بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل يمكن الاعتماد على العقل في التصديق والإيمان، بمعنى هل تستطيع أن نحيل ما جاء به الدين على العقل؟ فمثلاً إذا رأينا بعض الطوائف تقوم بطقوس معينة – بالعقل - لا تعقل فهل نستطيع أن نقول: (الحمد لله على نعمة العقل والدين)، أم أن الدين والعقل متلازمين؟، وإلى أي مدى نستطيع أن نحكم العقل، وما الأمور التي تجعلنا نقف عندها ونصدقها ولو لم يستوعبها العقل على أكمل وجه؟ (مع اعتقادي الجازم أن لاشيء في الإسلام يخالف العقل الواعي والفطرة السليمة) آمل أن تفتونا في ذلك على وجه السرعة مشكورين؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد...
فيحسن أن نقدم للجواب بمعرفة العقل في اللغة والاصطلاح وبيان مكانته في الإسلام ثم بيان مجاله وحدوده فأما التعريف فهو:
العقل لغة: مصدر عقل يعقل عقلاً، وأصل معنى العقل المنع، يقال: عقل الدواء بطنه أي أمسكه، وعقل البعير: إذا ثنى وظيفه إلى ذراعه وشدهما جميعاً بحبل لمنعه من الهرب.
اصطلاحاً: يقع بالاستعمال على أربعة معاني:
(1) الغريزة المدركة.
(2) العلوم الضرورية.
(3) العلوم النظرية.
(4) العمل بمقتضى العلم.
منـزلة العقل في الإسلام:
الإسلام جعل للعقل مكانة كبيرة في مجال التدبر والتفكر ومجال الاستنباط وعمران الأرض ووردت والآيات القرآنية بذلك بوجوه مختلفة ومنها:
1- خص الله أصحاب العقول بالمعرفة التامة لمقاصد العبادة: {واتقون يا أولي الألباب} [البقرة: 197].
2- قصر الله الانتفاع بالذكر والموعظة على أصحاب العقول: {قد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [يوسف:111]، {ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعلمون} [العنكبوت: 35].
3- كرم الله العقل وجعله مناط التكليف عَن عَلِيٍّ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (رُفِعَ القَلَمُ عَن ثَلَاثَةٍ,: عَن النَّائِمِ حَتَّى يَستَيقِظَ وَعَن الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ وَعَن المَعتُوهِ حَتَّى يَعقِل).
4- ذم الله المقلدين لآبائهم، وذلك حين ألغوا عقولهم وتنكروا لأحكامها:{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا، أولو كان آبائهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} [البقرة:170].
5- حرم الإسلام الاعتداء على العقل فحرم المسكر والمفتر، {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}[المائدة:90]، وعن أم سلمة قالت: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر ومفتر) رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني.
6- شدد الإسلام في النهي عن تعاطي ما تنكره العقول، وتنفر منه كالتطير والتشاؤم والاعتماد على الكهنة والعرافين والمنجمين، وكذلك النهي عن الرمل والودع والخرافات والأوهام بكل صورها وأشكالها.
* وقد اعتمد الإسلام في الوصول إلى المعرفة على طريقين اثنين:
(1) طريق الوحي: وهو الخبر الصادق عن الله الذي بلغنا عن طريق النبوة والأنبياء.
(2) طريق التجربة التي تجمع بين الحس والعقل، وهنا تظهر وسطية الإسلام في الجمع بين النقل والعقل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية يصور مذهب أهل السنة والجماعة: \"العقل شرط في معرفة العلوم وكمال وصلاح الأعمال وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلاً بذلك لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين فان اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإذا انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أموراً حيوانية قد يكون فيها محبة ووجد وذوق كما يحصل للبهيمة فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة والأقوال المخالفة بالعقل باطلة\"مجموع الفتاوى (3/338).
وليس للعقل دور في كل العلوم على سواء فالعلوم ثلاثة أقسام:
(1) العلوم الضرورية:
وهي التي لا يمكن التشكيك فيها إذ أنها تلزم جميع العقلاء ولا تنفك عنهم كعلم الإنسان بوجوده وأن اثنين أكثر من الواحد وكسماء فوقنا والأرض تحتنا إلى غير ذلك مما يسمى بقوانين العقل الضرورية.
(2) العلوم النظرية:
وهي التي تكتسب بالنظر والاستدلال وهذا النظر لابد في تحصيله من علم ضروري يستند إليه، حتى يعرف وجه الصواب فيه ويدخل في هذا القسم كثير من العلوم كالطبيعيات والطب والصناعات، فهذه العقل له مجال رحب في معرفتها وإدراكها والتوسع فيها.
(3) العلوم الغيبية:
وهذه لا تعلم بواسطة العقل المجرد وحده، بل لابد للعقل إذا أراد أن يعلمها أن يكون له طريق آخر للعلم به كعلمه بما يكون في البلد القاصي عنه وعلمه بما في اليوم الآخر من بعث وحساب وجزاء وهذا لا يعلم إلا عن طريق الخبر ويدخل في هذا القسم كثير من مسائل الاعتقاد لا سيما التفصيلية منها، فهذه لا يستقل العقل بمعرفتها بل لابد من اعتماده على الوحي. انظر [الاعتصام للشاطبي [2/318-322].
هذا الموقف الوسط بخلاف ما عليه أصحاب الفرق الضالة فمنهم من اعتمد على العقل وأعرض عن الوحي بالكلية كالفلاسفة، أو أسقط حكم الوحي عند التعارض المفترض كما هو حال أكثر المتكلمين، ومنهم من جعل الحق والصواب فيما تشرق به نفسه وتفيض به روحه وإن خالف هذا أحكام العقل الصريحة أو نصوص الوحي الصحيحة كما هو حال بعض المتصوفة. انظر [منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد: 169].
ولمعرفة حقيقة مجال العقل ومحدوديته فإنني أقول: إن الحواس كلها لها طاقة محدودة مقدرة معينة لا تستطيع تجاوزها فكل حاسة تتجاوز مجال قدرتها لا تصل إلى المراد ويلحقها الضرر، فعلى سبيل المثال العين تبصر وترى الأشياء لكنها رغم سلامتها لا تستطيع أن ترى الميكروبات الدقيقة رغم أنها موجودة، ولا تستطيع الأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية وهكذا، فإنها لها مجال وقدرة محددة، وإذا أرادت أن تخرج عن هذا أصابها الضرر ولم تحقق المقصود، فلو أن إنساناً أصرّ على أن يعرف حقيقة الشمس بعينه وحدّق فيها في وقت الظهيرة فإنه لن يصل إلى مبتغاه وسوف يضر عينه، وهكذا بقية الحواس كالأذن وغيرها.
والعقل كذلك له طاقة وقدرة محددة ولا يستطيع أن يخضع كل المعارف وحقائق، ها لقدرتهº فإن الناس يؤمنون ويسلمون بأمور لا تدركها حواسهم ولا تحيط بها عقولهم، فعلى سبيل المثال الجاذبية الأرضية تقبلها العقول وإن كانت لا تستطيع معرفة حقيقتها، والكهرباء عبارة عن انتقال الإلكترونات من القطب السالب للموجب لكن تعجز العقول عن معرفة كنه ذلك، وكذلك العقل يرى السراب وتعطيه الحواس أن ما تراه ماء ولكنه من واقع التجربة ينكر دلالة الحواس ومثل ذلك القلم إذا وضع في الماء بدا منكسراً ومتعرجاً وهو ليس كذلك.
ومن هناº فإن العقل له دائرة لا يستطيع أن يخضعها لمجال عمله ومن ذلك أمور الغيب، ويمكننا أن نقول أن ما دخل في دائرة الغيب خرج من دائرة العقل،فعلى سبيل المثال الميت إذا وضع في قبره ردت إليه روحه وجاءه الملكان فيجلسانه ويسألانه كما هو معروف في نص الحديث الصحيح، فكيف هي عودة الروح؟، ولماذا لا يصيح الميت ويطلب الخروج؟ وكيف يفسح له في قبره مدّ بصره إذا كان من أهل النعيم؟ كل ذلك لا يمكن تفسيره ومعرفته بالعقل، فالعقل مجال عمله دائرة الشهادة وأما الغيب فلا، ومثل ذلك يمكن أن يقال في مثال أقرب وهو مثال الرؤى التي يراها النائم، وكيف نستطيع أن نفسر أن النائم إذا رأى في المنام أنه يجري استيقظ وهو يلهث؟ ما صلة الرؤية بعالم الشهادة؟، وإذاً المطلوب في أمور الغيب مادامت جاءت من طريق الوحي أن يقبلها العقل ويسلم بها ولا يخوض في معرفة كنهها، ولو فعل ذلك لما وصل إلى نتيجة ولأضر ذلك بعقله، كما قلنا بشأن العين عندما تحدق في الشمس، وهذا الذي للفلاسفة وغيرهم ممن أرادوا أن يعرفوا بعقولهم ما وراء عالم الشهادة.
وفي ضوء هذا نفهم قوله - سبحانه وتعالى -: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يتذكر إلا أولوا الألباب} وعلى هذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم، وقفوا بعقولهم عند حدها ولم يخوضوا بها في ميادين الغيب الفسيحة، حيث لم يدخلوا في التفكير في ذات الله، ولا في كنه وكيفية صفاته، وزجروا عن ذلك ومنعوا منه فسلموا من الشكوك والشبهات واطمأنت قلوبهم بالإيمان واليقين.
سئل الإمام ابن خزيمة عن الكلام في الأسماء والصفات، فقال: ولم يكن أئمة المسلمين وأرباب المذاهب أئمة الدين، مثل مالك وسفيان والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق ويحيى بن يحيى وابن المبارك وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف يتكلمون في ذلك وينهون أصحابهم عن الخوض فيه،ويدلونهم على الكتاب والسنة.
وسمع الإمام أحمد شخصاً يروي حديث النـزول، ويقول: ينـزل بغير حركة ولا انتقال، ولا تغير حال، فأنكر أحمد ذلك وقال: قل كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو أغير على ربه منك.
وقال الأوزاعي لما سئل عن حديث النـزول: يفعل الله ما يشاء.
وقال الفضيل بن عياض: إذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء.[أقاويل الثقات ص62،63].
وقال صاحب الطحاوية: \"فإنه ما سلم في دينه إلا من سلّم لله - عز وجل - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ورد علم مشتبه عليه إلى عالمه\"قال الشارح أي:\"سلّم لنصوص الكتاب والسنة، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة.... فالواجب كمال التسليم للرسول - صلى الله عليه وسلم - والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولاً، أو نحمله شبهة أو شكاً، أو نقدم آراء الرجال وزبالة أذهانهم، فنوحد بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما نوحد المرسِل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل\".
وقال الطحاوي: \"ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام\"، قال الشارح: \"أي لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها، ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه\".
روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري - رحمه الله -أنه قال: \"من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ،وعلينا التسليم\" وهذا كلام جامع نافع\" [شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص216-217-219].
والذين يقولون بتحكيم العقل نحاجهم بالعقل نفسه فنقول: إن العقول تقر وتسلم بأن بينها تفاوتاً واختلافاً، في قوتها وقدرتها، فأي عقل هو الذي سيكون المرجع الذي يحتكم إليه عند معارضته للنص؟، ولماذا يسلم لعقل إنسان من البشر؟، ثم إن العقل نفسه يغير في نظره وحكمه بحسب ما يجدّ له من معرفة أو ما يتوصل إليه بعد المراجعة والتأمل، ومعنى ذلك أننا سنأخذ اليوم قولاً وربما في الغد يأتينا العقل بقول آخر، وهناك أيضاً من خلال تفاوت العقول ستكون لدينا آراء وأقوال كثيرة وهذا بفضي إلى الاضطراب والحيرة ثم أحياناً يكون بين آراء تلك العقول متناقضات لا يمكن الجمع بينها، والتجربة تشهد أن الذين خاضوا في تحكيم العقل وتحكّمه في النص ضلوا وبعض منهم رجعوا وأقروا بخطأ هذا المنهج ولزوم التسليم للشرع المعصوم.
وأخيراًº فإنه لابد من اليقين بأن ما جاء به الشرع المعصوم هو الكمال المطلق الذي تتحقق به المصالح وتندفع به المفاسد ويتفق مع الفطر السليمة والعقول الرشيدة، وأنه يحق لنا أن نحمد الله - عز وجل - على نعمة الدين والعقل معاً إذا كان عقلنا على منهج الصواب في ديننا، فكل ما حرمه الإسلام شهدت العقول بمضرته وتقدم العلوم يكشف المزيد لكل ذي عقل حصيف، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى ومنها تحريم الخمر ولحم الخنـزير والربا والسفور والاختلاط، ولا بد أن نسلم ونقتنع بعقولنا أن مخالفة الشرع تحصل به المفاسد وتتكدر بها الحياة كما قال - تعالى -:{ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكاً}.
ومن نعمة الله على أهل الإسلام أنه كفاهم أمر الغيب فأنزل عليهم القرآن وتكفل بحفظه وأرسل إليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحفظ سنته فكفاهم أمر الغيب والدين والعبادة حتى لا ترهق عقولهم بالبحث فيما لا تستطيع وحتى تفرغ عقولهم للتفكير في شؤون دنياهم واستخراج خيرات الأرض، قال سيد قطب - رحمه الله -: \"وما من دين احتفل بالإدراك البشري وإيقاظه وتقويم منهجه في النظر واستجاشته للعمل وإطلاقه من قيود الوهم والخرافة وتحريره من قيود الكهانة والأسرار المحظورة، وصيانته في الوقت ذاته من التبدد في غير مجاله، ومن الخبط في التيه بلا دليل، ما من دين فعل ذلك كما فعله الإسلام\"، وقال أيضاً: \"إن التصور الإسلامي يدع للعقل البشري وللعلم البشري ميدانه واسعاً كاملاً فيما وراء أصل التصور ومقوماته ولا يقف دون العقل يصده عن البحث في الكون، بل يدعوه إلى هذا البحث ويدفعه دفعاً\". [خصائص التصور إسلامي ص 49، 71].
ومن لطائف ما ذكره الغزالي المتأخر - رحمه الله - أنه ذكر أن الله كفى المسلمين أمر الدين وأمرهم فيه بالإتباع، وفتح لهم أمر الدنيا وأمرهم فيها بالابتداع، لكن بعض المسلمين مضوا في الدين بالابتداع والاختراع، وفي شأن الدنيا اكتفوا بالإتباع لأمم الشرق والغرب دون تطور وإبداع واختراع.
ولذا ينبغي البعد عن خوض العقول في هذه المتاهات الغيبية، بل ينبغي الترفع عن إشغال العقول في المسائل الجدلية التي لا طائل من ورائها، قال البنا - رحمه الله -: \"وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعاً ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع\"، [رسائل الإمام حسن البنا ص9].
قال ابن حجر في هذا السياق: \"ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع وهي نادرة الوقوع جداً، فيصرف فيها زماناً كان صرفه في غيرها أولى... وأشد من ذلك في كثرة السؤال البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها... وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة\"[فتح الباري 13/267].
والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد