه - عليه الصلاة والسلام -: {وَاذكُر فِي الكِتَابِ إِبرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعبُدُ مَا لا يَسمَعُ وَلا يُبصِرُ وَلا يُغنِي عَنكَ شَيئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَد جَاءَنِي مِنَ العِلمِ مَا لَم يَأتِكَ فَاتَّبِعنِي أَهدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعبُدِ الشَّيطَانَ إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلرَّحمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَن آلِهَتِي يَا إِبرَاهِيمُ لَئِن لَم تَنتَهِ لَأَرجُمَنَّكَ وَاهجُرنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيكَ سَأَستَغفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعتَزِلُكُم وَمَا تَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعتَزَلَهُم وَمَا يَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبنَا لَهُ إِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَكُلًّا جَعَلنَا نَبِيًّا * وَوَهَبنَا لَهُم مِن رَحمَتِنَا وَجَعَلنَا لَهُم لِسَانَ صِدقٍ, عَلِيًّا}[21]، وقال - سبحانه - في سورة الأعراف عن قوم هود: أنهم قالوا لهود - عليه الصلاة والسلام -: {أَجِئتَنَا لِنَعبُدَ اللَّهَ وَحدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعبُدُ آبَاؤُنَا فَأتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[22]، وقال في سورة يونس عن مشركي العرب، الذين بعث إليهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَيَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرٌّهُم وَلا يَنفَعُهُم وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ}[23]، فرد الله - جل وعلا - عليهم بقوله: {قُل أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرضِ - سبحانه وتعالى - عَمَّا يُشرِكُونَ}[24]، وقال في سورة الزمر: {تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلنَا إِلَيكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ فَاعبُدِ اللَّهَ مُخلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ مَا نَعبُدُهُم إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلفَى إِنَّ اللَّهَ يَحكُمُ بَينَهُم فِي مَا هُم فِيهِ يَختَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهدِي مَن هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}[25]، فأوضح - سبحانه - في هذه الآيات أن المشركين الذين بعث فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يعبدوا الأصنام والأوثان والأنبياء والصالحين وغيرهم لأنهم يضرون وينفعون، أو يخلقون أو يرزقون، وإنما عبدوهم يرجون شفاعتهم عند الله، وتقريبهم لديه زلفى، فحكم عليهم - سبحانه وتعالى - بعملهم هذا: أنهم كفار مشركون.
وفي هذا المعنى يقول- تبارك وتعالى -: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبٌّكُم لَهُ المُلكُ وَالَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَملِكُونَ مِن قِطمِيرٍ, * إِن تَدعُوهُم لا يَسمَعُوا دُعَاءَكُم وَلَو سَمِعُوا مَا استَجَابُوا لَكُم وَيَومَ القِيَامَةِ يَكفُرُونَ بِشِركِكُم وَلا يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبِيرٍ,}[26]، فأخبر - سبحانه - في هذه الآية: أن الملك لله وحده، وأنه المتصرف في جميع خلقه، وأن جميع معبودات المشركين من دون الله من جن وإنس وشجر وحجر وغير ذلك كلهم لا يملكون من قطمير، وهو القشرة التي على نواة التمر، وأنهم لا يسمعون دعاء الداعي، وأنهم لو سمعوا ما استجابواº لأنهم ما بين ميت وغائب، أو جماد لا يفعل شيئا، وأوضح - سبحانه - أن معبوديهم من دون الله، يكفرون بشركهم يوم القيامة، وينكرونه، فدل ذلك على أن تعلقهم بهم، ودعاءهم إياهم شرك بالله - سبحانه وتعالى -، كما قال - عز وجل -: {وَيَومَ نَحشُرُهُم جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشرَكُوا مَكَانَكُم أَنتُم وَشُرَكَاؤُكُم فَزَيَّلنَا بَينَهُم وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَا كُنتُم إِيَّانَا تَعبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَينَنَا وَبَينَكُم إِن كُنَّا عَن عِبَادَتِكُم لَغَافِلِينَ}[27]، وقال - عز وجل - {وَمَن أَضَلٌّ مِمَّن يَدعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَستَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ وَهُم عَن دُعَائِهِم غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُم أَعدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِم كَافِرِينَ}[28]، فأبان - سبحانه - في هذه الآيات أن جميع المعبودين دون الله يتبرءون من عابديهم يوم القيامة، ويكفرون بعبادتهم، ويخبرونهم إنهم كانوا عنها غافلين.
فما أعظم حسرة أولئك المشركين، وما أعظم خسارتهم يوم القيامة، حيث باؤوا بالخيبة والندامة واستحقوا غضب الجبار ونقمته بكفرهم به وعبادتهم معه من لا يضر ولا ينفع، ولا يغني عنهم شيئاً، وقال - عز وجل -: {وَمَن يَدعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الكَافِرُونَ}[29]، والآيات في بيان بطلان الشرك، وسوء عاقبة أهله وعظم خسارتهم يوم القيامة في كتاب الله كثيرة.
وهكذا جاء في السنة الصحيحة عن رسول الله ما يبين ضلال المشركين، وسوء عاقبتهم، وعظم خسارتهم، وأنهم لم يشركوا في توحيد الربوبية، بل هم يعلمون أن الله هو الخالق الرازق، مدبر أمورهم، وإنما أشركوا في عبادتهم مع الله غيره بالدعاء والخوف والرجاء، والذبح والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: ((إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)) وفي رواية: ((فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله))، وفي رواية للبخاري - رحمه الله -: ((فادعهم إلى أن يوحدوا الله)) وفي صحيح مسلم عن سعد بن طارق الأشجعي عن أبيه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله))، وفي رواية لمسلم بلفظ: ((من وحد الله، وكفر بما يعبد من دون الله)). الحديث..
وهذان الحديثان صريحان في وجوب توحيد الله - سبحانه -، وإخلاص العبادة له، والكفر بما يعبد من دونه.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لجبرائيل - عليه السلام - لما سأله عن الإسلام قال: ((أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المفروضة، وتؤدي الزكاة المكتوبة)) الحديث. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((بني الإسلام على خمس: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت))، وفي رواية أخرى له: ((على أن يعبد الله ويكفر بما دونه)) الحديث. وأصله في الصحيحين مرفوعا بلفظ: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)).
وروى مسلم - رحمه الله - حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان من حديث عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لجبريل لما سأله عن الإسلام: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)).
فدلت هذه الأحاديث، وما جاء في معناها على أن معنى شهادة أن لا إله إلا الله: هو توحيد الله وإخلاص العبادة له والكفر بما يعبد من دونه. وهذا المعنى هو حقيقة التوحيد الذي بعث الله به المرسلين، وأنزل به الكتب، وقام عليه سوق الجهاد، وانقسم الناس فيه إلى كافرٍ, ومؤمن، وشقيٍ, وسعيد. فالواجب على كل مكلف أن يحرص على أسباب النجاة، وأن يلتزم بتوحيد الله - سبحانه -، ويخلص له العبادة - جل وعلا -، ويكفر بعبادة ما سواه، ويتبرأ منها، ويوالي على ذلك، ويعادي عليه، كما قال الله - عز وجل -: {قَد كَانَت لَكُم أُسوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذ قَالُوا لِقَومِهِم إِنَّا برءاؤا مِنكُم وَمِمَّا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرنَا بِكُم وَبَدَا بَينَنَا وَبَينَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللَّهِ وَحدَهُ}[30]، فهذا هو دين المرسلين جميعاً، وهو الدين الذي بعث الله به خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. فعلى كل مسلم أن يعض عليه بالنواجذ، وأن يستقيم عليه، وأن يدعو الناس إلى ذلك بكل صدقٍ, وإخلاص، وأن يصبر على ما أصابه في سبيل التمسك به، والدعوة إليه كما قال الله - عز وجل - لنبيه - عليه الصلاة والسلام -: {فَاصبِر كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزمِ مِنَ الرٌّسُلِ}[31] الآية، وقال - تعالى -: {وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إِلا بِاللَّهِ}[32]، وقال - سبحانه -: {وَاصبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[33]، وقال - عز وجل -: {وَالعَصرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ, * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ}[34]، وقال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ,}[35]، والآيات في هذا المعنى كثيرة والله المسئول أن يوفقنا وسائر المسلمين وجميع الدعاة إلى الحق لكل ما فيه رضاه وصلاح أمر عباده، وأن يوفق جميع ولاة أمر المسلمين لكل ما فيه صلاح شعوبهم وهدايتهم إلى صراطه المستقيمº إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
----------------------------------------
[1] سورة النحل الآية 36.
[2] سورة الزخرف الآية 26، 27.
[3] سورة الأنبياء الآية 25.
[4] سورة الحج الآية 62.
[5] سورة ص الآية 5.
[6] سورة الصافات الآية 35، 36.
[7] سورة الذاريات الآية 56 58.
[8] سورة البقرة الآية 21.
[9] سورة البقرة الآية 22.
[10] سورة فاطر الآيات 15 17.
[11] سورة نوح الآيات 10 12.
[12] سورة الشعراء الآيات 128 135.
[13] سورة الشعراء الآيات 146 152.
[14] سورة الشعراء الآيات 69 74.
[15] سورة الشعراء الآية 89.
[16] سورة الأعراف الآية 148.
[17] سورة طه الآية 89.
[18] سورة هود الآية 50.
[19] سورة العنكبوت الآيتان 16، 17.
[20] سورة الصافات الآيات 83 87.
[21] سورة مريم الآيات 41 50.
[22] سورة الأعراف الآية 70.
[23] سورة يونس الآية 18
[24] سورة يونس الآية 18.
[25] سورة الزمر الآيات 1- 3.
[26] سورة فاطر الآيتان 13، 14.
[27] سورة يونس الآيتان 28، 29.
[28] سورة الأحقاف الآيتان 5، 6.
[29] سورة المؤمنون الآية 117.
[30] سورة الممتحنة الآية 4.
[31] سورة الأحقاف الآية 35.
[32] سورة النحل الآية 127.
[33] سورة الأنفال الآية 46.
[34] سورة العصر كاملة.
[35] سورة الزمر الآية 10.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد